مرحبا شهر الصيام منتقاة من خطببتي الشيخين الحزيمي والعجلان

عوض القحطاني
1438/08/30 - 2017/05/26 03:30AM
مرحبا شهر الصيام 30-8-1438هـ الخطبة الأولى
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ؛ بَاسِطِ الْخَيْرَاتِ، وَمُقِيلِ الْعَثَرَاتِ، وَمُجِيبِ الدَّعَوَاتِ، يُطَاعُ فَيَشْكُرُ، وَيُعْصَى فَيَغْفِرُ، وَهُوَ الْغَفُورُ الشَّكُورُ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ التَّائِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَهُ مَوَاسِمُ مِنَ الْخَيْرِ تَعْظُمُ فِيهَا الْبَرَكَةُ، وَتَزْدَادُ فِيهَا الطَّاعَةُ، وَتَقِلُّ فِيهَا الْمَعْصِيَةُ، وَتَكْثُرُ فِيهَا الْمَغْفِرَةُ؛ فَالْمُوَفَّقُ مَنْ أَخَذَ حَظَّهُ مِنْهَا، وَالْمَحْرُومُ مَنْ عَزَفَ عَنْهَا، وَحُرِمَ خَيْرَهَا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ يَسْتَبْشِرُ بِرَمَضَانَ وَيُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ بِهِ، وَيَقُولُ: «قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أمَّا بَعْدُ:
فأُوصِيكُمْ ونَفسِي بِتَقوى اللهِ العَظيمِ،فإِنَّهَا السَّبِيلُ القَوِيمُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ فقَدْ قَالَ سُبحَانَهُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}.
تَمُرُّ بنَا الأيَّامُ ومَا أَسْرَعَهَا! وتَمضِي الشُّهورُ ومَا أَعْجَلَهَا! ويَطِلُّ علينَا مَوْسِمٌ كَريمٌ، وشهْرٌ عظِيمٌ، ولَحَظَاتٌ غَالِيةٌ, ويَفِدُ علَيْنَا وَافِدٌ حَبيبٌ وضَيْفٌ عَزِيزٌ، فبَعْدَ سَاعَاتٍ مَعْدُودَاتٍ يَهِلُّ علينْا شَهْرُ رَمَضَانَ المبَارَكِ بأَجْوَائِهِ الإِيمَانِيَّةِ الْعَبِقَةِ، وأيَّامِهِ المبَارَكَةِ الوَضَّاءَةِ، وليَالِيهِ الغُرِّ الْمُتَلأْلِئَةِ، ونِظَامِهِ الْفَرِيدِ المتمَيِّزِ، وأحْكَامِهِ وحِكَمِهِ السَّامِيَةِ.
نَعَمْ.. سَاعَاتٌ قَلائِلُ ويَهِلُّ ضَيفٌ كَرِيمٌ ينتظِرُهُ مَلايِينُ النَّاسِ بكُلِّ شَغَفٍ وَلَهَفٍ.
غَدَاً رمضانَ، ومَنْ مِنَّا لا يَعْرِفُ فضْلَ هذَا الشهرِ وقَدْرَه، فهُو سيِّدُ الشهورِ وخَيْرُهَا، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، مَنْ صَامَهُ وقَامَهُ إيماناً واحتساباً غُفِرَ لَه مَا تقدَّمَ مِن ذَنبِهِ، فِيهِ ليلةٌ هِي خيرٌ مِن أَلْفِ شَهْرٍ.
غَداً تُفَتَّحُ أبْوَابُ الجَنَّةِ فَلا يُغْلَقُ مِنهَا بَابٌ، وتُزيَّنُ فيهِ هذِهِ الجنَّةُ الَّتِي وَعَدَ الرحمنُ عِبَادَه بالغَيبِ؛ تَرْغِيبًا للعَامِلِينَ لَها بِكَثْرَةِ الطَّاعَاتِ مِن صَلاةٍ وصِيامٍ وصَدقةٍ وذِكْرٍ وقِراءةٍ للقرآنِ وغيرِ ذَلِكَ.
غداً تُغَلَّقُ أبوَابُ النِيرَانِ؛ وذَلكَ لِقلَّةِ المعاصِي فِيهِ مِنَ المؤمِنِينَ.
