مضغة!

محمد بن إبراهيم الشمسان
1442/02/14 - 2020/10/01 08:23AM
مُضْغَة!
الحمد لله بين لعباده أسبابَ النجاة ورغبهم فيها، وحذرهم من أسباب الهلاك وزجرهم عنها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به هداه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
أيها المؤمنون: مُضغةٌ صغيرة.. أمرُها عظيم.. وخطرُها كبير!
من احتقر شأنها أو غفلَ عنها أدركه الضعف والعطب.. ومن اهتمَّ لها بلغَ أعلى المنازل والرتب!
فيا سبحان الله.. كيف لمضغة صغيرة أن تكون بالغةَ الشأن والخطر؛ حتى تترتبَ عليها النجاةُ أو الهلاك..
أتدري -أيها الحبيب- ما هي هذه المضغة؟.. إنها التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) متفق عليه.
تأمل -أيها الحبيب- في شأن هذه المضغة، فصلاحها صلاح للجسد، وفسادها فساد للجسد؛ فهي الأصلُ وغيرها فرع.. فهل يصح عقلاً أن يجعل الأصلُ فرعا والفرعُ أصلا؟.. إن ذلك حين يحصل فهو مؤذن بخطر كبير، وفساد عريض.
إن هذه الإشارةَ النبوية تنبيهٌ إلى وجوب العناية بهذا القلب غاية العناية؛ فالقضية ليست أمراً تكميليا، أو جماليا، بل هي مسألةُ صلاح وفساد.. ونجاة وهلاك.
ولذا جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تبين منزلةَ القلب وخطورةَ فساده.
يقول الله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}، ويقول: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
وجاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) أخرجه مسلم، وكان أكثر دُعائه صلى الله عليه وسلم: (يا مُقلِّب القُلوب، ثبِّت قَلبِي على دِينِك) أخرجه الترمذي.
إن القلبَ -عباد الله- هو سيدُ الأعضاء، وهي خَدَم بين يديه، تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه.. فإذا أحبَّ القلبُ شيئا فالأعضاء تبعٌ لمحبة القلب.. فإنما يستجيب السمع والبصر لما يتحركُ في القلب، ويتعلقُ به، ويهواه.
ولذا فإن من العقل والنباهة أن تتجه عنايتُنا إلى قلوبنا قبل كل شيء إصلاحا وتزكية وتطهيرا.. فما نغرسه في القلب سنجني ثمرته في سائر الجوارح..
إن من المهم -عباد الله- أن نغلق أولا كلَّ باب يفتح على القلب أبوابَ الشر والفساد، من صورٍ محرمة، ومقاطعَ خادشة، ومقالاتٍ فاسدة، ومواقعَ مشبوهة، وحساباتٍ مغرضة، ومجالسَ لغو وباطل، ثم نجتهدَ في ملئه بالمعاني الربانية، والمواعظِ القرآنية، مرةً بعد أخرى، حتى تتمكن هذه المعاني فيه..
إن من رحمة الله بنا أن شرع لنا هذه الصلوات الخمس، وما ندبنا إليه من وظائفَ في الليل والنهار؛ حتى يتزود القلبُ بكل معنىً إيماني يُرَقِّيه ويُعْلِيه، ويتطهرَ من كل درَن يُرديه ويُغويه.
إنَّ القلبَ حين يصلح فإنه يكون قريبا من الله، يَخشَع إذا سمع آياتِ القرآن تُتلَى، ويوجل حين يُذَكّر بالله {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا}.
إنَّ تلاوةَ القرآن واستماعَه من أعظم أسباب صلاح القلوب ورقَّتها؛ قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾.
ومن أعظم ما يصلح القلوب التقرُّب إلى الله بنَوافِل الأعمال، وكثْرةُ ذِكر الله، والإلحاحُ على الله بالدُّعاء، وزِيارَةُ المرضى، والعَطفُ على المساكينِ والأيتامِ والضُّعفاء، ومُجالَسةُ أهْل العِلم والإيمان.
ومن أعظم ما يُلين القلوب ويصلحها ذِكرُ الموت، وشُهُودُ الجنائز، وزِيارة القُبُور؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (أكثِرُوا ذِكرَ هادم اللذَّات)، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (كنتُ نهيتُكم عن زِيارة القبور فزُورُوها؛ فإنها تُذكِّركم الآخِرة).
