مراقبة الله في الخلوة

وليد الشهري
1443/04/12 - 2021/11/17 06:17AM

مراقبة الله في الخلوة

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين .

     (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )، ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً )، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً )

أمــــا بعــــــــد ،،

     فإذا أراد شخص أن يعصيَ الله تعالى بعيداً عن أعينِ الناسِ لينظرَ في مقطعِ جوالٍ مثلاً، أو يبحثَ في موقعٍ مشبوه، أو يرتكبَ أيَّ معصيةٍ كانت، تجده ينظرُ إلى اليمين ليتأكدَ هل يراه أحد؟ ثم ينظر إلى الشِّمال ويتأكد، ثم ينظر عن أمامِه وعن خلفِه، وأحياناً يتأكد من قفلِ الباب ليرتكبَ المعصية .. لكن !! نسي أن يتأكدَ من جهةٍ واحدة هي جهة العلو! نسي أن ينظرَ إلى السماء، نسيَ أن يتأكدَ من الجهةِ التي ينظرُ اللُه تعالى إليه منها .

     ألا إنه أمرٌ العظيم، ألا وهو مراقبةُ الله في الخلوة، ما الخلوة؟ ما هي؟

     هي الحالُ التي يشعرُ فيها العبدُ أنه لا رقيبَ عليه إلا الله، فهي علمُ القلبِ بقُربِ الربِّ إذ يقول : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) [ق:16] لذا كانت مرتبة الإحسان الرفيعة : أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه فإن لم تكن تراهُ فإنه يراك، في السنن: قال رجل : يا رسول الله ما تزكيةُ النفس؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ( أن يعلمَ أن الله عز وجل معه حيث كان ) [السلسلة الصحيحة:3 /38]

    هناك من عبادِ الله من يخلو لمعاتبةِ نفسِه ليزكيَها، ويرفعَ شأنَها، ويطهرَها من دنسِ المعاصي، ومنهم من يخلو لأجلِ المعصيةِ فيدنسُ نفسَه ويملأُ قلبَه ظلمةً ووحشة .

     الخشيةُ مقامٌ من مقاماتِ الأولياء، ومستوى عالٍ من مستوياتِ المؤمنين .

     مع الخشية لا يكون هناك فرقٌ عند العبدِ بين السرِّ والعلنِ حتى الخواطر .

    يُذكر عن أبي حامد الخلقاني أنه قال للإمام أحمدَ – رحمه الله - : يا أبا عبدِ اللهِ هذه القصائدُ الرقاقُ التي في ذكرِ الجنةِ والنارِ أيُّ شيء تقول فيها؟ قال : مثل أيِّ شيء؟ قال : يقولون :

إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني     وتُخفي الذنبَ عن خلقي وبالعصيان تأتيني

فقال : أعد عليّ فأعدتُ عليه، فقام ودخلَ بيتَه وردَّ الباب فسمعتُ نحيبَه من داخلِ البيتِ وهو يقول:

    إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني     وتُخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني

فبكى حتى أصبح له صوتاً كبكاء الأطفال، قال تلامذتُه: كاد الإمام يهلك من كثرةِ البكاء .

     يقولُ عليه الصلاة والسلام فيما رواه ثوبان - رضي الله عنه - : ( لأعلمنَّ أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامةِ بحسناتٍ أمثالِ جبالِ تهامة بيضاء فيجعلُها الله هباءً منثوراً، قال ثوبان – راوي الحديث - : يا رسولَ الله صفهم لنا، جَلِّهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال : أما إنهم إخوانُكم ومن جلدتِكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ) [السلسلة الصحيحة:505] يرتكبون المعصية إذا كانوا بعيدين أعينِ عن الخلق، لكن أين الله!! أين الجبار – جل جلاله - ؟ أين القهار؟ أين السميع العليم؟ أين الواحد الأحد ؟ حين يُذَكِّرُنا نبيُّنا محمد – عليه الصلاة والسلام – بقوله : ( اتق الله حيثما كنت) [أحمد والترمذي وصححه الألباني] .

