مدرسة الطّاعة في قصّة إبراهيم

الشيخ محمّد الشّاذلي شلبي
1432/03/22 - 2011/02/25 09:29AM
[font="]الترغيب في الحج[/font]
[font="]
[/font]

[font="] الأولى : مدرسة الطّاعة في قصّة إبراهيم[/font]
[font="] [/font]

[font="]الحمد لله الذي ندبنا إلى حج بيته الحرام، و شوّقنا إليه بالآيات القرآنية و أحاديث سيد الأنام، ثم جعله ركنا أساسيا من أركان الإسلام. فهو على الغنيّ المستطيع فريضة كفريضة الصلاة و الصيام، فمن أجاب داعي الله إليه فقد فاز بالأجر العظيم و مغفرة الآثام، و من أعرض فقد فاته الخير و الوقوف بين يدي الملك العلاّم، في أشرف مقام.. " و لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا و من كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين "..[/font]
[font="]نحمده و نشكره تعالى وهو القائل : " و أتمّوا الحج و العمرة لله "، و نشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وهو القائل : " إنّ الصفا و المروة من شعائر الله "، و نشهد أنّ سيدنا محمدا عبده و رسوله وهو القائل: " الحجاج والعمّار وفد الله، يعطيهم ما سألوا و يستجيب لهم ما دعوا و يخلف عليهم ما أنفقوا ".. فهيّا إلى الحج يا عباد الله.[/font]
[font="]اللهم فصل و سلم و بارك على سيّدنا محمد أفضل قانت و أوّاه و خير من تقرّب إلى الله بالحج و العمرة و الصلاة و الإنفاق في سبيل الله، تسليما كثيرا عليه و على آله و صحبه و التابعين لهم بإحسان ، ما عظّم الحاج ربّه بالتكبير و لبّاه.. " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين رؤوسكم و مقصّرين "..[/font]
[font="]عباد الله، لقد فرض الله عليكم الحج و العمرة إذا إستطعتم الزاد و الراحلة، و دعاكم إلى ضيافته في البيت العتيق حيث تنزل رحماته الشاملة و تتتابع بركاته النازلة، و قال لإبراهيم عليه السلام بعد أن فرغ من بناء الكعبة التي يؤمّها الناس للفريضة و النافلة: " و أذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا و على كل ضامر يأتين من كل فج عميق ". و ما من نبي إلاّ و قد حج بيت الله و زار البقاع المقدّسة و أدّى المناسك فيها كاملة. و كان العرب قبل الإسلام يعظّمون البيت و يحجّونه و يتقرّبون إلى الله عنده بأعمالهم الباطلة، فأرشدنا القرآن في مناسك الحج إلى الطريقة المستقيمة و حذّرنا من الطريقة المائلة، و من ذلك قوله تعالى: " فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم و إن كنتم من قبله لمن الضالين ".. و لكي نهتدي و نستقيم لابدّ لنا من استعراض قصّة إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام و ما تحتويه من دروس و عبر، و لنتخذ من القرآن منارا لنا أثناء عرضنا هذه القصّة البديعة، لأنّ القرآن هو المصدر الحقّ الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه. و لنبدأ من البداية..[/font]
[font="]المصادر العربية تقول أنّ مولد إبراهيم عليه السلام كان في بابل، و يصف المؤرخين بأنّها تقع بين دجلة و الفرات. و أرض بابل يقال لها " السّواد "، و مولد إبراهيم يعود إلى القرن السابع عشر قبل المسيح في عهد الملك نمرود بن كنعان بن كوش..و قيل في بعضالمصادر أن إبراهيم ولد في بلدة [/font][font="]أور[/font][font="] الكلدانية، وهي تعرف اليوم بإسم مغير. ثم رحل إبراهيم مع والده إلى جوار حارّان في أقصى ما بين النهرين غربا. و التاريخ يثبت أنه في الزمن الذي عاش فيه إبراهيم في العراق كانت حضارة بابل هي المسيطرة في العراق..[/font]
