مرافقةُ النبي في الجنة

علي الذهبي
1433/03/09 - 2012/02/01 00:55AM
مرافقةُ النبي في الجنة
الحمد لله ربّ العالمين، الذي خلق الجنة وأعدها لمن أطاعه واتقاه، وخلق النار وأعدها لمن عصى وتكبر وابتعد عن طاعة الله، أحمده سبحانه أوضح لنا طريق الحق وأمرنا باتباعه، ونهانا أن نسلك سبلَ الغواية والضلال، لأجل الأمر والنهي أنزل الكتب وأرسل الرسل لئلا يكون للناس على الله حجة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل وهو الذي لا ينطق عن الهوى: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى))، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى))، اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، فاتقوا الله تعالى حق التقوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .
معاشر المؤمنين، لقد خلق الله الجنة وجعلها درجات، قال تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ، وقال جل وعلا: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ، وقال تعالى: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ، وجعل بين الدرجة والتي تليها كما بين السماء والأرض, عن ‏ ‏عبادة بن الصامت ‏ أن رسول الله ‏‏ ‏قال: ((‏الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ، -وَقَالَ عَفَّانُ: كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ-، وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا دَرَجَةً، وَمِنْهَا تَخْرُجُ الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ، وَالْعَرْشُ مِنْ فَوْقِهَا، وَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ)) رواه أحمد. وفي حديث أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ؟ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ، قَالَ: ((يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى)). وعن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: ((إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب؛ لتفاضل ما بينهم))، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم! قال: ((بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) رواه البخاري.
عباد الله، الفردوس هو أعلى درجات الجنة، وهو تحت عرش الرحمن عز وجل، ومنه تخرج أنهار الجنة الأربعة، وأعلى مقام هو مقام الوسيلة، وهو مقام لا ينبغي إلا لعبد من عباد الله؛ فمن تابع المؤذن ثم سأل الوسيلة لرسول الله حلت له شفاعته يوم القيامة. ثم تليها غرفُ أهلِ عليين وهي قصور متعددة الأدوار، من الدر والجوهر، تجري من تحتها الأنهار، وهي منازل الشهداء والصابرين من أهل البلاء والأسقام والمتحابين في الله. ثم باقي أهلِ الدرجات، وأدناهم منزلةً من كان مُلْكُه مثلُ عَشَرَة أمثالِ أغنى ملوك الدنيا.
أيها المؤمنون، ما من أحدٍ من المسلمين إلا ونفسُه تتوق إلى الدرجات العلا من الجنة، ويتمنى مرافقة النبي في أعالي الجنان, فمرافقةُ النبي في الجنة منزلةٌ سامية، ومرتبةٌ عالية، ومكانةٌ رفيعة؛ فيا قرة عين من حازها! ويا فوز من حظي بها!
فينبغي للمسلم أن يكون ذا همة عالية، إن كانت قدمه على الثرى فهمته في الثريا، وإن كان يعيش في الدنيا فهمه الأول الفوز في الآخرة، وهذا ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وسأسوق لكم مثلين من أصحاب تلك الهمم العالية:
المثل الأول: عبد الله بن مسعود ، روى أن رسول الله دخل الْمَسْجِدَ وَهُوَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وهو يُصَلِّي، وَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ النِّسَاءَ، فَانْتَهَى إِلَى رَأْسِ الْمِائَةِ فَجَعَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَدْعُو وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَقَالَ النَّبِيُّ : ((اسْأَلْ تُعْطَهْ اسْأَلْ تُعْطَهْ))، ثُمَّ قَالَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ))، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ لِيُبَشِّرَهُ وَقَالَ لَهُ: مَا سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَارِحَةَ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَمُرَافَقَةَ مُحَمَّدٍ فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ.
المثل الثاني: ربيعة بن كعب الأسلمي، كان ربيعة من فقراء الصحابة وكان من أهل الصُّفة، وكان ربيعة ملازمًا لخدمة الرسول يبيت عند باب بيته لأداء خدمته، فيأتيه بما يطلب من ماءٍ للوضوء وغير ذلك، وبقي على هذه الحالة حتى انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى، أراد النبي يومًا أن يكرمه بما يفرحه ويخفف عنه فقره، فقال لربيعة: ((سل)) أي: اطلب ما تحتاجه وتتمناه نفسك، ولعل أول ما يتمناه الفقير المعدم أن يرزق مالًا يتمتع به أو بيتًا يسكنه، وهو مطلب لا عيب فيه بالنسبة لفقير محتاج، لكنَّ ربيعةَ كانت همته أعلى من ذلك كله، قال للنبي : أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، فقَالَ النبي : ((أَوَ غَيْرَ ذَلِك؟)) قال ربيعة: هُوَ ذَاكَ، فقَالَ له النبي : ((فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُود)).