     إنَّ مما يحيي الفؤادَ ويُذَكِّرُ القلبَ ويُعينُ على مراقبةِ الله – سبحانه وتعالى - تأملُ آياتِ اللهِ تعالى في كتابِه الكريم، فقد قال جل وعلا : ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) [الرعد:10]، وقال تعالى: ( وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) [يونس:61]، وقال تعالى : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنت تعملون ) [التوبة:105]، وقال تعالى : ( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ) [البقرة:235]، وقال تعالى : ( وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ) [طه:7]، وقال تعالى : ( إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ) [آل عمران:5]، وقال تعالى : ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم ) [النساء:108] وقال تعالى : ( أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ) [الزخرف:80]، وقال - سبحانه - : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلم إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) [الأنعام:59]، إلى غير ذلك من الآيات التي تحيي القلبَ لمن كان له قلب، والتي تبثُّ الحياةَ لمن كانت له حياة، تقول عائشة – رضي الله عنها – : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادِلةُ إلى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول [صحيح النسائي وابن ماجه] فأنزل اللهُ – عز وجل – ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) [المجادلة:1]، سبحان من لا تواريه سماءٌ سماءً ! ولا أرضٌ أرضاً ! ولا بحرٌ ما في قعره !  ولا جبلٌ ما في وعرِه ! سبحانه يرى النملةَ السوداءَ على الصخرةِ الصَّمّاءِ في الليلةِ الظلماءِ إذ هو الذي خلقها وأنشأها وأوجدها .

     قال حميدٌ الطويل : لئن كنت عصيت الله خالياً ظننت أنه يراك لقد اجترأت على أمر عظيم، ولئن كنت ظننت أن الله لا يراك فقد كفرت ! أ.هـ. هل يستطيع أحدٌ أن يعصيَ ملِكاً من ملوكِ الدنيا على بساطِ مُلكِه يأمره بالأمرِ فيقول له : لا، فكيف بملِكِ الملوك؟ ونحن خلقُه وعلى أرضِه ونأكل من رزقِه؟ تذكر أن الأعضاءَ تشهد، والأرضَ تشهد، والملائكة َ تشهد، واللهَ يشهد، وكفى بالله شهيداً .

     أيها المؤمن .. تذكر أن عينَ اللهِ تلاحقُك أينما ذهبت، وفي أيِّ مكانٍ حللت، خلف الحيطان ووراءَ الجدرانِ، وفي الخلواتِ والجلوات، فأنت مراقبٌ بأشدّ من تقنيةِ الكاميرات، قال كعبٌ: " استحيوا من الله في سرائركم كما تستحيون من الناس في علانيتكم " .

     يتبيَّنُ الإيمانُ ويتمحَّصُ إذا كان الشخصُ وحده، العبرةُ إذا كنت خالياً بعيداً عن أعين البشر، لأن أغلبَ الناسِ لا يرتكبون المعصيةَ أمام الخلق

وإذا خـلـوت بريـبة في ظلـــمـة          والنفس داعية إلى الطغيـان

فاستحيي من نظر الإله وقل لها          إن الذي خلق الظلام يراني

     يقول عليه الصلاة والسلام : ( استحيوا من الله حق الحياء، من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليَذْكرِ الموتَ والبِلى، ومن أراد الآخرة تركَ زينةَ الحياةِ الدنيا، ومن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء ) [أحمد والترمذي وحسنه الألباني]، وفي الحديث الآخَر : ( ثلاث منجيات – وذكر منها – خشية الله في السرِّ والعلانية ) [السلسلة الصحيحة:1802] .

     يقول وهيب بن الورد : " اتق الله أن يكون اللهُ - تعالى - أهونَ الناظرين إليك " أي نظرُ الناس يَهمُّه ويُجلُّه ويقدّرُه، أمّا نظرُ اللهِ إليه فلا يبالي به، بل ربّما بعضُهم لم يفكرْ فيه أصلاً.

     إخوة الإيمان ... صلاحُ السريرةِ أصلُ قَبولِ كلِّ عمل؛ لأنه دليل الإخلاص، فمن أصلح سريرته فاح عبيرُ فضلِه، وعبقت القلوبُ بنشرِ طِيبه، وفسادُ السريرةِ لا ينفع معه الصلاحُ الظاهريُّ فقط، يقول ابن القيم : أجمع العارفون بالله أن ذنوبَ الخلواتِ هي أصلُ الانتكاسات، وأن عباداتِ الخفاء هي أعظمُ أسبابِ الثبات، ويقول ابن رجب : خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، ويقول أبو الدرداء – رضي الله عنه - : إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي اللهُ بغضَه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر - نعم قد يحبه من هو على شاكلته لكن قلوب المؤمنين والمتقين لا تحبه ولا تريد أن تجالسه - ، وقال أمير المؤمنين عثمان – رضي الله عنه : ما أسَرَّ عبدٌ سريرةً إلا أظهرها الله على قسمات وجهه أو في فلتات لسانه، قال ابن الجوزي : رأيت أقواما من المنتسبين إلى العلم أهملوا نظر الحقِّ – عز وجل – إليهم في الخلوات فَمَحا مَحاسنَ ذكرِهم في الجلوات، فكانوا موجودين كالمعدومين لا حلاوةَ لرؤيتهم، ولا قلبَ يَحنُّ إلى لقائهم .

