((مصيبة حلب)) محنةٌ في طيًّاتِها منح. 17/3/1438
أحمد بن ناصر الطيار
1438/03/16 - 2016/12/15 18:33PM
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، سبحانه مدبرُ الأمور ومقدرُ الأقدار، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}.
وأشهد ألا إله إلا الله الواحد القهار, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار, وعلى آله وأصحابه الأئمةِ الأخيار, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله يا أمة الإسلام, واعلموا أنّ الله تعالى قضى بأنّ الإنسان يعيش في الدنيا في نكد, بل أقسم تعالى بذلك فقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}, أي: خلقناه يُكابد الأمور ويُعالجها، فحياته كلُّها أو جلُّها فِي كَبَدٍ, أي: في شدّة وتعيب.
فمن أراد أنْ تصفو حياتُه عن سماع الأخبار المحزنة, ومُواجهة الصعاب والمتاعب, فقد رام أمرًا لا يكون إلا في الجنة, التي لا يسمع المؤمن فيها لاغية.
أيها المؤمنون: هكذا خلق الله هذه الدنيا، وهذه إرادتُه في الحياة: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك: 2]، فهذه هي إرادةُ الله في خلقه، وحكمتُه في إنشائه، أن خلق هذه الدنيا لاختبار هذا الإنسان.
فالابتلاء سُنّة من سنن الله جاريةٌ منذ فجر التاريخ، وقد يكون صعبًا على النفوس، ثقيلا على القلوب، مؤلماً للأرواح, لكن يرفع الله به درجة الأنبياء، ويمحو به خطايا الصالحين.
سُئل الإمامُ الشافعي رحمه الله: أيما أفضلُ للرجل: أنْ يُمَكَّن أو يُبتلى؟ فقال رحمه الله: لا يُمَكَّن حتى يُبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم، فلا يظنُّ أحد أنه يَخلُص من الألم البتة .
واعلموا أنّ المصائبَ في ظاهرها متاعبُ, وفي باطنها نفائسُ ومكاسب.
في ظاهرها محنٌ وآلام, وفي باطنِ كثيرٍ منها منَحٌ وآمال.
فلولا مُصَابُ بني إسرائيل بإجرامِ فرعون لَمَا كان موسى مُخلَّدًا في التاريخ والقرآن, ولولا مصيبةُ يوسفَ بإخوتِه وبامرأةِ العزيز لَمَا رُفع شأنُه, وخُلّد ذكرُه, وانتفعتْ به أمَّتُه.
ولولا مصيبة المسلمين باستباحة الأقصى واحتلالِه مِن قِبَل الصليبيين, لَمَا كان صلاح الدين, ولَمَا عرفه التاريخ, ولَمَا شاهدنا بطولاتِ الأبطال, وثباتِ الرجال, ولما كانت معركة حطين الخالدة.
ولولا مصيبة المسلمين بالتَّتَار, الذين فَعَلُوا الجرائم البشعةَ في مختلف الديار والأقطار, حيث نبهوا الْبِلَادَ كُلَّهَا من الشَّامِ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى غَزَّةَ، وَقَدْ عزموا على الدخول إلى مصر, فلولا مصيبة المسلمين بجرائمهم لَمَا كانت عينُ جالوت, على يدِ الملكِ المظفرِ قطزِ.
ولولا المصائب التي تصيبنا من همٍّ وغمٍّ وألم, لَوَرَدْنا يوم القيامةِ مفاليس.
ولولا المصائب لَمَا استيقظت ضمائر المسلمين الغافلة, التي لا تُوقظها إلا المصائبُ القاسية, والآلامُ الْمُرَّة.
ولولا المصائبُ لَمَا قام سوق الجهاد, ولَمَا خلّد التاريخ سير الأبطال في ميادين الجلاد.
لولا المصائب لَمَا ظهر كذب المنافقين, الذي دأبوا على مدى قرن وهم يمجدون الغرب المتحضر بزعمهم.
فلَقَدْ ضَخَّ الْإِعْلَامُ الْعَلْمَانِيُّ طِيلَةَ قَرْنٍ مَضَى, أَنَّ الرُّجُوعَ لِلدِّينِ سَبَبٌ لِلتَّخَلُّفِ، وَأَنَّ اللَّحَاقَ بِالرَّكْبِ الْحَضَارِيِّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَرْكِ الدِّينِ وَالْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْعَدَاءَ فِي الدِّينِ خُرَافَةٌ ورجعيَّة، ثُمَّ هَاهُمْ يَرَوْنَ الْكُفَّارَ بجميع أصنافهم يَتَكَالَبُونَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ لِإِبَادَتِهِمْ, ويتخلون عن إنسايتهمُ التي تبجحوا بها على مدى قرن من الزمن.