[font="]و قد كان لأهل بابل كثير من الآلهة يعبدونها.. من ذلك أنّ كل مدينة لها ربّ يحميها.. و كان الملوك يشعرون بشدّة حاجتهم إلى غفران الآلهة، فشيّدوا لها الهياكل و أمدّوها بالأثاث و الطعام و النبيذ.[/font]
[font="]في هذه البيئة عُرِفَ إبراهيم بصائب رأيه و وحي ربّه، أنّ الله واحد وأنّه المهيمن وحده على هذا الكون، لذلك عزم على هداية قومه و تخليصهم من هذه الأباطيل، فنصحهم و نهاهم عما هم فيه، و أراد أن يحرّرهم.. و هذا ما يذكره الله تعالى في قوله: " و لقد آتينا إبراهيم رشده من قبل و كنا به عالمين* إذ قال لأبيه و قومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون* قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين * قال لقد كنتم أنتم و آباؤكم في ضلال مبين*قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاّعبين* قال بل ربكم ربّ السماوات و الأرض الذي فطرهنّ و أنا على ذلكم من الشاهدين ".[/font][font="] ( الأنبياء 56.51[/font][font="] )[/font][font="].[/font]
[font="]و أمام إصرار القوم على شركهم، و بعد أن خصّ أباه بالنصيحة وهو أقرب الناس إلى قلبه، بإعتباره من ينحتها و يبيعها، و حذّره عاقبة أمره و كفره. أقسم على تحطيم الأصنام، وهي طريقة عملية أراد إظهارها لقومه ليقيم لهم الحجة على أنّها لا تضرّ و لا تنفع ولا تستطيع إلحاق الأذى بمن يصيبها بضرر. و إنحنى عليها ضربا بيده اليمنى فكسّرها بفأس و أبقى على الصنم الكبير، ليرجعوا إليه و يسألوه عمّا وقع لآلهتهم فلا يجيبهم، فيظهر لهم بطلان عبادة الأصنام.. اسمعوا هذه الآيات في سورة الصافات: " و إنّ من شيعته لإبراهيم. إذ جاء ربّه بقلب سليم * إذ قال لأبيه و قومه ماذا تعبدون * أئفكا آلهة دون الله تريدون * فما ظنّكم بربّ العالمين * فنظر نظرة في النجوم. فقال إنّي سقيم * فتولّوا عنه مدبرين. فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون* ما لكم لا تنطقون* فراغ عليهم ضربا باليمين ".[/font][font="]( الصافات93.83 )[/font][font="].[/font]
[font="]وصل إلى الحكّام نبأ الإعتداء عل الأصنام، فطالبوا بمحاكمة إبراهيم على مشهد من الناس، و جيء بإبراهيم فسأله الحكّام: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم. و بأسلوب حكيم يجيبهم على سؤالهم بأنّ محطمها هو كبيرهم، و أنّ الشاهد على فعله بقية الأصنام." فاسألوهم إن كانوا ينطقون. " و بعد مجادلة عقيمة قالوا له: إنّك تعلم أنّ هذه الأصنام لا تقدر أن تنطق فكيف تطلب منا أن نسألها ؟ حينئذ برزت حجّة إبراهيم مدويّة مجلجلة تقرع آذانهم و تفحم ألسنتهم بهذا الجواب البليغ: " قال أتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضرّكم. أفّ لكم و لما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون. [/font][font="]( الأنبياء 67.66 )[/font][font="] [/font][font="].[/font]
[font="]و أقام إبراهيم مدة ببلدة حارّان، تزوج أثناءها بسارة، و لكنه ضاق ذرعا بهذه البلدة لعدم استجابة أهلها لدعوته بإستثناء لوط و نفر قليل، فعزم على الهجرة منها. و سبب هذه الهجرة العداوة الشديدة التي حصلت بين إبراهيم و من آمن معه، و بين عبدة الأصنام، فتبرّأ منهم و أعرض عنهم. " فآمن له لوط و قال إنّي مهاجر إلى ربّي إنّه هو العزيز الحكيم ".[/font][font="] [/font][font="]( العنكبوت 26[/font][font="] )[/font][font="].[/font]
