مصادر الحياة

عبدالعزيز بن محمد
1442/08/19 - 2021/04/01 12:15PM

أيها المسلمون: خلقَ اللهُ العبادَ.. وجعل لهم في الأرضِ مستقراً ومتاعاً إلى حين، ففيها يحيون، وفيها يموتون، ومنها يخرجون.  هيأ لهم في الأرضِ أسباب معايشهم، وضَمِنَ لهم أرزاقَهم، ورزقهم من الطيبات لعلهم يشكرون.

وفي وقفةٍ مع نِعْمَةٍ مِنْ أجَلِّ النِّعَم وأكرمها.. امتَنَّ الله بها على عبادِه، وَذَكَّرَهُم بعظيمِ مَقَامِها. بها حياةُ الإنسانِ والحيوانِ والشجرِ والدوابِ وسائرِ المخلوقات، بل الأرضُ تبقى ميتةً هامدةً.. فإذا ما أصابها اللهُ بشيءٍ من هذه النعمةِ.. حَيَتْ واهْتَزَّتْ ورَبَت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج. {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُون}

نعمةُ الماءِ.. نِعْمَةٌ قائمةٌ، فَمَن ذا يَعرِفُ لهذه النعمةِ قَدْرَهَا، ويقومُ لله بِشُكرِها؟

قيل عنها.. إنها (أعزُّ مَفْقُوْدٍ، وأَهْوَنُ مَوْجُوْد) فلا يستشعرُ الإنسانُ قَدْرَ هذه النعمةِ وهو يجدها حاضرةً مُيَسَّرةً بين يديه،  فإذا ما انقطعَت به السُّبُل يوماً ونأى عن موردِ الماء، أدركَ عظيمَ حاجتِهِ لهذه النعمةِ.  ومما جاء في بعضِ كُتُبِ السِّيَرِ.  دخل ابن السَّمَّاكِ يوماً على هارونَ الرشيد، فلما جلسَ بين يديه قال له الرشيدُ: عِظْنِي، ثُم أُتِيَ للرشيد بِقُلَّةِ مِن ماءٍ لِيشْرَب، فقال له ابنُ السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين. فنظر إليه الرشيد، فقال ابن السماك : أسألُك بالله يا أميرَ المؤمنين، لو مُنِعتَ هذه الشربةُ، بكمْ كنتَ تشتريها؟ قال: بنصفِ مُلكي. قال: اشربْ هنأك الله، فلما شَرِبَ، قال ابن السماك: أسألُك بالله يا أميرَ المؤمنين، لو مُنِعتَ خروجَ  هذه الشربةِ مِن بدَنِكَ فبماذا كنتَ تشتريها؟ قال : بنصفِ مُلكي ـــ كفى بها من موعظةٍ.. فيها مشاهدةٌ لأيسرِ النعمِ، وإدراكٌ لحقارةِ الدنيا، وإبصارٌ لضعفِ الإنسانِ مهما بلغَ من الرفعةِ والعلو ـــ  قال ابن السماك: يأميرَ المؤمنين: إن ملكاً لا تساوي شربةَ ماءٍ وإخراجَهَا، لحريٌ أن لا يُغترَّ بِه.

شربةٌ من ماءٍ إن تَعَسَّرَ بُلُوغَها،  تُشترى بِمُلكِ الدنيا، فكم هي شَرَباتُ الماءِ الباردةِ التي نشربها في أيامنا وأعمارِنا {أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ}

وكفى بربكَ كرماً.. أن أبانَ للعبادِ فَضْلَهُ عليهم في هذا الماء {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} ماءٌ زلالٌ طَهُوْرٌ.. أنزلَه الله من السماءِ بِقَدَرٍ معلومٍ.. على قَدْرِ ما تقومُ به حاجةُ العبادِ، فإنْ قَلَّ عن الحاجةِ هلكوا عَطَشاً، وإن زاد عنها هَلَكوا غرقاً.  أنْزَلَهُ من السماءِ فأسكنَه في باطِنِ الأرضِ حِفظاً لَه من التلوثِ، وحمايةً للعبادِ من الأوبئةِ، وَسَعَةً لهم في الديارِ، وجَعَلَه قريباً يَسْتَخْرِجُه الطالبون {وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}

قال صالحُ بنُ الإمامٍ أحمدِ رحمه الله.. كان أبي كلما أخْرَجَ الدَّلْوَ من البئرِ مملوءً حَمدَ اللهَ، فقلتُ له في ذلك فقال: يا بني، أما سمعت الله عز وجل يقول: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ} إنْ غارَ الماءُ في بطن الأرضِ وابتعدَ، وعجزتم عن طَلَبِهِ وإخراجِه، فمَن ذا الذي يَقْدِرُ على الإتيانِ بِه غيرَ رب العالمين؟ 