وَالنَّاسُ إِذَا لَمْ يَفْهَمُوا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَعْدَائِهِمْ, أَرَاهُمُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهَا وَاقِعًا عَلَى أَرْضِهِمْ؛ لِتَحْيَى قُلُوبُهُمْ، وَيُرَاجِعُوا دِينَهُمْ، وَيَصْدُرُوا عَنْ قُرْآنِهِمْ.
ولولا المصائب بأهل البدع والزنادقة, لما نتج عن ذلك الكثير من كتب أهل الإسلام المفيدة النافعة, ومن أنفعها وأهمها: كتبُ شيخِ الإسلام رحمه الله, فأكثرها كانت ردودًا على المبتدعة.
فمن الذي يجزع من المصائب وهذه بركاتها وآثارُها, فالمصائب ليست شرًّا محضًا, قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
وهل هناك مصيبةٌ أعظم علينا من مصيبةِ انتهاك عرض نبينا؟
ومع ذلك فليست هذه المصيبةُ شَرًّا بل خيرًا, فهل تكون المصائب بعدها وهي أهون منها شرًّا؟
لا والله, بل خيرُها أعظمُ من شرِّها, ونفعُها أكثرُ من ضررها.
والأمة التي لا تُصاب بمصائبَ وكوارثَ لا تَنْمُوا ولا تصحوا, بل تظلُّ على ما هي عليه, حتى تأتيَها مصيبةٌ تُوقظها من رقدتها, وتُفيقها من سكرتها, وتنقلُها إلى الصدارة والريادة.
ونحن على يقينٍ بأنَّ المصائب ليست شرًّا محضًا, بل فيها من الخيرات والبركات على الأمة بأكملها.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الصبر على المصائب, وأنْ يمنحنا ما فيها من النعم والمكاسب, إنه سميعٌ قريبٌ مجيب.
الحمد لله ذي الإفضال والإنعام، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والأئمة الأعلام.
أما بعد: إخوة الإيمان: إنّ فاجعة المسلمين بما يحل اليوم في حلبَ الجريحة, لهي أعظمُ دليلٍ على زيفِ ادعاءاتِ الغربِ وأذنابِهمُ العلمانيين, الذين لا يشك عاقلٌ أنهم تواطؤوا وسمحوا بهذه المذابح الرهيبة.
ولكنَّ خلفَ هذه المصيبةِ المحزنةِ ألفُ نعمةٍ ومنحةٍ, فالواجب أنْ نبحث عنها ونستثمرها لمصلحتنا, ولن ينفعَنَا النحيب والعويل.
والاستغراقُ في الألم والحزن على المصائب, يُنسينا البحثَ عن المنح التي استودعها الله فيها, فتكونُ المصيبةُ الحقيقيةُ ليستْ في نفس المصيبة, بل في عدم استثمارِها واستغلالِها وأخذِ العبر منها.
ومن أعظم المنح التي نجنيها من هذه المصيبة غيرِ ما تقدّم:
أولا: الأجرُ العظيمُ على ألَمِنا على مصابِ إخواننا.
ثانيًا: رسوخُ عقيدة الولاء للمسلمين في قلوبنا, والعَدَاء للكافرين والمنافقين, وهذه العقيدةُ قد أُريد لها أن تتلاشى وتزول, وعَمِلَ المنافقون على مدى سنوات مَضَتْ على محوها من كتبِ وصدورِ الأطفال والشباب, ولكنْ أبى الله تعالى إلا أنْ يُحييها في قلوبنا من جديد, فهي عقيدةٌ لا يصح إيمان المسلم بدونها, قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
فيجب على كلِّ مسلم أنْ يُحِبَّ المسلمين وينتميَ إليهم, ويفرحَ لفرحهم ويتألّمَ لمصابهم.
وأن يكره الكفار كلَّهم, من الرافضةِ والنصارى المشركين وغيرِهم.
