مشاعر الأطفال
هلال الهاجري
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمْنْ يَضْلُلُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدُهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .. أَمَّا بَعْدُ:
جَاءَ فِي سِيرةِ ابنِ هِشَامٍ: عَنْ أُمِّ المُؤمِنينَ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَحَبَّ وَلَدِ أَبِي إلَيْهِ، وَإِلَى عَمِّي أَبِي يَاسِرٍ، لَمْ أَلْقَهُمَا قَطُّ مَعَ وَلَدٍ لَهُمَا إلَّا أَخَذَانِي دُونَهُ، قَالَتْ: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَنَزَلَ قُبَاءَ، غَدَا عَلَيْهِ أَبِي، حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَعَمِّي أَبُو يَاسِرِ، قَالَتْ: فَرَجَعَا حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ، قَالَتْ: فَأَتَيَا كَالَّيْنِ كَسْلَانَيْنِ سَاقِطَيْنِ يَمْشِيَانِ الْهُوَيْنَى، قَالَتْ: فَهَشِشْتُ إلَيْهِمَا كَمَا كنت أصنع، فو الله مَا الْتَفَتَ إلَيَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، مَعَ مَا بِهِمَا مِنْ الْغَمِّ، قَالَتْ: وَسَمِعْتُ عَمِّي أَبَا يَاسِرٍ، وَهُوَ يَقُولُ لِأَبِي حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ: أَهُوَ هُوَ؟، قَالَ: نَعَمْ وَاَللَّهِ، قَالَ: أَتَعْرِفُهُ وَتُثْبِتُهُ؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا فِي نَفْسِكَ مِنْهُ؟، قَالَ: عَدَاوَتُهُ وَاَللَّهِ مَا بَقِيتُ.
هَلْ لاحَظتُم شَيئاً غَريباً في هَذهِ القِصّةِ؟، لا أَقصِدُ تَكذِيبَ اليَّهودِ وعَدَواتَهم مَعَ مَعرِفَتَهم للحَقِّ، وإنَّما أَقصِدُ ذَلِكَ المَوقِفَ الذي لَم تَنساهُ تِلكَ الطِّفلَةُ حَتى لَمَّا كَبُرَتْ، وَهُوَ عِندَما رَجَعَ أَبُوها وعَمُّها وَلَم يَلتَفِتْ إليها أَحدٌ مِنهُما، وَلَم يَأخُذَاها ويَضُّمَاها كَما هِيَ العَادةُ، وهَكَذا هِيَ مَشاعِرُ الأطفَالِ رَقيقةٌ كَالهَواءِ، وصَافيةٌ كَالسَّماءِ، لا يَعلَمونَ مَا نُعَانيهِ مِن مَتَاعبَ وهُمومٍ وأحزَانٍ، وإنَّما يُريدُونَنا أن نُبَادِلَهم والاهتِمامَ والحَنانَ، يَقُولُ يَعْلَى بنُ مُرَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: دُعِينَا مَع النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ إلى طَعامٍ؛ فَإِذا حُسينٌ يَلعبُ فِي الطَّريق، فَأسرعَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ أَمامَ القَومِ، ثُم بَسَطَ يَديهِ، فَجَعلَ الغُلامُ يَفِرُّ هَهُنا وهَهُنا، ويُضَاحِكُه النَبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ، حَتى أَخذهُ، ثُم اعتَنَقَه، فَقَالَ: (حُسينٌ مِني وَأنَا مِنهُ، أَحَبَّ اللهُ مَنْ أَحبَّهُ).
يـَامَا انتَظَرتُكَ وانتَظَرتُكَ يَا أَبِي *** فَابسُطْ عَبَاءَاتِ الحَنَانِ وضُمَّنَا
مَشَاعرُ الأطفَالِ تَحتَاجُ إلى مُتَابعةٍ وَرِعَايَّةِ، وعَوَاطِفُهم تَفتَقِرُ إلى إشبَاعٍ وكِفايَّةٍ، مَا بَينَ كَلامٍ جَميلٍ، ومَا بَينَ ضَمٍّ وتَقبيلٍ، فَارحَموا الصِّغَارِ، يَرحَمُكم الغَفَّارُ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حابِسٍ جالِساً، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشْرَةً مِنَ الْوَلَدِ ما قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَداً، فَنظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قالَ: (مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ).
مَشَاعِرُ الأطفَالِ تَنمو بالاحتِرامِ وَالتَّقديرِ، وعَدَمِ الإهَانةِ والتَّحقيرِ، حَتى نُربيَّ جِيلاً عَزيزاً بِدِينِهِ كَاملَ الشَّخَصيَّةِ، يَكونُ فَرداً فَعَّالاً في بِناءِ الأهدَافِ المُستَقبَليَّةِ، أُتِيَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ بشَرَابٍ فَشَرِبَ منه، وعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ، وعَنْ يَسَارِهِ الأشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أتَأْذَنُ لي أنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ الغُلَامُ: واللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ، لا أُوثِرُ بنَصِيبِي مِنْكَ أحَدًا، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ في يَدِهِ.
