مسجد الضرار بين الأمن واليوم

إبراهيم بن سلطان العريفان
1439/06/07 - 2018/02/23 10:31AM

الحمد لله الكريم الوهاب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه متاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وإله الأولين والآخرين وقيوم يوم الدين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، وخاتم الأنبياء والمرسلين وشفيع يوم الدين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب.

فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، فهي وصية الله تعالى للأولين والآخرين من خلقه ( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ) تقوى الله سبحانه أعظم وسيلة للرفعة والشرف والفلاح والنجاة، فاتقوا الله -رحمكم الله- واستعدوا لما أمامكم، وحاسبوا أنفسكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.

إخوة الإيمان والعقيدة ... على مر الأيام والدهور تظهر اللوثات الخبيثة والأمراض المعنوية الخطيرة التي يعاني منها الإسلام بمرارة، وهو انحراف خلقي خطير في حياة الفرد والجماعة؛ إذ يقوم بعمليات الهدم الشنيع والتفتيت الفظيع للمجتمع من الداخل، ويظن صاحبه أنه آمن مستأمن لا تراقبه الأعين ولا تطوف بذكره الألسن، ولا تحسب حسابًا لمكره ومكائده الأنفس.

ترى الواحد منهم يعيش بين الناس بلسانين، وتتلون نفسه لونين، يقود نفسه بزمام الشيطان إلى الرذائل والمحرمات، فإذا همت بالمعروف قال لها: مهلاً! إنه النفاق .. ذلك السلوك العفن الخطير.

وتبرز خطورة النفاق والمنافقين على المؤمنين في تدبير المؤامرات وحبك الدسائس ضد المسلمين والمشاركة فيها والاستجابة لمروجيها، لأنهم قوم بهت خونة لا تصفو مودتهم لأحد، ولا يسلم من أذاهم بشر، قد صدق فيهم قول المصطفى ﷺ ( تجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه ) ترى أحدهم يتقلب بين الأفراد والجماعات لا يدري مع من يأمن ولا من يخالط ويرضى، منطبقًا عليه قول المصطفى ﷺ ( مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمَيْن، تعيرُ إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ).

قال تعالى ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ).

عباد الله ... ومن أبرز المخططات النفاقية التي سجلها القرآن الكريم وصمة عار على جبين المنافقين إلى يوم القيامة مخطط مسجد الضرار الذي دبره المنافق أبو عامر الراهب مع فريق من المنافقين من جهة ومع الروم من الجهة الأخرى، بقصد القضاء على المسلمين سرًّا وهم غافلون.

كان أبو عامر الراهب أحد بني ضبيعة، خزرجيًا من أهل يثرب، وقد تنصّر قبل الإسلام، وكان ذا مكانة في قومه، فلما هاجر رسول ﷺ إلى المدينة وبنى مسجد قباء أول مسجد أسس على التقوى، ورأى هذا المنافق تجمُّع المسلمين فيه وظهور أمرهم، أعلن عداءه الأكيد للرسول ﷺ وأتباعه، وأخذ يؤلب عليه من استطاع صده عن الإسلام من قومه، غير أن هذا المنافق لم يظفر بما يريده داخل المدينة، فخرج منها إلى مكة محرضًا المشركين فيها على محاربة المسلمين بعد أن شرقت نفسه بانتصار المسلمين في غزوة بدر الكبرى، وكان قد حلف ليحاربن محمدًا مع كل من يحاربه، وقال لمشركي مكة: "إن لي أنصارًا في يثرب إذا رأوني لم يختلف عليّ منهم رجلان.

فخرج مع المشركين في غزوة أحد، وكان في أول جيشهم ليستحث قومه الذين في صفوف المسلمين على طاعته، وخذلان الرسول ﷺ وصحبه رضي الله عنه، لكنهم لم يستجيبوا له بعد أن شرفت نفوسهم بالإسلام، ونعمت قلوبهم ببرد الطاعة وحلاوة الإيمان، فرجع إلى مكة مع المشركين ممتلئًا غيظًا وحقدًا على المسلمين الذين فرقوا بينه وبين قومه بزعمه، وما برح هذا المنافق يدبّر الخطط ويحبك المؤامرات ضد المسلمين حتى فتح الله مكة على رسوله ﷺ وعلى المؤمنين، وخرج رسول الله ﷺ لفتح الطائف، فانضم هذا المنافق إلى قبائل هوازن وثقيف ومن معهم يقاتل المسلمين، ولكن الله -جل شأنه- نصر المسلمين في حنين، فيئس أبو عامر الراهب من الاعتماد على قوات الشرك داخل الجزيرة وقلبه يغلي كراهية وبغضًا للإسلام والمسلمين.

فقرر أن يستعين على المسلمين بهرقل الروم في الشام، فهرب إليه واتفق معه على أن يرسل معه جندًا لحرب محمد وأصحابه في عملية انقضاض ماكرة خبيثة على عاصمة الإسلام والمسلمين.