[font="]و عاد إبراهيم من مصر إلى فلسطين و معه زوجته و جارية لها تدعى هاجر، كانت هدية من ملك مصر و كانت نفس إبراهيم ترغب في ولد فدعا الله أن يهبه ولدا صالحا: " قال ربّ هب لي من الصالحين ". و كأنّ زوجته سارة شعرت بما يجول في خاطره فقالت له: إنّ الربّ حرمني الولد، فأرى أن تتزوج جاريتي هاجر لعلّ الله يرزقك منها ولدا، و كانت سارة قد تقدمت في السن، و كانت عقيما لا يرجى أن ترزق ولدا. تزوج إبراهيم هاجر فولدت له إسماعيل الذي وصفه سفر التكوين: و أما إسماعيل فقد سمعت قولك فيه و هاأنذا أباركه و أكثّره جدا جدا و يلد إثني عشر رئيسا و أجعله أمّة عظيمة.. و هذه تعتبر بشارة بأمّة محمد، فإنّ محمد من نسل إسماعيل و كذلك عرب الحجاز، و لم يتحقّق هذا الوعد في ذرّية إسماعيل إلاّ على يد محمد صلى الله عليه و سلم..[/font]
[font="]و قيل: إنّه لما ولدت هاجر إسماعيل، كان لإبراهيم من العمر 86 سنة، فتعلّق قلبه بولده و بزوجه، و أحسّت سارة بذلك فدبّت الغيرة في نفسها، كما أنّ هاجر بدأت تتيه عجبا و تعتزّ لهذا الولد، مما أثار الحسرة في وجدان سارة فطلبت من إبراهيم إقصاءهما عن وجهها لأنّ حياتها مع هاجر أصبحت لا تطاق.. و شاء الله أن يخلّص قلب إبراهيم من التعلّق بالزوجة و الولد ليكون خالصا لله سبحانه.. واستجاب إبراهيم لرغبتها، لأمر يريده الله، فأوحى إليه أن يأخذ هاجر و إسماعيل و يذهب بهما إلى مكة، و كان إسماعيل يومئذ رضيعا. و خرج ترشده إرادة الله و طال به المسير إلى أن أمره بالتوقّف في أرض فلات (خلاء) بعيدة عن العمران في المكان الذي سيبني فيه البيت الحرام. أنزلهما في هذا المكان المقفر الذي ليس فيه ماء ولا نبات ولا نماء، ثم تركهما و قفل راجعا.. فتتبعته هاجر ملتاعة و فالت: إلى أين تذهب؟ و لمن تتركنا بهذا الوادي؟ قالت ذلك مرارا مستعطفة وهو يمضي في سبيله و كأنه لا يهتمّ..عندئذ قالت: أالله أمرك بهذا ؟ قال: نعم.. قالت: إذن لا يضيّعنا الله، ثم رجعت إلى الوادي.. و إنطلق خليل الله و قلبه منفطر أسى على فراق زوجته و ولده، و لكن إرادة الله غلبت، فاستسلم لربّه و تابع سيره وهو يبتهل لربّه و يدعوه بهذه الكلمات التي يذكرها القرآن: " ربّنا إنّي أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم * ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم و ارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون * ربّنا إنّك تعلم ما نخفي و ما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ".. [/font][font="]إبراهيم 38.37 [/font][font="].[/font]
[font="]و المعنى: يا ربّنا إني أسكنت بعض ذريتي في وادي مكة تطبيقا لأوامرك حيث لا زرع فيه عند بيتك الذي سأبنيه لك و الذي ستحرّم التعرّض له و التهاون بشأنه.. يا ربّنا ما أسكنتهم هذا الوادي إلاّ ليقيموا الصلاة عند بيتك و ليؤدوا واجب العبادة لك وحدك، فاجعل يا ربّ قلوب الناس تميل إليهم و تعطف عليهم و ارزقهم في هذا المكان النائي بعض أنواع الثمرات ليشكروا لك نعمك.. ربّنا إنّك تعلم سرّنا و علانيتنا و تعلم ما أضمره من الحزن على فراق أهلي و ذريتي، و ما يخفى عليك من شيء مهما كان صغيرا سواء كان في الأرض و لا في السماء.. و من هنا إنطلقت الدروس و العبر من مدرسة الطّاعة، بداية بخضوع إبراهيم لأمر ربّه بالتخلّي عن زوجته و ولده و تركهما دون صاحب ولا معين بقليل من الزاد و الشراب،إلى أن نفذ فعطشت و عطش ابنها، و جعلت تنظر إليه وهو يتلوّى من الظمأ، فلم تحتمل هذا المشهد المؤلم فهبّت قائمة و سارت هائمة على وجهها تعدو و تهرول تكاد تفقد وعيها.. صعدت هاجر مكانا مرتفعا يعرف ب"الصفا" فنظرت فلم تر شيئا، فهبطت و سعت سعي الإنسان المرهق حتى أتت مكانا مرتفعا آخر يعرف ب"المروة" فنظرت فلم تر شيئا، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا، فعلت ذلك سبع مرّات.. قال عليه الصلاة و السلام: فلذلك سعى الناس بينهما.. أي بين الصفا و المروة في الحج و العمرة..[/font]