غَداً ياعِبادَ اللهِ: تُصَفَّدُ الشَّياطِينُ وتُقَيَّدُ فَلا تسْتَطيعُ الخُلُوصَ إِلى مَا كَانَتْ تَخْلُصُ إليهِ فِي غيرِ رمضَانَ، لَمْ يَقُلْ  إِنَّ الشياطينَ تُقْتَلُ أو تَمُوتُ فِي رمضَانَ وإنَّمَا أَخْبَرَ أنَّها تُصَفَّدُ، ومِنَ الْمَعْلُومِ أنَّ المصَفَّدَ قد يَكُونُ منهُ شَيءٌ مِنَ الأَذَى، ولِهَذَا ذَكَرَ بعضُ العُلمَاءِ أنَّ حَظَّ العَبْدِ فِي رمضَانَ في سَلامَتِهِ ووقَايتِهِ مِن كَيدِ الشَّيطانِ بحَسَبِ حَظِّهِ مِنَ الصِّيامِ؛ فكُلَّمَا كَانَ الصِّيامُ أكْمَلَ وأجْوَدَ وأَتَمَّ كانَ ذَلِكَ أعظَمَ وِقَايَةٍ لَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ.
غداً تَحِلُّ بنَا فُرصةً عَظيمةً،تَحِلُّ بنَا في كلِّ لَيلَةٍ مِن لَيَالِي هذَا الشَّهْرِ الكَريمِ خُصُوصِيَّةٌ لَه مِن بَينِ لَيَالِي وأَشْهُرِ العَامِ، إنَّهَا فُرصَةُ الْعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ ففِي كُلِّ لَيلةٍ مِن لَيالِي هذَا الشهْرِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، يَوَفَّقُ مَن شَاءَ اللهُ مِن عِبَادِهِ مِمَّنْ حَقَّقُوا حَقِيقةَ الصِّيامِ والقُرْبِ مِن الرحمنِ بأَنْ يُعْتَقُوا مِنَ النَّارِ،وهذِهِ فُرْصَةٌ عَظِيمةٌ ومِنْحَةٌ كَبِيرةٌ يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ هَاجِسَ الإِنسَانِ فِي هذَا الْمَوْسِمِ العَظِيمِ أَشَدَّ مِن هَاجِسِ التَّاجِرِ الذِي يَفِدُ عليِهِ مَوْسِمٌ مِن مَوَاسِمِ التِّجَارَةِ.
غَداً تُفْتَحُ أبْوَابُ السَّمَاءِ, فَرمضَانُ شهرُ اسْتجَابةِ الدَّعَواتِ, فهنَاكَ إعْلانٌ إلَهِيٌّ بأنَّ دعَوَاتِ الصَّائِمينَ مُسْتجَابةٌ،فاللهُ تعَالى يقُولُ بعد آيَاتِ الصيامِ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، ويقولُ : "ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ العَادِلُ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ".
فَكَمْ مِن دعْوَةِ اسْتُجِيبَتْ في رَمَضَانَ، وكَمْ مِنْ أُمْنِيَّةٍ تحقَّقَتْ بالدَّعَوَاتِ فِي رمَضَانَ،وكَمْ مِنْ كُرْبَةٍ كُشِفَتْ بالدعوَاتِ في رَمضانَ،وكَمْ مِنْ حَاجةٍ نَالَهَا أصْحَابُهُا بالدَّعواتِ فِي رمضانَ.
غَداً -أيهَا المؤمنونَ- تَحِلُّ بنَا البركَاتُ،فبَرَكاتُ رمضَانَ لاَ يعْلَمُ عدَدَهَا إلاَّ اللهُ، ولاَ يَقْدِرُ أَحدٌ منَ البشَرِ على حَصْرِهَا، ففِي الحديثِ القُدْسِيِّ قَالَ رَسُولُ اللهِ :"كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي" مُتَّفَقٌ عليهِ. فمَاذَا تَتَوَقَّعُ أنْ يكُونَ جَزَاءُ اللهِ تعَالى للعَبدِ؟ وماذَا تتوقَّعْ مِنَ الكَريمِ الجليلِ القادرِ إذَا وَعَدَ بعَطَاءٍ كَبيرٍ لَمْ يُحَدِّدْ مقْدَارَهُ؟! اسْرَحْ بخَيَالِكَ حيثُ شِئْتَ فلَنْ تَصِلَ إِلى نِهَايةِ ذَلكَ العَطَاءِ!
غَداً يَهِلُّ علينَا رمضانَ-أَيُّهَا الإِخْوَةُ فِي اللهِ- فيَنْبَغِي أَنْ نَسْتَقْبِلَهُ بِالْفَرَحِ بِإِدْرَاكِهِ، لِأَنُّهُ فَضْلٌ مِنْ رَبِّكَ أَنْ تُدْرِكَ هَذَا الشَّهْرَ.
