مَعَارِجُ الدُّعَاءِ فِي زَمَنِ البَلَاء [مُتضمنة قرار حصر الحج للمصلحة]

                                                                                                مَعَارِجُ الدُّعَاءِ فِي زَمَنِ البَلَاء [مُتضمنة قرار حصر الحج للمصلحة]
                                                                       1441/11/5هـ
الخطبة الأولى:
     إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾، أَمَّا بَعْد:
أيُّهَا الإخوة في الله:
     هناكَ عندَ مسجدِ رسولِ اللهِ ﷺ  توجهتْ إليه عندَ بيتِه، قبلَ ذهابِه لدرسِه، وذلكَ حينَ عظمتْ بليتُها، واشتدَّ كربُها، وضاقتْ نفسُها، فوقفتْ ونادتْ بصوتٍ حزين: يَا أبا يحيى! ادعُ اللهَ لي! رآهَا هذا الإمام مكسورةً حزينةً فقالَ لها بكلِّ عطفٍ ورحمة: إذَا كنتُ في الدرسِ فقومي منْ بعيدٍ حيثُ أراكِ قائمة..
    ففعلتْ مَا قالَ لهَا، ثمَّ قالَ لتلاميذِه: إنَّ هذه المرأةَ قدِ ابتليتْ بمَا ترون، وقدْ فَزِعَتْ إلينَا فلندعُ اللهَ لهَا، فرفعَ القومُ أيديهِم، فقالَ الإمامُ مالك: يَا ذَا الْمَنِّ الْقَدِيمِ، يَا عَظِيم! لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ! عَافِهَا وَفَرِّجْ عَنْهَا فأمنُوا جميعًا على الدعاء، وقلوبُهم معلقةٌ بربِّ السماء.
    قالَ الراوي: فكشفَ اللهُ عنهَا بعدَ مدة، وفرجَ عنهَا وعُوفِيت فكانتْ تمشِي تحدِّثُ النساءَ بنعمةِ اللهِ عليهَا بهذا الفرجِ بعدَ البلاء.
أيهَا الفضلاء:
     الدعاءُ عدوُّ البلاء، وسلاحُ الخفاء، ونورٌ في السماء، جاءَ في بعضِ الآثار: «الدُّعَاءُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ، وَعِمَادُ الدِّينِ، وَنُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ».
     بالدعاءِ فتحتْ أبوابُ السماء، وتغيرَ الكون، ونُصِرَ المغلوب، ووقفَ التاريخُ شاهدًا ومنذرًا: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾.
     إنه سرُّ التحولاتِ الكبرى في التاريخ، ومفتاحُ النصرِ في الماضي والحاضر: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)﴾.
إذَا ضاقتْ عليكَ الدروب، فقلْ يا الله!
إذَا كثرتْ عليكَ الهمومُ فقلْ يا الله!
إذَا زادَ الهمُّ وكثرَ البلاءُ فقلْ: يا الله يا الله!
إذَا كثرتِ الأوبئةُ والأمراضُ وخافَ الناسُ وانتشرَ القلقُ والهمُّ فقلْ: يا الله يا الله!
إذا تحيرتَ في أمرِك، واضطربَ رأيُك، وحارَ عقلُك، فقلْ: يا الله يا الله!
     فدعاءُ اللهِ تعالى هوَ البابُ الأعظمُ لتحقيقِ حاجاتِك، ونيلِ مطالبِك، وكشفِ كروباتِك، وهذه الأمورُ لا يقدرُ عليهَا إلا الفتاحُ العليم، والعزيزُ الحكيم، وهوَ الذي لَا تنفدُ خزائنُه، ولا تنقصُ فضائلُه، ولا تضيعُ ودائعُه.
     أخرج الإمام مسلمٌ في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه في الحديث القدسي أن الله تعالى قال: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ».
     الله أكبرُ مَا أعظمَ فضلَ الله، وما أجملَ عطاءَ الله، ومَا خابَ منْ رفعَ يديهِ لله، وبثَّ شكواه إلى الله..
     وإياكَ إياكَ يا عبدَالله أن تستطيلَ زمانَ البلاء، وتضجرَ منْ كثرةِ الدعاء؛ ولا تيأسْ وإنْ طالَ البلاء، وعليكَ بالتوكلِ والرجاء:
لبستُ ثوبَ الرَّجا والنّاسُ قد رقدُوا!***وبتُّ أشكو إلى مولايَ ما أجدُ!