مَشَاعِرُ الأطفَالِ تَحتاجُ إلى مُشارَكَتِنا في الأَحزَانِ والمَسَرَّاتِ، وإيَّاكَ أن تَحتَقِرَ مَا عِندَهُم مِن صَغيرِ الاهتِمَاماتِ، فَهُم لا يُفَكِّرونَ بِعَقلِ الرُّجولةِ، وإنَّما بِعَاطِفَةِ الطُّفولَةِ، فَعَنْ أَنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَيْنَا، وَكَانَ لِي أَخٌ صَغِيرٌ، يُكَنَّى: أَبَا عُمَيْرٍ، وَكَانَ لَهُ نُغَيْرٌ -طَائرٌ- يَلْعَبُ بِهِ، فَمَاتَ نُغَرُهُ الَّذِي كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَرَآهُ حَزِينًا، فَقَالَ لَهُ: (مَا شَأْنُ أَبِي عُمَيْرٍ حَزِينًا؟)، فَقَالُوا: مَاتَ نُغَرُهُ الَّذِي كَانَ يَلْعَبُ بِهِ يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ: (يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ).
فَيَا رَبِّ بَارِكْ بَسْمَةَ الْطِّفْلِ كَيْ نَرَى *** عَلَى وَجْهِه الرَّيَّانِ أَهْلَا وَمَرْحَبَا
وَيَا رَبِّ كَفْكِفْ دَمْعَهُ بِرِعَايَةٍ *** وَلُطْفِكَ بِالْجِسْمِ الْصَّغِيرِ إِذَا كَبَا
أقولُ هذا القَولَ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذَنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حَمدًا كَثيراً طَيِّباً مُباركاً فِيهِ، وَأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأَشهدُ أنَّ مُحمداً عَبدهُ ورَسولُه، صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وأَصحابِه ومن تَبعَهم بإحسانٍ وسَلَّمَ تَسليماً كَثيراً، أما بعدُ:
مَشَاعِرُ الأطفَالِ يَأسِرُها اهتِمَامُ الكِبَارِ، كَسُؤالِكَ عَنهُ وعَنْ درَاستِهِ والاختبارِ، والسَّلامِ إذا لَقِيتَهُ واستِمَاعِ حَديثَهُ البَسيطَ، بَل وعِيَادَتِهِ إذا مَرِضَ في البيتِ أو في المُستَشفى، فَعَنْ أَنَسِ بنِ مَالكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ غُلَامًا مِنَ اليَهُودِ كَانَ يَخدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِندَ رَأسِهِ، فَقَالَ: (أَسلِم)، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِندَ رَأسِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَطِع أَبَا القَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَأَسلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: (الحَمدُ لِلَّهِ الذِي أَنقَذَهُ مِنَ النَّارِ).
مَشَاعِرُ الأطفَالِ عِندَما يُحسِنونَ تَحتَاجُ مِنَّا إلى الشَّكرِ والثَّناءِ، فَإنَّهم لا يَنسَونَ أَبَداً كَلِماتِ المَدحِ والدُّعاءِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخَلاَءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: (مَنْ وَضَعَ هَذَا؟)، فَأُخْبِرَ، قَالَ: فَضَمَّنِي وَقَالَ: (اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وعَلِّمْهُ الكِتَابَ)، وهَكَذا كَثيرٌ مِن المَواقفِ التي رَاعى فيها النَّبيُّ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَشَاعِرَ الأطفَالِ، فَأَخرَجَ للتَّاريخِ خَيرَ الأجيالِ.
يَا طِفْلُ في قَلبِ الرَّسولِ مَكَانةً *** لَكَ قَد حَبَاهَا سَيِّدُ الأَجيَالِ
دِينَاً حَوَى نَهجَ التَّكَامُلِ وَالوَفَا *** لِلشِّيبِ والفِتيَانِ والأَطفَالِ
اللهمَّ أصلح لنا نياتِنا وذرياتِنا، اللهمَّ اجعلهم هداةً مهتدينَ، اللهمَّ اكفهم شرَّ الأشرارِ وكيدَ الفجارِ يا عزيزُ يا غفَّارُ، اللهمَّ حببْ إليهم الإيمانَ وزينهُ في قلوبِهم وكره إليهم الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، اللهمَّ من أرادَ المسلمينَ أو ذرياتِهم بسوٍء اللهمَّ فأشغله بنفسِه وردَّ كيدَه إلى نَحرِه واجعل تدبيرَه تَدميراً عليه، اللهم ادفع عنا الغلا والوباءَ والربا والزنا والزلازلَ والمحنَ، وسوءَ الفتنِ ما ظَهرَ منها وما بَطنَ عن بلادِنا هذا خاصةً وعن سَائرِ بلادِ المسلمينَ عَامةً، اللهمَّ احفظ علينا دينَنا وأمنَنا، اللهمَّ أَدمْ علينا نعمةَ الصحةِ والعافيةِ، اللهمَّ وفق ولاةَ أمرِ المسلمينَ عَامةً للحكمِ بكتابِكَ والعملَ بسنةِ نبيِّكَ ووفقْ ولاةَ أمرِنا خَاصةً للخَيرِ، اللهمَّ خذ بأيديهم لما فيه خَيرُ البلادِ والعبادِ، اللهم ارحم هذا الجمعَ من المؤمنينَ، اللهمَّ استر عَوراتِهم وَأَمِّنْ رَوعاتِهم وارفعْ دَرجاتِهم في الجناتِ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
المرفقات
1691549882_مشاعر الأطفال.docx
1691549891_مشاعر الأطفال.pdf