ثالثًا: أنّ هذه المصيبة جاءت بعد أنْ تكبد الأعداءُ خسائر لا تُحصى, في الأرواح والعتاد والمال, ومن أعظم خسائرهم: بغضُ المسلمين لهم, فافترق كثير من المسلمين إلى فريقين: أهلِ السنة والجماعة, والرافضةِ المبتدعة.
فعرف المسلمون حقيقة الرافضة بعد أنْ كان كثيرٌ منهم يُنادي بالتقارب معهم.
رابعًا: تلاحمُ المسلمين وخاصةً المجاهدين بعد طول الفرقة, واسْتعدادُ كثيرٍ من الحكوماتِ المسلمة والأفرادِ لمواجهةِ الأعداء, وقلّةِ اعتمادِهم على الغربِ المنحازِ لكلِّ عدوٍّ لنا, منْ أكرادٍ ورافضةٍ عربٍ وعجم.
وهناك مِنَحٌ لا يسع المجال لذكرها, ومِنَحٌ طوى الله نشرها إلى حين مجيء الوقت المناسب لها.
فسبحان من له الحكمة البالغة.
واعلموا أيها الإخوة: أنَّ علينا نحن واجبًا لا يسقط أبدًا, وهو أنفع وأعظم سلاح, وهو الدعاء الصادق.
وقد وجه مفتي المملكة حفظه الله أئمةَ المساجد بالقنوت في صلاة الفجر, فاقنتوا معاشر الأئمة وفقكم الله, واحذروا أن تخالفوا السنة في القنوت, ومن المخالفات الإطالةُ والمشقةُ على الناس, وعليكم بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -, فقد كان دعاؤُه كلماتٍ يسيرةً كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة.
ويدل على ذلك: حديث أَنَسٍ - رضي الله عنه - لما سئل: هَلْ قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ؟ قَالَ: "نَعَمْ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا". أخرجه مسلم
والذي ثبت في السنة أنه صلى الله عليه وسلم, كان يدخل في الدعاء مباشرة بعد قوله: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، من الركعة الأخيرة، كما في صحيح البخاري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما رفع رأسه من الركعة الثانية من الصبح قال: اللهم أنج الوليد بن الوليد, وسلمة بن هشام, وعياش بن أبي ربيعة, والمستضعفين بمكة، اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف.
هكذا مُباشرةً وباختصار.
اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ, وَرَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ, نَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الْأَعْظَمِ, الَّذِي إِذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ، وَإِذَا سُئِلْتَ بِهِ أَعْطَيْتَ, نَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ, الْأَحَدُ الصَّمَدُ, الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ, وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، نَسْأَلُكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى وَصِفَاتِكَ الْعُلَى, فَرَجًا مِنْ عِنْدِكَ لِإِخْوَانِنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي حَلَبَ, وَفِي سَائِرِ بلادِ الشَّامِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ وبورما, وَفِي كُلِّ بَلَدٍ يُذَلُّ فِيهِ أَهْلُ دِينِكَ.
اللَّهُمَّ فَرِّجْ كَرْبَهُمْ، وَارْحَمْ ضَعْفَهُمْ، وَاجْبُرْ كَسْرَهُمْ، وَتَوَلَّ أَمْرَهُمْ، وَأَدِرْ دَوَائِرَ السُّوءِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ.
اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالْرافضة وَالصَّلِيبِيِّينَ, وَمَنْ عَاوَنَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
لا إِلَه إِلاَّ اللَّه العظِيمُ الحلِيمُ ، لا إِله إِلاَّ اللَّه رَبُّ العَرْشِ العظِيمِ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه رَبُّ السمَواتِ وربُّ الأَرْض ورَبُّ العرشِ الكريمِ.
اللَّهُمَّ ضَعُفَ النَّاصِرُ إِلَّا بِكَ، وَانْقَطَعَ الرَّجَاءُ إِلَّا فِيكَ، وَلَا حَوْلَ لِإِخْوَانِنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ وَلَا قُوَّةَ لَهُمْ إِلَّا بِكَ، اللَّهُمَّ فَثَبِّتْهُمْ، وَاحْقِنْ دِمَاءَهُمْ، وَاحفظْ أَعْرَاضَهُمْ، وَفُكَّ حِصَارَهُمْ، وَاشْفِ جَرْحَاهُمْ، وَخَلِّصِ الْأَسْرَى مِنْهُمْ، وَتَقَبَّلْ قَتْلَاهُمْ فِي الشُّهَدَاءِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَاجْعَلْ مُصَابَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِخْوَانِهِمْ خَيْرًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وأشهد ألا إله إلا الله الواحد القهار, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار, وعلى آله وأصحابه الأئمةِ الأخيار, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله يا أمة الإسلام, واعلموا أنّ الله تعالى قضى بأنّ الإنسان يعيش في الدنيا في نكد, بل أقسم تعالى بذلك فقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}, أي: خلقناه يُكابد الأمور ويُعالجها، فحياته كلُّها أو جلُّها فِي كَبَدٍ, أي: في شدّة وتعيب.
