مرققات مهلكات. (نص+ وورد +بي دي إف).

عاصم بن محمد الغامدي
1439/02/27 - 2017/11/16 18:09PM
الحمد لله المنفرد بالجلال في كبريائه وتعاليه، المستحق للتحميد والتقديس والتسبيح والتنزيه، والصلاة والسلام على محمد عبدِه النبيه، ورسوله الوجيه، صلاةً تزلفه وتحظيه، وترفع منزلته وتعليه، وعلى الأبرار من عترته وأقربيه، والأخيار من صحابته وتابعيه، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي الوصية الجامعة، والذخيرةُ النافعة، واحذروا زخارف الدنيا المضلَّة، فمن استكثر منها فما ازداد إلا قلَّة، وتزودوا والتقوى خير زاد، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
أيها المسلمون:
منذ بزغت شمس النبوة، ورياح الباطل تعصف بين فترة وأخرى، محاولة اقتلاع الإسلام من جذوره، والفتن تهب على أهل الإيمان، من كل مكان.
جاء بعض كفار قريش إلى أبي طالب فقالوا: أرأيت أحمد؟ يؤذينا في نادينا، وفي مسجدنا، فانهه عن أذانا، فقال أبو طالب لابنه عقيل: ائتني بمحمد، فأتاه به، فقال: يا ابن أخي إن بني عمِّك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم، وفي مسجدهم، فانته عن ذلك، فلحظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال: "ما أنا بأقدرَ على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة. يعني الشمس". [رواه ابن عساكر وحسنه الألباني].
وَلَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وَتَعْبُدُ مَا نَعْبُدُ، وَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي أَمْرِنَا كُلِّهِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي جِئْتَ بِهِ خَيْرًا مِمَّا بِأَيْدِينَا، كُنَّا قَدْ شَارَكْنَاكَ فِيهِ، وَأَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي بِأَيْدِينَا خَيْرًا مِمَّا بِيَدِكَ، كُنْتَ قَدْ شَرِكْتَنَا فِي أَمْرِنَا، وَأَخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ* لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ* وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. [تفسير القرطبي 20/225].
وفي السنة التاسعة من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، وتخلف ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم بلا عذر، ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منهم، نهى الصحابةَ عن الكلام معهم حتى يقضي الله فيهم، وكان ابتلاء رهيبًا، إذ يرى الثلاثة المجتمعَ كله يتحدث، فإذا حضر أحدهم صدَّ عنه الجميع، وبعد أيام طويلة جاء كِتَابٌ مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، إلى كعب بن مالك رضي الله عنه، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، فقال رضي الله عنه: وَهَذِهِ مِنَ الْبَلَاءِ فرمى الكتاب في التَّنُّورَ. [رواه مسلم].
عباد الله:
أشكال الفتن كثيرة، وسعي المبطلين لبثها دؤوب، وكل فتنة ترقق التي بعدها، قال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ". الحديث [رواه مسلم].
ومن الفتن فتنٌ خفيةٌ، يغفل المرء عنها وعن أثرها، فترديه من حيث لا يشعر.
فحرص المسلم على المال والجاه، أضر على دينه من ضرر ذئبين جائعين أفسدا في غنم، قال صلى الله عليه وسلم: "مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ". [رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح].
وقد يؤدي الولد بوالده إلى ترك الجهاد والإنفاق في سبيل الله، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ». [رواه ابن ماجه وصححه الألباني].
والمال فتنة، وربما طلبه المرء وهو لا يشعر أن فيه هلاكه في الآخرة، {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.
أيها المسلمون:
هل تعلمون ما أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم؟ عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لأَكْثَرِ دُعَائِكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟ قَالَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلاَّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ. فَتَلاَ مُعَاذٌ {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}". [رواه الترمذي وقال: حديث حسن].
وما يحصل من تغير أحوال بعض الناس من الصلاح إلى الضلال، ومن الاستقامة إلى الانحراف، يدفعنا لإعادة حساباتنا، والتوسل إلى ربنا، أن يقينا الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
ومن أهم وسائل الوقاية من الفتن، تقوية الإيمان في القلب، بالإكثار من الصالحات، والحذر من الذنوب، ففتنة ردةِ كثيرين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كانت بحاجة لموقف المؤمن القوي، فوقف خليفة النبي الكريم أبو بكر رضي الله عنه، وقفة الصديقين، وأعلن الحرب على المرتدين، وقال بعزة المسلم الواثق بربه: «وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ»، فَقَالَ عُمَرُ: «فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ». [رواه البخاري ومسلم].
واستشعار الحاجة إلى الله تعالى، والافتقار الدائم إليه مطلب، فلولا تثبيت الله تعالى لهلك العبد، قال جل جلاله مخاطبًا نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}.
وتدبر القرآن ومدارسته والعمل به، من أهم وسائل الثبات، قال جل جلاله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}.
والعلم الشرعي حصن، والعلماء العاملون منار وهداية، والتمسك بشرع الله تعالى هو أساس النجاة: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين.
الحمدلله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب حده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد أيها المسلمون:
ففي وقت ظهور الفتن تكثر الإشاعات، وتنتشر الدعايات، فيتجرأ البعض بذلك على اقتحام ما نهى الله عنه، ودخول ما حذر منه.
وأهل الباطل يسعون بكل ما يستطيعون، إلى بث الفرقة بين المسلمين، ويستخدمون في ذلك أساليب ملتوية لا تخفى على من وفقه الله.
وأكبر أهدافهم، إحداث الخلل في العلاقة بين أفراد المجتمع كافة، فيحقرون أهل العلم في أعين الناس، ويسعون إلى إنزال قدرهم، والتأليب على ولاة الأمور، بنشر الأكاذيب، وبث الشائعات، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
وقطع الطريق على هؤلاء يكون بوأد محاولاتهم في مهدها، وتركِها وعدم نشرها، قال صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ». [رواه أبو داود وصححه الألباني].
وبالتركيز على ما ينفع في الدنيا والآخرة، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا». [رواه مسلم].
فكونوا يا عباد الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنةَ الأعين وما تخفي الصدور، ثم اعلموا أن ثمرةَ الاستماعِ الاتباعْ، وثمرةَ العلم العمل، فتقربوا إلى ربكم بعبادتِه، وأكثروا في سائر أيامكم من طاعته، وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى طُرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
المرفقات

مهلكات-2

مهلكات-2

مهلكات-3

مهلكات-3

المشاهدات 729 | التعليقات 0