وقلتُ: يا أملي في كلِّ نائبةٍ!***ومَنْ عليه لكشفِ الضُرِّ أَعتمدُ!
أشكو إليكَ أمورًا أنتَ تعلمُها!***ما لي على حِمْلها صبرٌ ولا جلدُ!
وقد مددتُ يدي بالذّلِّ مبتهلاً!***إليكَ يا خيرَ من مُدّتْ إليه يدُ!
فلا تَرُدَّنَّها يا ربِّ خائبةً!***فبحرُ جودِك يروي كلَّ من يَرِدُ!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)﴾.
 الخطبة الثانية:
عباد الله:
     إنَّ لقبولِ الدعاءِ أسباباً بينَها لنا الخبيرُ العليم، والربُّ الكريم؛ لنظفرَ بحوائجِنا، وننالَ مسائِلَنا، وننجُو منْ بلائِنا ومحنِنا..
    فمنْ أسبابِ إجابةِ الدعاء: عدمُ تعجلِ الإجابة، وبالغفلةِ عنه ولجَ الشيطانُ على كثيرٍ منَ الناس فزهدَهم في الدعاء، يقول نبينا ﷺ : «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» رواه البخاري.
     ومن أسبابِ الإجابة: الإلحاحُ في الدعاء: قالَ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ: (مَا وَجَدْتُ لِلْمُؤْمِنِ مَثَلًا إِلَّا رَجُلًا فِي الْبَحْرِ عَلَى خَشَبَةٍ فَهُوَ يَدْعُو يَا رَبُّ يَا رَبُّ لَعَلَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ).
     ومن أسبابِ إجابةِ الدعاء: اليقينُ بالإجابة: روى الترمذيُّ عنْ أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» [وحسنه الألباني].
    ومنْ أسبابِ إجابةِ الدعاء: التضرعُ والاستكانةُ في الدعاء، قالَ تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ فرُوحُ الدعاءِ هوَ التذللُ والانكسار، والإلحاحُ والاستمرار.
   ومن أسبابِ الإجابة: تطييبُ المطعم لأنَّ اللهَ طيبٌ لا يقبلُ إلا طيبًا: «ثمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ، يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ».
    وبعدُ يا عبدَالله فصحح توبتَك، وأخلصْ في دعائِك، فإذَا وقعتَ في محنةٍ وبلاء؛ فليسَ لكَ إلا الدعاء، واللَّجَأ إلى ربِّ الأرضِ والسماء، متدثرًا بالتوبةِ والنقاء، فإذَا تُبتَ ودعوت ولمْ ترَ للإجابةِ أثرًا فتفقدْ أمرَك، فربمَا كانتِ التوبةُ مدخولة! وتذكرْ أنَّ مجردَ الدعاءِ عبادةٌ وإيمان، ويقينٌ وقربان، وأنَّ الإعراضَ عنْه استكبارٌ وحرمان، ولقدْ قالَ اللهُ في محكمِ تنزيلِه، وهوَ الصادقُ في قيلِه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)﴾.
     وفي موضوعٍ آخر يا عبادَ اللهِ فقدْ صدرتِ التوصيةُ منَ الجهاتِ المختصةِ باقتصارِ حجِّ هذا العامِ على أعدادٍ محدودةٍ جدًا، وذلكَ حفاظًا على أرواحِ الحجاج، وحمايةً للمسلمين منَ الإصابةِ بهذا الوباءِ المنتشر، وأخذًا بالأسبابِ الشرعية، والمصالحِ الكلية، التي جاءتْ بهَا الشريعةُ الإسلامية، منَ الحفاظِ على الأرواحِ والأوطان، وحياةِ الإنسان؛ وهيَ توصيةٌ مقاصديةٌ مهمةٌ يُحتمُها الواقعُ والظروف، وتمليها المسؤوليةُ العظيمةُ لبلادِ الحرمينِ الشريفين، حفظَ اللهُ بلادَنا وبلادَ المسلمين منْ كلِّ سوءٍ ومكروه، وأسبغَ علينَا جميعًا نعمَه ظاهرةً وباطنة، ونسألُه سبحانَه أن يكشفَ الغمةَ عنْ هذهِ الأمة، وأنْ يحفظَ علينَا أمننَا وإيماننَا وصحتَنا واستقرارَنا، وأن يكفيَنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفجار، وشرَّ طوارقِ الليلِ والنهار.
المشاهدات 1982 | التعليقات 0