فمن أراد أنْ تصفو حياتُه عن سماع الأخبار المحزنة, ومُواجهة الصعاب والمتاعب, فقد رام أمرًا لا يكون إلا في الجنة, التي لا يسمع المؤمن فيها لاغية.
أيها المؤمنون: هكذا خلق الله هذه الدنيا، وهذه إرادتُه في الحياة: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك: 2]، فهذه هي إرادةُ الله في خلقه، وحكمتُه في إنشائه، أن خلق هذه الدنيا لاختبار هذا الإنسان.
فالابتلاء سُنّة من سنن الله جاريةٌ منذ فجر التاريخ، وقد يكون صعبًا على النفوس، ثقيلا على القلوب، مؤلماً للأرواح, لكن يرفع الله به درجة الأنبياء، ويمحو به خطايا الصالحين.
سُئل الإمامُ الشافعي رحمه الله: أيما أفضلُ للرجل: أنْ يُمَكَّن أو يُبتلى؟ فقال رحمه الله: لا يُمَكَّن حتى يُبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم، فلا يظنُّ أحد أنه يَخلُص من الألم البتة .
واعلموا أنّ المصائبَ في ظاهرها متاعبُ, وفي باطنها نفائسُ ومكاسب.
في ظاهرها محنٌ وآلام, وفي باطنِ كثيرٍ منها منَحٌ وآمال.
فلولا مُصَابُ بني إسرائيل بإجرامِ فرعون لَمَا كان موسى مُخلَّدًا في التاريخ والقرآن, ولولا مصيبةُ يوسفَ بإخوتِه وبامرأةِ العزيز لَمَا رُفع شأنُه, وخُلّد ذكرُه, وانتفعتْ به أمَّتُه.
ولولا مصيبة المسلمين باستباحة الأقصى واحتلالِه مِن قِبَل الصليبيين, لَمَا كان صلاح الدين, ولَمَا عرفه التاريخ, ولَمَا شاهدنا بطولاتِ الأبطال, وثباتِ الرجال, ولما كانت معركة حطين الخالدة.
ولولا مصيبة المسلمين بالتَّتَار, الذين فَعَلُوا الجرائم البشعةَ في مختلف الديار والأقطار, حيث نبهوا الْبِلَادَ كُلَّهَا من الشَّامِ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى غَزَّةَ، وَقَدْ عزموا على الدخول إلى مصر, فلولا مصيبة المسلمين بجرائمهم لَمَا كانت عينُ جالوت, على يدِ الملكِ المظفرِ قطزِ.
ولولا المصائب التي تصيبنا من همٍّ وغمٍّ وألم, لَوَرَدْنا يوم القيامةِ مفاليس.
ولولا المصائب لَمَا استيقظت ضمائر المسلمين الغافلة, التي لا تُوقظها إلا المصائبُ القاسية, والآلامُ الْمُرَّة.
ولولا المصائبُ لَمَا قام سوق الجهاد, ولَمَا خلّد التاريخ سير الأبطال في ميادين الجلاد.
لولا المصائب لَمَا ظهر كذب المنافقين, الذي دأبوا على مدى قرن وهم يمجدون الغرب المتحضر بزعمهم.
فلَقَدْ ضَخَّ الْإِعْلَامُ الْعَلْمَانِيُّ طِيلَةَ قَرْنٍ مَضَى, أَنَّ الرُّجُوعَ لِلدِّينِ سَبَبٌ لِلتَّخَلُّفِ، وَأَنَّ اللَّحَاقَ بِالرَّكْبِ الْحَضَارِيِّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَرْكِ الدِّينِ وَالْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْعَدَاءَ فِي الدِّينِ خُرَافَةٌ ورجعيَّة، ثُمَّ هَاهُمْ يَرَوْنَ الْكُفَّارَ بجميع أصنافهم يَتَكَالَبُونَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ لِإِبَادَتِهِمْ, ويتخلون عن إنسايتهمُ التي تبجحوا بها على مدى قرن من الزمن.