فكمْ مِن قُلُوبٍ تَمَنَّتْ، وكمْ منْ نُفُوسٍ حَنَّتْ أنْ تَبْلُغَ سَاعَاتِهِ ولحظَاتِهِ، لكِنْ دَاهمَهُمُ الْموتُ فهُمْ غُرَبَاءُ سَفَرٍ لا يَنْتَظِرُونَ، إنَّ مِنْ رحمَةِ اللهِ بنَا أنْ أَخَّرَنَا لِبُلُوغِ هذِه الأيامِ، وأمْهَلَنَا فلَمْ يتَخَطَّفْنَا الموتُ كمَا تَخَطَّفَ أُناسًا غَيرَنَا، فلوْ تَأَمَّلنَا قليلًا في حالِ بعضِ أقارِبِنَا أوْ جِيرَانِنِا أوْ مَعَارِفِنِا مِمَّنْ هُمُ الآنَ تحتَ الثَّرَى مُرْتَهَنُونَ بأعْمَالِهِمْ، لَعَرفَ الوَاحِدُ مِنَّا قَدْرَ هذهِ النعمةِ.
أينَ منْ صَامُوا مَعَنَا فِي العَامِ الماضِي، وهُمْ أقوياءُ أشِدَّاءُ؟ وهمْ الآنَ على حَالٍ مِنَ السَّقَمِ أوِ الضَّعْفِ، أسَرَتْهُمْ أسِرَّةُ المرَضِ والدَّاءِ.
وهذهِ الفرحَةُ لمْ يُدْرِكْهَا أولئكَ الذينَ مَاتُوا قَبلَ قُدُومِ هذا الشَّهرِ الكَريمِ، بأَمْرَاضٍ أهْلَكَتْهُمْ أوْ حَوَادِثَ مُرُورِيَّةٍ قَتَلَتْهُمْ.
غَداً-أيها المسلمونَ- تَتَغَيَّرُ أحْوَالُ الكَثِيرِ منَ النَّاسِ فإنَّ أبْرَزَ مَلامِحِ رمضَانَ، ذلكَ التَّغْييرُ الكبيرُ الذِي يطْرَأُ علَى الحيَاةِ، فَأَوْقَاتُ الأكْلِ والشُّرْبِ والنَّومِ تَتَغَيَّرُ، وأوقاتُ العملِ كَذلكَ، والعجيبُ أنَّنا نَستطِيعُ التَّكَيُّفَ بسُرعةٍ معَ كُلِّ هذا التغيِيرِ.
أخِي الكريمُ... إنَّهَا لفُرصَةٌ عَظِيمةٌ حِينَما تَلْتَزِمُ بشَرعِ اللهِ وتنقَطِعُ عنْ تنَاولِ ما حرَّمَ اللهُ عليكَ امْتِثالًا وطاعةً لربِّكَ عزَّ وجلَّ، إذَنْ أنتَ تستطيعُ الإِقْلاعَ عنْ كثيرٍ مِنَ المعَاصِي الَّتِي كنتَ تفْعَلُهَا، وذلكَ بالعَزِيمةِ، والإصرارِ فلا تَضْعُفْ ولا تَتَرَدَّدْ في التَقَرُّبِ إلى اللهِ في هذَا الشهرِ الكَريمِ.
والمُشْكِلةُ -أيها الإِخوةُ- أنَّ بعضَ النَّاسِ يدخلُ عَليهِ رمضانُ ويخرُجُ ولَمْ يتغَيَّرْ شَيءٌ منْ حَيَاتِهِ إلى الأفضَلِ، إنَّ هؤلاءِ لَمْ ينجَحُوا في اختِبَارِ التغييرِ الذي أرادَهُ اللهُ رحمةً بِهمْ، وشَفَقَةً عليهِمْ، ووسيلةً لنجَاتِهِمْ يومَ الدِّينِ، وَلَمْ يتَمَكَّنُوا منِ اغْتِنَامِ هذهِ الفُرصةِ لِتَزْكِيَةِ النُفوسِ، فنجدُ البعضَ يصُومونَ هذهِ الأيامَ بدَافِعِ العَادةِ الموْرُوثَةِ، وبعْضُهُمْ يصُومُونَ وأحْيَانًا لا يُصَلُّونَ، أوْ يَصُومُونَ ولا يَتَوَرَّعُونَ.