تلك -عباد الله- النفوس الزاكية، والهمم العالية، التي تؤثر الآخرة على العاجلة
أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا إيمانا صادقا يباشر قلوبنا لا يرتد، وعملا صالحا خالصًا لا يُرد، ونعيما حلالًا لا ينفد، ومرافقة نبينا في أعلى جنة الخلد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم

الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس لعباده المؤمنين نزل، ونوع لهم الأعمال الصالحة ليتخذوا منها إلى تلك الجنات سبلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي شمر للحاق بالرفيق الأعلى والوصول إلى جنات المأوى ولم يتخذ سواها شغلا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تتابع القطر والندى وسلم تسليما..
أما بعد: عباد الله، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
عباد الله، سأذكر بعض الأعمال الجليلة التي تكون سببا لدخول الجنة بعد رحمة الله تعالى، وبها تُنال مرافقة الأنبياء والصالحين وأفضلهم نبينا محمد ، من تلك الأعمال:
كثرة السجود لله رب العالمين بأداء الصلوات المكتوبة, والإكثار من النوافل, كما بين ذلك النبي لربيعة بن كعب الأسلمي، وعن مَعْدَان بْن أَبي طَلْحَةَ الْيَعْمرِي قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ. أَوْ قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: ((عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ؛ فَإِنَّكَ لاَ تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً)).
ومن أسباب دخول الجنة ومرافقة الأنبياء: طاعة الله تعالى والكف عن محارمه، قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ، وقال : ((كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَبَى))، قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)) رواه أحمد.
ومنها: حسن الخلق، قال : ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون))، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: ((المتكبرون)) رواه الترمذي. وسئل رسول الله عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، فقال: ((تقوى الله وحُسن الخلق)).
ومما يعين على دخول الجنة: محبةُ الله عز وجل ومحبةُ رسوله ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: ((وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟)) قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: ((فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ))، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الإِسْلاَمِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِي : ((فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ))، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ.
وعلامة صدق المحبة لله عز وجل وللنبي : طاعةُ الله وطاعةُ رسوله واتباعه، ولهذا رتب على اتباعِه وطاعتِه مرافقتَه في الجنة، قال الله عز وجل: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ، قال ابن كثير: "أي: من عمل بما أمره الله به ورسوله ، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله ، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقًا للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة، وهم الصديقون ثم الشهداء ثم عموم المؤمنين، وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم".
عباد الله، ومن الأعمال الجليلة التي تقرب من رسول الله في الجنة: كفالة اليتيم، ففي صحيح البخاري من حديث سَهْل بْن سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا)) وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا. قال ابن بطال: "حقٌ على كل مسلم يسمع هذا الحديث أن يرغب في العمل به؛ ليكون في الجنة رفيقًا للنبي ولجماعة النبيين والمرسلين، ولا منزلة عند الله في الآخرة أفضل من مرافقة الأنبياء".
ومن الأعمال الجليلة: رعاية البنات والقيام عليهن، ففي صحيح مسلم من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ)) وَضَمَّ أَصَابِعَهُ.
تلك -عباد الله- بعض الأعمال الجليلة التي يتحقق بها القرب من النبي في الجنة، كما أن هناك أعمالًا أخرى عديدة يحصل بها دخول الجنة، وأعمالًا أخرى يكفر الله بها الذنوب، وهذا من سعة فضل الله ورحمته بعباده، فالمؤمن الذي حقق الإيمان وأدى الواجبات واجتنب الكبائر وعمل بما تيسر له من هذه الأعمال يرجى له أن يكون مرافقًا للنبي في الجنة.نسأل الله الهداية والتوفيق والسداد والإعانة، إنه جواد كريم.
المشاهدات 2641 | التعليقات 0