[font="]ثم لمّا أشرفت أخيرا على المروة سمعت صوتا فتلفّتت فإذا بملك من الملائكة وهو جبريل عليه السلام حسب العديد من الروايات عند موضع زمزم فبحث الأرض بجناحه الكريمة حتى ظهر الماء.. رأت هاجر هذا المشهد المثير، فغمرها الفرح و السرور، ثم جعلت تغرف الماء تسقي ولدها و تروي نفسها، ثم جعلت تحوضه بيدها و تقول للماء: زمي...زمي.. يقول صلى الله عليه و سلم : " رحم الله أمّ إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عينا معينا ".. و قال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإنّ ها هنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام و أبوه، و إنّ الله لا يضيّع أهله.. و هذا هو ثواب الإيمان و اليقين.. بأنّ الله لا يضيّعنا..[/font]
[font="]و شبّ الغلام و تعلّم العربية من قبيلة جرهم القادمة من اليمن بحثا عن الماء بعد ما تحطّم سدّ مأرب.. و بلغ السعي، ، وشاء الله سبحانه أن يخضع إبراهيم و ولده لإمتحان الطاعة.. فرأى إبراهيم في المنام أنه يذبح ولده.. و رؤيا الأنبياء شكل من أشكال الوحي، فعقد العزم على طاعة الله و عرض الأمر على ولده قال تعالى: " فلما بلغ معه السعي قال يا بنيّ إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك فانظر ماذا ترى ".. [/font][font="]الصافات 102 [/font][font="]. و كان الإبن بارا بأبيه مطيعا لربّه، فلم يتردّد في الإستجابة لأمر الله إذ كان جوابه: " قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ".. [/font][font="]نفس المصدر. [/font][font="][/font]
[font="]و حاول الشيطان ثني عزم إبراهيم عن تنفيذ أمر الله، فالتقط عليه السلام حصيّات و رجم بها الشيطان الذي تمثل له عند العقبة الكبرى، ثم حاول الثانية فرجمه، ثم حاول الثالثة فرجمه، و استسلم إبراهيم و إسماعيل لأمر الله، و قال إسماعيل: يا أبت اشدد وثاقي، و حدّ الشفرة، و تلّني للجبين، حتى لا تقع عينك على عيني فتأخذك الرحمة دون تنفيذ أمر الله، و خذ ثيابي و اقرأ على أمي السلام: " فلمّا أسلما و تلّه للجبين " ..[/font][font="]الصافات 103 [/font][font="]. تشهّد إسماعيل للموت، و كبّر إبراهيم للذبح.. وأمرّ الموسى على رقبة ولده.. فكان أمر الله إليها أسرع.. فجعلها كالإسفنج تمرّ على بدنه، و إنتهى إمتحان الطاعة.. و جاء النداء..: " و ناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنّا كذلك نجزي المحسنين * إنّ هذا لهو البلاء المبين * و فديناه بذبح عظيم ".. [/font][font="]الصافات 107.104 [/font][font="].. و قد تخرّج إبراهيم في هذه المدرسة ( مدرسة الطاعة ) حاملا شهادة من الله ملؤها السلام و الإيمان و الإحسان، و أعطاه مكافأة أخرى إذ بشّره بإسحاق نبيا من الصالحين: " و تركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين * إنّه من عبادنا المؤمنين * وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين *و باركنا عليه و على إسحاق و من ذريتهما محسن و ظالم لنفسه مبين ".. [/font][font="]الصافات 113.108 [/font][font="]. هذه الآيات المباركات برهان و إقرار من الحقّ تبارك و تعالى بأنّ الذبيح هو إسماعيل عليه السلام و ليس إسحاق عليه السلام كما يدّعي أحبار اليهود و توراتهم المدلّس و المغيّر الذي دنّسوه برغباتهم و شهواتهم..