أيها المؤمنون: ما أعظم حاجتنا إلى سلامة القلب وطهارته في زمنٍ عمَّ فيه التَّنافُس على أمور الدنيا، حتَّى حلَّت الضَّغائن، وساءت العلاقات، وظهر التهاجُر والتَّدابُر!
إن التديُّنَ الصادق يبدأ حين يبدأ من إصلاح الباطن واستقامةِ القلب وسلامتِه؛ لأنَّ القلبَ إذا استقام استقامتِ الجوارح، فلا لغْوَ يُرْسِلُه اللِّسان، ولا خيانةَ تقترفها العين، ولا إثمَ تتحسَّسه الأذن.
إنَّ إصلاحَ الظاهر، بالاستمساك بالسنن والقيامِ بالواجبات، وإغفالَ الباطن وإهمالَه - هو في الحقيقة تديُّن منقُوص.
إنَّ خطايا القلوب آثامٌ موجِعة، ينبغي أن نحترز منها أشدَّ مِن احترازنا من معاصي الجوارح؛ فهي أشدُّ فتكًا وأعظم أثرًا، خطايا القلوب لا يستشعر كثيرٌ من الناس أنها تأكُل الحسنات كما تأكل النَّارُ الحطب.
يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (دبَّ إليْكم داءُ الأُمم قبلَكم: الحسَدُ والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشَّعْر، ولكن تَحْلِقُ الدِّين) أخرجه الترمذي.
ويقول - عليه الصَّلاة والسَّلام -: (لا يدخل الجنَّة مَن كان في قلْبِه مثقالُ ذرَّة من كِبْر) متَّفق عليه.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
 
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعده:
فيا أيها المؤمنون: ولا يزال العبد في مجاهدة مع قلبه، وما يجلبه له الشيطان من المفسدات والمكدرات، فقد أقسم الشيطان بين يدي الله على إغواء بني آدم {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين}، فكن يا عبد الله على حذرٍ أن تتركَ قلبك للشيطان يجلبُ له ما يشاء من خواطرَ وصورٍ وأصواتٍ باطلة، حتى لا يتحركَ إلا بها، ولا يفكرَ إلا بها، ولا ينامَ ولا يستيقظَ إلا عليها.
إن إدراكَ الخطورة البالغة للغفلة عن القلب يجعلُ العبد في رجوع دائم نحو قلبه ينظفه ويطهره من المكدرات، ويعمره بمعان الإيمان ومواعظ القرآن.
إن إدراكَ هذا المعنى العظيم يجعل المربي أبا كان أو أخا أو معلما يصرف طاقته وجهده إلى الأصل الذي تنبغي العناية به أكثرَ من غيره وهو القلب فهو يعتني بكل ما ينمي مراقبةَ الله ومحبتَه والتعلقَ به في قلب من تحت يديه.
إننا نخسر كثيرا حين نُعلِّقهم برؤيتنا! أو رؤية الناس! أو ماذا سيقول عنا المجتمع؟ ونغفل عن القول لهم: كيف سنقابل ربنا إذا قصرنا في عبادته؟ أو ارتكبنا ما حرم علينا؟ ..
لِنُشعِر من تحت أيدينا أنهم حين يقصرون في حق الله فذاك أعظم وأخطر من تقصيرهم في حقنا.. لِيروا منا وليسمعوا أننا حين نحثهم ونحدثهم فنحن نعلقهم بمحبة الله ومراقبته وخوفه ورجائه..
إن العبد لا يزال في تعاهد لقلبه حتى يلقى الله وهو يجاهد في إصلاح قلبه واستقامته على طاعة الله.. {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين}.
اللهم أصلح قلوبنا وطهرها من النفاق والرياء والغل والحسد.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
اللَّهُمَّ ادفع عَنَّا الغَلَاء َوَالوَبَاءَ، وَالرِّبَا وَالزِّنَا، وَالزَّلَازِلَ وَالمِحَنَ، وَسُوءَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واهد ضالنا، واقض ديوننا، وارحم مواتنا.
اللهم أصلح ولاة أمرنا، واحم حدودنا، واحفظ جنودنا المرابطين، وانصر مجاهدينا، وعجل اللهم فرج إخواننا المستضعفين والمنكوبين في كل مكان يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
المشاهدات 663 | التعليقات 0