    عباد الله .. إن الخاسر الذي أبدى للناس صالحَ عمله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد، إن من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس .

    إنا نقول لمن يشتكي من ذنوب الخلوات، لا تُمكّن خواطرَ القلبِ الرديئةِ من الاستمرار، لأنَّ الخاطرةَ تأتي بالفكرة، والفكرة تأتي بحديث النفس، وحديثُ النفس يأتي بالهم، والهمُّ يأتي بالعزيمة، والعزيمةُ تأتي بالفعل فيقع المحظور، يقول مسروق : "من راقب الله في خطرات قلبه عصمه الله في حركات جوارحه" وهذا هو الفهم من قوله تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) [العنكبوت:69] .

     إن مما يعين على مراقبة الله تعالى أن هذا العبد كما جعل بينه وبين الله سراً سيئاً أن يجعل بينه وبين الله سراً حسناً وخبيئةً من العمل الصالح يستعين بها بإذن الله على ترك الأعمال السيئة، قال مسلم بن يسار : ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله تعالى، وقيل لمالك بن مغول وقد جلس في البيت وحده : أما تستوحش؟ قال : ويستوحش مع الله أحد؟

    أخي المؤمن .. أخي في الله.. هل تريد أن تمحوَ الخطايا السابقة؟ أتود أن يغفر لك ما سلف وكان من الذنوب والعصيان؟ إذا دعتك نفسُك لفعل معصية في الخلوة فاكبح جماحها، وانهها عن غيِّها واتركها لأجل الله تعالى، وأبشر بقوله تعالى : ( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة أجر كبير ) [الملك:12] اتركها لأجل الله وخشيةً من الله، لا مجاملةَ لأحد، ولا حياءَ من أحد، إنما حياء من الواحد الأحد الذي يقول – جلَّ شأنه – ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) [الرحمن:46] .

     هل تريد أن ترى ربك في جنات عدن؟ أتود أن تنظر إلى الخالق العظيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؟ هل حدثتك هذه الأمنية وأنت تتقلب على فراشك؟ أو إذا قمت إلى صلاتك؟ أو مع ربك في خلواتك؟ عليك بخشية الله في السرّ وأبشر بقول الله – تعالى : ( من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب * ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود * لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ) [ق:33-35] والمزيد هو النظر إلى وجه الله – جل وعلا – فإنه لما ترك المعصية أثناء الخلوة وعلم أن الله ينظر إليه، وهبه الله وأكرمه بالنظر إليه .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطـبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد ،،

     فإن المسلم إما أن تكون حاله كما هي في العلانية فهذا هو المطلوب، أو تكون حاله في الخلوة أفضل وهذا مقام عالٍ للصالحين، أو يكون المسلم في الخلوة أقل حالاً منه في العلانية فهذا هو المذموم، فإن الوَرَع في العلانية له أسباب تجلبه، وقد يكون لغير الله فيه حظّاً، أما الورع في الخلوة فلا يبعث عليه إلا مخافة الله تعالى : ( ما لكم لا ترجون لله وقاراً * وقد خلقكم أطوارا ) [نوح:13-14]، وعلى هذا يجب أن نربيَ أبناءنا على ذلك، فلا يشعر الابن أن فعل الطاعات وترك المنهيات من أجل مراقبة الأب أو الأم، فإنه إن اعتاد على مراقبتك التامة فإنه ربما يترك الطاعة أو يقصر فيها إذا ابتعد الرقيب عنه من الخلق، لأن الأب عَوَّدَه من حيث لا يشعر على مراقبته هو لا مراقبة الله .

    إن من أراد أن يعرفَ مقامَه عند ربه فلينظر أين مقامه هو من خشية ربه وطاعته، فمن وُفِّق لذلك ففضلٌ من الله، ومحضُ نعمةٍ وكرم، فالخلقُ خلقُه، والأمرُ أمرُه، والملكُ ملكُه، والحكمُ حكمُه، يقدِّمُ من يشاء بفضله، ويؤخرُ من يشاء بعدله، ولا يسأله مخلوقٌ عن علةِ فعله، فما عليك إلا أن تسأل مولاك من هذا الفضل وهذه الهداية التي يسعد أصحابُها في الدنيا والأخرة، والله قريب ممن سأله، سميع لمن دعاه .

صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه ...

 

المرفقات

1637129807_خطبة ( 2 ) مراقبة الله في الخلوة.docx

المشاهدات 1158 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا