مضمار الصالحين
شايع بن محمد الغبيشي
مضمار الصالحين
الْحَمْدَ لِلَّهِ رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلينُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد: عباد الله أوصيكم بلزوم تقوى الله حتى نلقاه قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وأَنْتمْ مُسْلِمُونَ)
إخوة الإيمان افتخر النهار على الليل قائلاً: أنا وقت النشاط والعمل والبناء والنماء بل أنا الحياة على الحقيقة في ساعاتي انتصر جند الله على مر العصور فسائل عني طلائع الفتوح وبشائر النصر وبي أقسم الله في كتابه فقال: {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)} ([1]) اغتر النهار بصمت الليل وسكونه فتمادى في الفخر وحقره قائلاً: أما أنت فزمان الكسل والخمول والدعة فأوقاتك تُعمر بالنائمين الخاملين، أنت بيت الذعر والخوف فبك يفرح اللصوص وأرباب الجرائم.
انتفض الليل من سكونه ونطق: أنا زمن السكون والراحة جعلني الله سكناً ولباساً لعباده، أنا مأوى العباد وأرباب الإحسان فلهم معي أحاديث وأسمار، كم فرح بي الأنبياء والأتقياء والصالحون، وكم كان سوادي ستراً لمسرى الأنبياء أحرسهم من أعين الأعداء، أسحاري لذة العارفين وسلوة الخائفين وملاذ المذنبين، أقسم الله بي في القرآن بل سميت بي سورة من سوره، في ثلثي الأخير ينزل الرب جل وعلا.
طأطأ النهار رأسه خجلاً وحياءً واتجه إلى الليل يقبل رأسه ويعترف له بالفضل.
إنه الليل مضمار الصالحين فيه يصفُّ أهل الحب الصادق أقدامهم بين يدي سيدهم جل ذكره، فيه تكون المناجاة الضراعة والابتهال، والمسارة بالعمل، وفيه أزمنة شريفة ففي ليله نزل القرآن وفي كل ليلة منه ينزل الرب إلى السماء الدنيا جل وعز، فتفتح أبواب الرحمات، وتجاب الدعوات، وتقال العثرات
قلت للــيل هل بجوفك ســر عابق بالحديث والأسرار
قال لي : لم ألق في حياتي حديثاً كحديث السمار في الأسحار
الليل فيه يبث المذنبون شكايتهم إلى ربهم يستنزلون رحمته ومغفرته فكم من مذنب كان الليل دليله للتوبة والصلاح وخاصة ليالي رمضان التي تحفها الرحمات
الليل له مع النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه و الصالحين و الأخيار من بعدهم قصص وأخبار يقول عز وجل لرسوله و مصطفاه :{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} فامتثل الحبيب عليه الصلاة والسلام أمر ربه فقام وأطال في القيام ، وبكى وأطال في البكاء يقول الله عنه وعنه صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم: {نَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ([2])
وتصف عائشة رضي الله عنها حال أبيها رضي الله عنه فتقول: (ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن ) رواه البخاري
وعن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يصلي ما شاء الله حتى إذا كان آخر الليل يعظ أهله يقول: الصلاة الصلاة ويتلو: { و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها } ) رواه أبو داود
قال الحافظ ابن كثير عن ليل عمر: " كان يصلي بالناس العشاء ثم يدخل بيته، فلا يزال يصلي إلى الفجر "
لقد كان الصالحون يتلذذون بالليل وقدومه فلا تسل عن فرحهم إذا ظفروا به لسان حالهم (حبيب جاء على فاقة ) وقال بعض السلف: إني لأفرح بالليل حين يقبل لما يلّتذ به عيشي وتقر به عيني من مناجاة من أحب وخلوتي بخدمته والتذلل بين يديه. قيل للحسن ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها فقال: "لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره"، وقيل لحسان بن سنان رحمه الله ما تشتهي؟ قال: "ليلة بعيدة الطرفين أحيي ما بين طرفيها". وقال بعض العلماء: لذة المناجاة ليست من الدنيا إنما هي من الجنة أظهرها الله تعالى لأوليائه لا يجدها سواهم. وقال ابن المنكدر رحمه الله: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث قيام الليل ولقاء الإخوان والصلاة في الجماعة.
اللهم ادخلنا برحمتك في عباد الصالحين اللهم اكتبنا في شهر رمضان في أهل الرحمة والمغفرة والرضون واعتق رقابنا من النيران، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا يا حي يا قيوم.
الخطبة الثانية
الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَى نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ واشهد الا إله إلا الله واشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد عباد الله
مسامرة الليل بالذكر والقيام وترتيل القرآن نعمة ولذة ربما حرمنها على مدار العام ومن رحمة الله بنا أن بلّغنا شهر رمضان لنتذوق ذلك النعيم فلا أقل من أن نتشبه بأولئك القوم في شهر رمضان لعل الله أن يلحقنا بهم فدونك ما تبقى من شهر رمضان، دونك وقت السحر وقت النزول الإلهي، دونك العشر الأواخر منه فإنه مضمار للربح فلا تضيع الفرصة فقد كان صلى الله عليه وسلم يحييها بأنواع العبادات عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله وجدَّ وشدَّ المئزر ) رواه البخاري ومسلم.
قال ابن حجر رحمه الله: "قولها: أحيا الليل أي سهره فأحياه بالطاعة، وقولها: وأيقظ أهله: أي للصلاة بالليل، وقوله: وشد مئزره أي اعتزل النساء ليتفرغ للعبادة صلوات الله وسلامه عليه. "
وعنها عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الآخر ما لا يجتهد في غيره" رواه مسلم
فدونكم عباد الله زمان السبق والفوز ففي ليالي العشر تكون ليلة القدر تلك الليلة المباركة التي قال الله في وصفها: { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ([3]) وقال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ([4]) وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى رواه البخاري، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت أن وافقت ليلة القدر ما أقول ؟ قال: قولي:( اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) رواه الإمام أحمد، والترمذي
اللهم اجعلنا من السابقين للخيارات المسارعين للصالحات اللهم تقبل صيامنا وقيامنا ووفقنا لإدراك ليلة القدر بمنك وكرمك. اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا يا حي يا قيوم.
([1]) [الليل: 2]
([2]) [المزمل: 20]
([3]) [القدر: 3]
([4]) [الدخان: 3، 4]
المرفقات
1742345105_مضمار الصالحين.pdf
1742345122_مضمار الصالحين.doc