غداً -أَيها الإخوةُ-تَنْشَطْ دَوْرَةٌ مكثَّفةٌ وعَميقَةٌ للارْتِقاءِ بالأخلاقِ والتعَامُلِ والسلوكِ، فالمسْلِمُ في رمضانَ لا يُمسِكُ عنِ الأكلِ والشربِ والشَّهوةِ فحَسْب، وإنَّما يُمسِكُ سَمْعَهُ وبصَرَهُ ولسَانَهُ عَن كلِّ مَا يُنَافِي الكَمَالَ، فالصَّومُ جُنَّةٌ وحِمايَةٌ عنِ الوقُوعِ في الزَّلاَّتِ،قال :"الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَسْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ" متفقٌ عليهِ،
وقالَ جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ الأنصَارِيُّ رضي الله عنهما:"إذَا صُمْتَ فلْيَصُمْ سَمْعُكَ وبصَرُكَ ولسَانُكَ عنِ الكَذبِ والمحَارمِ ودَعْ أذَى الْجَارِ وليَكُنْ عليكَ وقَارٌ وسكِينةٌ، ولا تَجعلْ يومَ صَوْمِكَ ويومَ فِطْرِكَ سَواء.
عبادَ اللهِ... سَأَلَ أبُو أُمَامَةَ البَاهِلِيُّ رضي الله عنه رسولَ اللهِ  فقال: مُرْنِي بأَمْرٍ آخُذُهُ عنْكَ، يَنفَعُنِي اللهُ بهِ، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"عليكَ بالصَّومِ، فإنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ"،
نَعَمْ الصيامُ لا ‌مِثْلَ لَهُ فِي إِصْلا‌حِ القُلوبِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَدَفْعِ النَّفسِ الأمَّارةِ والشيطانِ، لا مِثْلَ لَه في كَثْرةِ الثوابِ ورفعِ الدَّرجاتِ وتكفِيرِ السيئاتِ، ولا ‌مِثْلَ لَه فِي إشاعةِ الرَّحمةِ بينَ المسلمينَ والشُّعُورِ بِهِمْ والتَّسَاوي بَينَهُمْ، لا مِثْلَ لَه فِي معْرِفةِحَاجَةِ إخْوَانِهِ الفقَرَاءَ وموَاسَاتِهِمْ والإحسانِ إليهم,ولا مِثْلَ لَه في تَعوِيدِ النَّفسِ علَى الأخلاقِ الكريمةِ كالصبرِ والحِلْمِ، والجُودِ والكَرمِ، ومجَاهَدَةِ النَّفسِ فيمَا يُرْضِي اللهَ ويقَرِّب إليهِ، ولا‌ مِثْلَ لَه في إصْلا‌حِ الأ‌َبْدَانِ وحِفْظِ عَافِيَتَهَا وبقاءِ صحَّتِهَا، إلى غيرِ ذلكَ مما تَضَمَّنَهُ هذا الحديثُ العَظِيمُ.
فالمُسْلِمُ-يا عبادَ اللهِ- في رمضانَ.. حَسنَاتُهُ مُضَاعَفَةٌ إِلى حَدٍّ لا يعْلَمُهُ إلاَّ اللهُ, وذُنُوبُهُ مَغفُورَةٌ، ودُعاؤهُ مستَجَابٌ، ومُرَشَّحٌ للعِتقِ في كلِّ لَيلةٍ، والخَيْرَاتُ تَتَعَرَّضُ لَه في كلِّ حِينٍ...
فاللهم يا كريم يا رحمن بلغنا رمضان، واجعلنا فيه من المعتَقين من النار، اللهم أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، واجعلنا بفضلك ممن يصومه ويقومه إيمانًا واحتسابًا.
بَاركَ اللهُ لي ولكُمْ...





الخطبة الثانية
أما بعد: فمع اقترابِ شهر رمضانَ جديرٌ بنا أن نَقِفَ مع عملٍ صالحٍ أبرَّ وأتقى، وأزكى وأبقى، هو: إصلاح القلب.
ما أحوج هذه القلوب التي غزَتْها الشهوات والشبهات أن تَتعاهدَ وتُغسَل قبل موسمِ رمضان، لتذوق حقًا طعم رمضان، وتعيشَ صدقًا روحانية رمضان.