إنه الماءُ.. قِوامُ الحياةِ وشريانُها، هو فضلٌ من الله على عبادِه، فلا يُضارُ العبادُ بفضل الله عليهم،   وَمَنْ تأملَ هذا الحديثَ العظيمَ أدركَ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثَلَاثَةٌ لا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَومَ القِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ــ ثم ذكر منهم ــ رَجُلٌ كانَ له فَضْلُ مَاءٍ بالطَّرِيقِ، فَمَنَعَهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ) متفق عليه

عباد الله: وَصَفَ اللهُ الماءَ بأنه طهورٌ {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} فَبِهِ الناسُ يتوضَّؤون ويتطهرون.   ووصفَه بأنه مباركٌ {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} به تَـحْيا الأرضُ، ويَنبُت الزرعُ، وتكثر الخيرات.  ووصفَه بأنه فراتٌ {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} عذباً زُلالاُ يطيبُ للشاربين. {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ}

* وإن حقَّ هذه النعمةِ.. أن يُقامَ لله بِشُكُرِها، ومَن شَكرَ رضيَ اللهُ عنه وزاده مِن النِّعَم، عَنْ أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ ليرْضَى عَنِ العبْدِ أنْ يأكلَ الأكلَةَ فيحمَدَه عليها، أو يَشْربَ الشَّرْبَةَ فيحمَدَه عليها» رواه مسلم.

* وإن حقَّ هذه النعمةِ.. أن تُرعى حقَّ رعايتها، فلا يُسرَفُ فيها ولا يُبَذَّر، هدايةُ القرآنِ أزكى {..وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} بارك الله لي ولكم..


الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه أجمعين وسلم تسليماً .  أما بعد: فاتقوا الله لعلكم ترحمون.

أيها المسلمون: ولئن كان الماءُ.. مصدراً للحياةِ في هذا الكون.. يجبُ أن يُحمى مِن العبثِ، وأنْ يُحَصَّنَ مِن والملوثاتِ، وأن يحافظَ عليه مِن التبذير وسوءِ التدبير، وأن يُبْذَلَ نقياً.. لا مِنَّةَ فيه ولا أذى،  

فإن هناكَ مصدرٌ للحياةِ أسمى وأعظم، وأعزُّ وأهَمّ وأكْرَم.  مصدرٌ.. به قيامُ الدينِ وبه حياةُ القلب، وبه تحقيق الفوزِ، وبه ضمانُ النجاة.  مصدرٌ بِه رُوْحٌ.. بل هو الرُّوح إنْ حلَّت في الفؤادِ سَرَتْ به حياةٌ أبديةٌ.   مصدرُ الحياةِ.. شريعةٌ أنزلها رَبُّ العالمين، وهلِ الحياةُ إلا حياة القلبِ بالإيمانِ.

مِنْ مَنْهَلِ القرآنِ نَرْوِي أكبُداً   **   ظمأى، فتُشْرِقُ بالحياةِ وتُورِقُ

عُدًّ ميتاً.. مَنْ كانَ عَنْ مَوْلاهُ ينأى ويعرِض.  

مَن جَفَّ ماءُ الوحيِ في شريانِه  **  فهلاكُه حتماً به مُتَحَقِّقُ

{َوكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـَـاءُ مِنْ عِبَادِنَا} إنه القرآنُ مصدرُ الحياةِ وضمانُ الخلود، {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

عباد الله: وكما الماءَ مصدرٌ لحياةِ الأبدانِ، فإنَّ شريعةَ اللهِ مصدرٌ لحياةِ القلوب.. يجبُ أن تُحمى من عبثِ العابثينَ، وأن تُصانَ من تطاوُلِ المُبطلينَ، وأن لا يَخوضَ في بحرِ علومِ الشريعةِ مَن له جهلٌ،  أو له في الغوايةِ أدنى هوى.

وكما تسعى المجتمعاتُ لتأمينِ الماءِ.. ليبقى فيها وافِراً نقياً للشاربين،  فإنه يجب أن تسعى لتأمين الدِّيْنِ ليبقى مُنْتَشِراً في الناسِ عزيزاً ظاهراً للسائرين.

ولئن كانَتْ بَغِيٌ سَقَتْ كلباً كان يأكلُ الثرى من العطشِ أدركَت بذلك مغفرةَ الله، فما الظنُّ بِمَنْ دعا ضالاً إلى رَبِهِ، أو وعظَ عاصياً، أو أرشد سائلاً أو هدى حائراً.  ما الظنُّ بمن باتَ يأخذ بأيدي العبادِ إلى مواردَ بها القلبُ يحيا ويُبعَثُ.

ما الظنُ بِمَن باتَ

يحمي حياضَ الدينِ أن يُسَمِّمَها العِدى ** فبعِلْمِهْ يقضي على الشُّبُهاتِ.

ولئن هَلَكَ هالِكٌ في الصحراءِ من عَطَشٍ.. فكم في المدينةِ هلكى مِن الإيمانِ لا يرتوون

إياكَ أن تَسعى لسقيِ بهيمةٍ  ** وترى عطاشَ القلبِ لا تُسْقِيْهِم

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ

اللهم قَوِّ إيماننا..

المرفقات

1617279332_مصادر الحياة.doc

المشاهدات 1841 | التعليقات 0