مصعب بن عمير

عبدالله اليابس
1434/04/11 - 2013/02/21 19:17PM
مصعب بن عمير ************************ الجمعة 12/4/1434هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}, {ياَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}, (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
أما بعد: يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اسمحوا لي أن أنتقل بحضراتكم من هذا المسجد المبارك.. إلى مكة المكرمة, وها هو خبر يسري بين أهل مكة: أن محمد بن عبدالله يدعي أنه رسول من عند الله, كان الخبر ينتقل بينهم خفية, وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالجهر بدعوته بعدُ, ولما كثر أتباعه صلى الله عليه وسلم أنشأ مدرسة دعوية في بيت فتىً من فتيان مكة يقال له الأرقم بن أبي الأرقم.
في ناحية أخرى من نواحي مكة, هناك شاب قرشي, كان من أجمل شباب قريش, وأوفاهم شبابًا وبهاءً, كان هذا الفتى زينة المجالس والنوادي, وكان كل نادٍ يحرص أن يكون هذا الفتى بين شهوده, فقد جمع إلى أناقة المظهر رجاحة العقل, وجمال المنطق.
لم ينل من تدليل الأبوين في مكة مثل ما نال هذا الفتى, وبلغ من دلاله أنه إذا نام وحضر الطعام ترسل إليه أمه بالطعام, فيوضع الطعام عند رأسه ولا يوقظ.
كانت ملابس هذا الفتى تجلب له من اليمن, وعطره يجلب له خصيصًا من الشام, فكان إذا مر في أحد أسواق المدينة يبقى عَبَق هذا العطر وقتًا بعد رحيله, حتى يعرف الناس أنه قد مر من هذا المكان.
بل كان إذا غسل ثيابه في مكان, يتسابق الناس على فضل مائه, حتى يصيبهم شيء من ذلك العطر النفيس.
إنه مصعب بن عمير, والذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت بمكة أحسن لِمَّة, ولا أرق حلة, ولا أنعم نعمة, من مصعب بن عمير).
سمع مصعب ما بدأ أهل مكة يسمعونه من خبر بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.. "محمد" الذي يقول أن الله أرسله بشيرا ونذيرا. وداعيًا إلى عبادة الله الواحد الأحد.
وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا همّ لها، ولا حديث يشغلها إلا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه، كان فتى قريش المدلل أكثر الناس استماعا لهذا الحديث.
ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه، يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها.. هناك على الصفا في دار "الأرقم بن أبي الأرقم" فلم يطل به التردد، ولا التلبث والانتظار، بل أخذ نفسه ذات مساء إلى دار الأرقم تسبقه أشواقه ورؤاه ...
وهناك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه, يتلو عليهم القرآن، ويصلي معهم لله العليّ القدير.
طرق مصعب الباب, واستأذن بالدخول فدخل, ولم يكد يأخذ مكانه، وتنساب الآيات من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم مرتلة من شفتيه صلى الله عليه وسلم، آخذة طريقها إلى الأسماع والأفئدة، حتى كان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..!
حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحضور إلى فضاءات الآخرة, انتشلهم من الشرك الذي تعيش به مكة إلى حيث هناك, حيث النعيم المقيم, حيث الأنهار والحور, والنخيل والقصور, بل أكبر من ذلك رؤية الرب الغفور.
ويقتنع زينة فتيان مكة بهذا الدين الذي لامس فطرته, وبدون تردد ينطق كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
كادت الغبطة تخلع مصعبًا من مكانه، وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج، والفؤاد المتوثب، فكانت السكينة العميقة عمق المحيط..
في ناحية أخرى خارج دار الأرقم كانت أم مصعب "خُنَاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة في شخصيتها، وكانت تُهاب إلى حد الرهبة..
ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الأرض قوة.. سوى أمه, فهي الهول الذي لا يطاق..!
وفكر مصعب سريعا، وقرر أن يكتم إسلامه حتى يقضي الله أمره.
وظل رضي الله عنه يتردد على دار الأرقم، ويجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينهل من علمه, ويتزود بوحيه, وهو قرير العين بإيمانه، وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم خبر إسلامه..
وكان مصعبٌ معطَّرًا
بأندر العطور
وكان يلبس الحرير
وكان شامةً أحبَّت الحياة
وزهرةً تنفَّست روائح النعيم
وفجأة تغيَّرت ملامحه
وحينما رأته أمُّه تجهَّمت
نادت أباه: يا عمير
صغيرنا الحبيب
مثقَّلٌ بسرِّه
لابدَّ أنه أحب
هوِّن عليك يا فتي
لو أنَّ من أردتها تقيم في القمر
لو أنَّ دارها بعيدةٌعصيَّةَ السَّفر
لو أنها تقيم في جناح طائرٍ
أو بين أنفس الدُّرر
أتت إليك إن أمرت دون لمحة البصر
ضحك الجميع حوله
لكنه لم يبتسم
سرى الوجومُ قاسيًا
على مشارف النغم
وطال صمته
حتى انتهى مطاف صبرهم
فتحركت في البيت صيحة الغضب
لابدَّ من نهاية لكل ذلك العجب
ولم تطل إجابته
في لفظتين قالها: (لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله)
وتحرك الطوفان نحوه
لكن سره المنيع صده
أمي.. أبي
لقد عشِقت نوره
عيناي تبصران حينما أراه
وحينما يردد الحديث مشرقًا
أحس أنه يقدم الحياة
يحرر القلوب كي تسبح الإله
أمي .. أبيقد عاود النداءُ صوتَه