وَالنَّاسُ إِذَا لَمْ يَفْهَمُوا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَعْدَائِهِمْ, أَرَاهُمُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهَا وَاقِعًا عَلَى أَرْضِهِمْ؛ لِتَحْيَى قُلُوبُهُمْ، وَيُرَاجِعُوا دِينَهُمْ، وَيَصْدُرُوا عَنْ قُرْآنِهِمْ.
ولولا المصائب بأهل البدع والزنادقة, لما نتج عن ذلك الكثير من كتب أهل الإسلام المفيدة النافعة, ومن أنفعها وأهمها: كتبُ شيخِ الإسلام رحمه الله, فأكثرها كانت ردودًا على المبتدعة.
فمن الذي يجزع من المصائب وهذه بركاتها وآثارُها, فالمصائب ليست شرًّا محضًا, قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
وهل هناك مصيبةٌ أعظم علينا من مصيبةِ انتهاك عرض نبينا؟
ومع ذلك فليست هذه المصيبةُ شَرًّا بل خيرًا, فهل تكون المصائب بعدها وهي أهون منها شرًّا؟
لا والله, بل خيرُها أعظمُ من شرِّها, ونفعُها أكثرُ من ضررها.
والأمة التي لا تُصاب بمصائبَ وكوارثَ لا تَنْمُوا ولا تصحوا, بل تظلُّ على ما هي عليه, حتى تأتيَها مصيبةٌ تُوقظها من رقدتها, وتُفيقها من سكرتها, وتنقلُها إلى الصدارة والريادة.
ونحن على يقينٍ بأنَّ المصائب ليست شرًّا محضًا, بل فيها من الخيرات والبركات على الأمة بأكملها.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الصبر على المصائب, وأنْ يمنحنا ما فيها من النعم والمكاسب, إنه سميعٌ قريبٌ مجيب.
الحمد لله ذي الإفضال والإنعام، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والأئمة الأعلام.
أما بعد: إخوة الإيمان: إنّ فاجعة المسلمين بما يحل اليوم في حلبَ الجريحة, لهي أعظمُ دليلٍ على زيفِ ادعاءاتِ الغربِ وأذنابِهمُ العلمانيين, الذين لا يشك عاقلٌ أنهم تواطؤوا وسمحوا بهذه المذابح الرهيبة.
ولكنَّ خلفَ هذه المصيبةِ المحزنةِ ألفُ نعمةٍ ومنحةٍ, فالواجب أنْ نبحث عنها ونستثمرها لمصلحتنا, ولن ينفعَنَا النحيب والعويل.
والاستغراقُ في الألم والحزن على المصائب, يُنسينا البحثَ عن المنح التي استودعها الله فيها, فتكونُ المصيبةُ الحقيقيةُ ليستْ في نفس المصيبة, بل في عدم استثمارِها واستغلالِها وأخذِ العبر منها.
ومن أعظم المنح التي نجنيها من هذه المصيبة غيرِ ما تقدّم:
أولا: الأجرُ العظيمُ على ألَمِنا على مصابِ إخواننا.
ثانيًا: رسوخُ عقيدة الولاء للمسلمين في قلوبنا, والعَدَاء للكافرين والمنافقين, وهذه العقيدةُ قد أُريد لها أن تتلاشى وتزول, وعَمِلَ المنافقون على مدى سنوات مَضَتْ على محوها من كتبِ وصدورِ الأطفال والشباب, ولكنْ أبى الله تعالى إلا أنْ يُحييها في قلوبنا من جديد, فهي عقيدةٌ لا يصح إيمان المسلم بدونها, قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
فيجب على كلِّ مسلم أنْ يُحِبَّ المسلمين وينتميَ إليهم, ويفرحَ لفرحهم ويتألّمَ لمصابهم.
وأن يكره الكفار كلَّهم, من الرافضةِ والنصارى المشركين وغيرِهم.
ثالثًا: أنّ هذه المصيبة جاءت بعد أنْ تكبد الأعداءُ خسائر لا تُحصى, في الأرواح والعتاد والمال, ومن أعظم خسائرهم: بغضُ المسلمين لهم, فافترق كثير من المسلمين إلى فريقين: أهلِ السنة والجماعة, والرافضةِ المبتدعة.