ما أسعدنا إذا دخل علينا رمضان وقلوبُنا تتلألأ بياضًا وطِيبة وطهارة، ذلك العمل الصالح، الذي ينفع صاحبه ويبقى [يوم لا ينفع مال ولا بنون*إلا من أتى الله بقلب سليم].
الكلُّ منا يطمح في رمضان لمغفرة الرحمن، وهل الصيامُ والقيامُ إلا لأجلِ بلوغِ هذا الهدفِ المنشود، وصاحبُ القلبِ السليمِ هو قريبٌ من نظِر الرحمن، فهو أقربُ وأحرى من غَيرِه بالرحمةِ والغفران،
فشهرُ رمضانَ الذي أنزل فيه القرآنُ يحتاجُ إلى قلوب سليمة لتعيش مع هذا القرآن، يحتاج إلى قلوب نقية، تقلِّبها آيات الوعيد، فينبضُ لها القلب خاشعًا، وترتدُّ لها الجلود مُقشعرَّة، تعظيمًا وإجلالا لله الواحد القهار.
إصلاح الباطن يا عباد الله يعني أن يتقلَّبَ القلبُ في أعمالٍ خَفيَّات، من الإخلاص والتوكل والخوف والمراقبة، إلى غير ذلك من الأعمال السِّرية التي لا يراها الناس، والتي يجزي عليها ربُّ الناسِ الجزاءَ الأوفى.
إصلاح الباطن يعني أن يُنفضَ من القلب نبضاتُ الكِبْرِ والحسدِ، وخطراتُ الغرور والاستعلاء، ونارُ الغلِّ والشحناء.
إصلاح الباطن يعني أن يكون للعبدُ إحساسٌ مُرْهَف، على تفريطه في طاعة الله، فشبح التقصير لا يغادر خواطره، فهو يرجو أن يُغيِّرَ من حاله إلى الأحسن، وأن يسعى جِدًّا وصدْقًا للآخرة حقَّ سعيها، فيلتحقَ مع ركب الطائعين، ويُذلِّلَ وجهه مع الساجدين القائمين.
إصلاح الباطن يعني أن تُخالجَ القلبَ حسراتُ الندمِ على ما مضى وكان، في أيامِ الغفلةِ والعصيان،
إصلاح الباطن يعني أن تكون بين جنبي العبدِ نفسٌ لوَّامة، تُحاسب صاحبَها على كلِّ تقصير، ولا تَستهينُ بكل حقير، وتؤزُّه نحو الخير أزَّا.
فلنفتحْ صفحةَ مصارحةٍ، وليسائل كلٌ منَّا نفسه:
ما حالُك مع خبايا القلب وما يُكنُّه الضمير؟!، هل تفقَّد كلُّ واحدٍ منَّا باطنَه، فرأى أدواءً جاثمةً في قيعان قلْبه؟!، مَن منَّا وقف مع نفسه خائفًا؛ لأنه استشعر داء العُجْب والكِبْرِ يدبُّ في قلبه؟!، مَنْ منَّا مَنْ صارح نفسه في لحظة مُحاسَبة وخلوة عن عقارب الحسَد الذي يتحرك بين جوانحه؟!، هل تفقَّدنا القُلُوب من شهوة الرياء وحب الظهور؟!، وهل تفقدنا الصدور من خَطَراتِ الاستعلاء ووساوس الغرور؟!
لا تلتفت يا عبد الله يمينًا وشمالا، وتظن أنَّ هذه أدواءً قد بُلي بها غيرك، وعوفيت منها، فالجميع يعاني قدرًا من هذه الأمراض، وتمر به أشياءُ من هذه الأسقام، قلَّ ذلك أو كثر، وإنَّما السعيد مَن اسْتَدْفعَها، والشقيُّ مَن أهملها، وتركها تجثم وتغور جُذُورها.
ها هو رمضان قد اقتربتْ أيامُه، فجدِّدوا فيه القلوب، وعلِّقوها بعلام الغيوب.
فيا أخي: سامح الخَلْقَ، وأصدر عفوًا عامًا لكل من بينك وبينه خصومه، فهذا وربي عمل بارٌّ صالح، استحقَّ به أحدُ الصحابة الجنة.
قليلٌ ويعلن دخول رمضان، فإن أدركناه فلنحمد الله على بلوغه، وإن كان غير ذلك فاللهم ارحم منقلبنا إليك، فكم من نفوس أمَّلَتْ إدراكه فأدركتها المنايا [ثم ردُّوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين].
صلوا وسلموا .........
المشاهدات 1034 | التعليقات 0