وفي سبيل إحكام هذه المؤامرة ولتكون حملة شرسة خاطفة لا يتنبه لها أحد أخذ أبو عامر يراسل خلصاءه من المنافقين في المدينة سرًّا بما اتفق عليه مع قيصر الروم، ويأمرهم بالاستعداد بكل ما استطاعوا من قوة وسلاح، وأن بينوا قاعدة سرية في ضاحية المدينة لا يشعر المسلمون لما يراد منها تمثلت هذه القاعدة في مسجد يبنيه المنافقون ويجتمعون فيه، متخذين لإقامته المبررات الكافية أمام الرسول ﷺ حتى يأذن لهم بإقامته.

وفي سبيل تنفيذ هذه المؤامرة الماكرة اجتمع اثنا عشر منافقًا من بني غنم ابن عوف، وقرروا إقامة مسجدهم هذا قريبًا من مسجد قباء، وقد تم بناؤه بينما كان النبي ﷺ يتجهز للسفر إلى تبوك لغزو الروم.

فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول الله ﷺ فقالوا له: يا رسول الله: إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال ﷺ ( إني على جناح سفر، وحال شغل، ولو قدمنا -إن شاء الله- لأتيناكم فصلينا لكم فيه )

وخرج المصطفى ﷺ بالمسلمين إلى تبوك دون أن يصلي لهم في مسجدهم هذا، وبينما هو عائد من تبوك راجع إلى المدينة وقد أنهكته مؤامرات المنافقين الذين رافقوه في غزوة تبوك نزل عليه الوحي يخبره بمؤامرة المنافقين، وحال المسجد الذي بنوه في المدينة وينهاه عن الصلاة فيه، قائلاً ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

معاشر المؤمنين ... لما وصل النبي ﷺ إلى المدينة أتاه أصحاب مسجد الضرار فسألوه أن يأتي مسجدهم ويصلي لهم فيه، فدعى نفرًا من أصحابه وأمرهم أن ينطلقوا إلى المسجد الظالم أهله فيهدموه ويحرقون، فانطلقوا حتى أتوه فهدموه وحرقوه، وانكشفت مكيدة المنافقين وتم وأدها في مهدها، وتوقفت مكائد المنافق أبي عامر الراهب ثم هلك في قنسرين من أرض الشام إلى جهنم وبئس القرار.

أيها الناس ... لقد بنى المنافقون مسجد الضرار إضرارًا بالمسلمين وتفريقًا بينهم، وقصدوا من خلاله مباهاة أهل الإسلام وتقوية أهل النفاق والإرصاد والتجميع لحرب الله ورسوله والمؤمنين، ولكن الله غالب على أمره ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ).

إن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون هو بمثابة الأساس الخرب لكل مخطط يقصد من خلاله الإضرار بالمسلمين وإسلامهم إلى يوم القيامة، فإن الله عز وجل قال ( لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي: لا تزال الريبة والمكر والعداء للإسلام وأهله في نفوس المنافقين قائمة ما داموا على قيد الحياة حتى يقتلوا أو يتوبوا إلى الله توبة تتقطع لها قلوبهم ندمًا وأسفًا على تفريطهم وعدوانهم للإسلام وأتباعه.

أيها المؤمنون ... إن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون في الصدر الأول ما يزال اليوم يتخذ في صور شتى من الوسائل الماكرة التي يتخذها أعداء الإسلام لحرب المسلمين وتفريقهم وتشويه صورة الإسلام في نفوسهم عبر وسائلهم المختلفة، فقنوات البث المباشر الناشرة للرذيلة والمجلات الفاتنة الفاضحة والجرائد المنحرفة الضالة والكتب الهدامة والمقالات الفاسدة والفتاوى الباطلة ما هي إلا صور جديدة وقوالب مختلفة لمسجد الضرار وإن تلبست باسم الإسلام، فهي تحمل في طياتها الفساد والانحلال والغزو الفكري المركز ضد عقيدة المسلمين وتربيتهم وقيمهم وأخلاقهم، يذبح المسلمون على أيديهم في مشارق الأرض ومغاربها، ويمحق الإسلام بمخططاتهم وتداس أوامره ونواهيه على أيديهم، ومع ذلك يزعمون أن الإسلام بخير، وأن المسلمين بأمن وأمان، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ).

ولكن الفرج والغلبة للمسلمين، فإن التعبير القرآني الفريد في آيات مسجد الضرار يرسم الصورة النهائية التي توضح بجلاء مصير كل وسيلة إضرار بالمسلمين تقام إلى يوم القيامة، ويكشف عن نهاية كل محاولة خادعة تخفي وراءها نية خبيثة ضد المسلمين؛ قال تعالى ( وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) وقال تعالى ( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ).

عباد الله ... صلوا وسلموا على من أمركم الله ....

 

المشاهدات 815 | التعليقات 0