فعرف المسلمون حقيقة الرافضة بعد أنْ كان كثيرٌ منهم يُنادي بالتقارب معهم.
رابعًا: تلاحمُ المسلمين وخاصةً المجاهدين بعد طول الفرقة, واسْتعدادُ كثيرٍ من الحكوماتِ المسلمة والأفرادِ لمواجهةِ الأعداء, وقلّةِ اعتمادِهم على الغربِ المنحازِ لكلِّ عدوٍّ لنا, منْ أكرادٍ ورافضةٍ عربٍ وعجم.
وهناك مِنَحٌ لا يسع المجال لذكرها, ومِنَحٌ طوى الله نشرها إلى حين مجيء الوقت المناسب لها.
فسبحان من له الحكمة البالغة.
واعلموا أيها الإخوة: أنَّ علينا نحن واجبًا لا يسقط أبدًا, وهو أنفع وأعظم سلاح, وهو الدعاء الصادق.
وقد وجه مفتي المملكة حفظه الله أئمةَ المساجد بالقنوت في صلاة الفجر, فاقنتوا معاشر الأئمة وفقكم الله, واحذروا أن تخالفوا السنة في القنوت, ومن المخالفات الإطالةُ والمشقةُ على الناس, وعليكم بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -, فقد كان دعاؤُه كلماتٍ يسيرةً كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة.
ويدل على ذلك: حديث أَنَسٍ - رضي الله عنه - لما سئل: هَلْ قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ؟ قَالَ: "نَعَمْ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا". أخرجه مسلم
والذي ثبت في السنة أنه صلى الله عليه وسلم, كان يدخل في الدعاء مباشرة بعد قوله: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، من الركعة الأخيرة، كما في صحيح البخاري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما رفع رأسه من الركعة الثانية من الصبح قال: اللهم أنج الوليد بن الوليد, وسلمة بن هشام, وعياش بن أبي ربيعة, والمستضعفين بمكة، اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف.
هكذا مُباشرةً وباختصار.
اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ, وَرَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ, نَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الْأَعْظَمِ, الَّذِي إِذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ، وَإِذَا سُئِلْتَ بِهِ أَعْطَيْتَ, نَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ, الْأَحَدُ الصَّمَدُ, الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ, وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، نَسْأَلُكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى وَصِفَاتِكَ الْعُلَى, فَرَجًا مِنْ عِنْدِكَ لِإِخْوَانِنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي حَلَبَ, وَفِي سَائِرِ بلادِ الشَّامِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ وبورما, وَفِي كُلِّ بَلَدٍ يُذَلُّ فِيهِ أَهْلُ دِينِكَ.
اللَّهُمَّ فَرِّجْ كَرْبَهُمْ، وَارْحَمْ ضَعْفَهُمْ، وَاجْبُرْ كَسْرَهُمْ، وَتَوَلَّ أَمْرَهُمْ، وَأَدِرْ دَوَائِرَ السُّوءِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ.
اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالْرافضة وَالصَّلِيبِيِّينَ, وَمَنْ عَاوَنَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
لا إِلَه إِلاَّ اللَّه العظِيمُ الحلِيمُ ، لا إِله إِلاَّ اللَّه رَبُّ العَرْشِ العظِيمِ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه رَبُّ السمَواتِ وربُّ الأَرْض ورَبُّ العرشِ الكريمِ.
اللَّهُمَّ ضَعُفَ النَّاصِرُ إِلَّا بِكَ، وَانْقَطَعَ الرَّجَاءُ إِلَّا فِيكَ، وَلَا حَوْلَ لِإِخْوَانِنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ وَلَا قُوَّةَ لَهُمْ إِلَّا بِكَ، اللَّهُمَّ فَثَبِّتْهُمْ، وَاحْقِنْ دِمَاءَهُمْ، وَاحفظْ أَعْرَاضَهُمْ، وَفُكَّ حِصَارَهُمْ، وَاشْفِ جَرْحَاهُمْ، وَخَلِّصِ الْأَسْرَى مِنْهُمْ، وَتَقَبَّلْ قَتْلَاهُمْ فِي الشُّهَدَاءِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَاجْعَلْ مُصَابَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِخْوَانِهِمْ خَيْرًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.