وإنني أدعوكما فلتذهبا معي إليه
وينتقل مصعب من ذلك النعيم إلى عذاب أليم, ومضت به أمه إلى ركن قصي من أركان دارها، وحبسته فيه، وأحكمت عليه إغلاقه، وظل رهين محبسه ذاك، حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة، فاحتال لنفسه وخرج معهم.
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما قلت وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على خاتم النبيين, وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. لقد منعت أم مصعب ابنها حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها إنسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها، حتى ولو كان هذا الإنسان ابنها..!!
ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه..
وإنها لتعلم صدق عزمه اذا همّ وعزم، فودعته باكية، وودعها باكيا..
وكشفت لحظة الوداع عن إصرار عجيب على الكفر من جانب الأم وإصرار أكبر على الإيمان من جانب الابن.. فحين قالت له وهي تخرجه من بيتها: اذهب لشأنك، لم أعد لك أمّا. اقترب منها وقال: "يا أمّه إني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا اله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله" ...فأجابته غاضبة مهتاجة: " قسما بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويُضَعَّف عقلي"..!!
وخرج مصعب من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتأنق المعطّر، لا يرى إلا مرتديًا أخشن الثياب، يأكل يوما، ويجوع أياما, خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أن بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت عيونهم بعضهم دمعا شجيّا..
ذلك أنهم رأوه يرتدي جلبابًا مرقعًا باليًا، وعاودتهم صورته الأولى قبل إسلامه، حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة، وألقًا وعطرا..
وتملى رسول الله مشهده بنظرات حكيمة، شاكرةً محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة، وقال: "لقد رأيت مصعبًا هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله".!!
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. لقد كانت هذه قصة إسلام مصعب بن عمير, وانتقاله في زهرة شبابه من الكفر إلى الإيمان, ومن الغنى والنعيم, إلى الفقر والحاجة, طلق تلك الملذات لما ذاق حلاوة الإيمان, ضحى بالدنيا .. كل الدنيا .. من أجل كلمة التوحيد.. دفع ثمنها غاليًا.. فطردته أمه من بيته, ومنع عنه الطعام والشراب واللباس واللذائذ, حتى وصل به الحال كما روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين قال: (كنا قوماً يصيبنا ظلف العيش بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما أصابنا البلاء اعترفنا ومررنا عليه فصبرنا, وكان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة وأجوده حُلة مع أبويه ثم لقد رأيته جُهد في الإسلام جهداً شديداً حتى لقد رأيت جلده يتحشف كما يتحشف جلد الحية ).
أين هذا الحال من شباب يعيش في دار الإسلام, ويسمع كل يوم نداء الحق: (الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله) ولا ينزل هذا النداء على أرض الواقع, أين حال مصعب من حال من يؤثر دنياه على آخرته, وينغمس في لذة معجلة عن سعادة أبدية سرمدية؟!
هكذا مضى مصعب الشاب كما يمضي كل الناس, ولكنه مضى عزيزًا كبيرا شهيدًا يوم أحد, قد أعذر إلى الله بعمله الدؤوب, وجهده المضني, فكانت فرحته عند ربه حينما قال فيه وفي من قتل معه {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } نعم أحياء ولكن ليس كحياتنا, ينعمون في الجنة ويسرحون فيها حيث شاءوا، مضى مصعب رضي الله عنه ولا يملك شيئا من الدنيا سوى ثوبه الذي عليه, يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله فمنا من مضى لسبيله لم يأكل من أجره شيئا, منهم: مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك إلا نَمِرة كنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر))، وهو نبات معروف طيب الريح، متفق عليه.
قتل مصعب رضي الله عنه ولم يطلب يومًا نعمة ولا ثراء، ولا سلطة ولا وجاهة, لم يفكر بمنصب أو رئاسة, ولم يكن له هم سوى انتصار دين الله على الكفر وأهله, فآتاه الله أجره {فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة }.
وبعد فهذا حال الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه، فهل لشبابنا أن يتخذوه قدوة لهم ويكونوا مثله في مجال الدعوة إلى الله والعبادة والعمل الصالح؟ وهل لشبابنا أن يتغنّوا ببطولات هؤلاء الرجال من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
بنينا حقبة فِي الأرض ملكـا**** يدعمـه شبـاب طامِحونـا
شباب ذللـوا سبـل الْمعالي***** و ما عرفوا سوى الإسلام دينا
تعهـدهـم فأنبتهـم نباتـا****كريمًا طاب في الدنيا غصونـا
إذا شَهِدوا الوغى كانوا كماةً****يدكون المعاقـل والْحصونـا
شبـاب لم تحطمـه الليـالِي*****ولم يسلم إلَى الخصم العرينـا
وإن جنَّ الْمسـاء فلا تراهم**** من الإشفـاق إلا ساجدينـا
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات

مصعب بن عمير 120401434.doc

مصعب بن عمير 120401434.doc

المشاهدات 2843 | التعليقات 0