[/font]
[font="]أقول ما تسمعون فإن كان حسن فمن الله وحده وإذا كان غير ذلك فمن الشيطان و من نفسي و استغفر الله العلي العظيم لي و لكم و لوالدي و لوالديكم و لجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه و توبوا إليه إنّه هو الغفور الرحيم و لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.[/font]
[font="]
[/font]

[font="][/font]
[font="]الثانية: دروس من مدرسة الطاعة.[/font]
[font="] [/font]

[font="]الحمد لله الذي تحفّ ملائكته بعرشه العظيم فوق السماء السابعة، و تحجّ بيته المعمور في السماء الرابعة، و تقف بين يديه خاشعة لجلال و عظيم سلطانه خاضعة..[/font]
[font="]أحمده أن أسكن الأرض آدم و ذرّيته و حكم عليهم بالبقاء فيها إلى أن تقع الواقعة. و أشكره أن علم سبحانه أنهم يذنبون ثم يتوبون فوضع لهم الكعبة في بقعة من الأرض جامعة..[/font]
[font="]و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، دعا عباده إلى طاعته و أن يستغفروه لذنوبهم عند بيته المعظّم بين الركن و الملتزم و المقام و زمزم، فجاء المسلمون من البلاد البعيدة و الأقطار الشاسعة. اللهم أكتب لنا الحج و العمرة و ثبتنا بأجرهما عند النزع و يوم القارعة..[/font]
[font="]و أشهد أنّ محمدا عبدك و رسولك القائل: الحج المبرور ليس له ثواب إلاّ الجنّة.. اللهم اجمعنا به على كوثره، و أفض علينا من أنواره الساطعة، اللهم فصل و سلم و بارك عليه و على آله و صحبه ما عظّم الحجاج ربّهم بألسنة طاهرة و قلوب خاشعة و نفوس متواضعة و أعين دامعة..[/font]
[font="]أمّا بعد، فيا أيها الذين آمنوا، أعلموا أنّ ما تعرّضنا إليه في الخطبة الأولى من أحداث جدّت في حياة إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام، إنّما هو لبنة من بناء حضاري كبير، متين في أساسه، شامخ في عظمته، مرصوص في بنيانه، رائع في هندسته، متناسق في ألوانه، جميل في مناظره. إستغرق بناؤه أحقابا طويلة، و تعاضدت في إنشائه خبرات الأنبياء و جهود الرسل، وأيدي الصالحين على مرّ العصور و تعاقب الأجيال.. كل جيل يبني فيه لبنة و يزيد فيه حسنة حتى تكامل البناء من جميع جوانبه.[/font]
[font="]و لننطلق أيها الناس في إكتشاف مراحل هذا البناء الشامل من خلال الدروس و العبر، التي تراءت لنا في مدرسة المهندس الأول إبراهيم الخليل عليه السلام..[/font]
[font="]* أولا : [/font][font="]إنها مدرسة الطاعة الخالصة، و التسليم الكامل لله، و قد تمثّلت في طاعة إبراهيم لربّه،، إذ أسكن هاجر و طفلها الرضيع في الصحراء حيث لا ماء ولا نماء، و في طاعة هاجر بقولها: " أألله أمرك بهذا ؟ إذن لا يضيّعنا الله "، و في طاعة إبراهيم إذ عقد العزم على ذبح ولده إسماعيل الوحيد، و في طاعة إسماعيل و صبره على تنفيذ أوامر الله إذ قال: يا أبت افعل ما تؤمر .. [/font]
[font="]و إنّ المسلم مأمور بطاعة الله، لأنّ الإسلام كلّه طاعة، يعني الانقياد لأوامر الحقّ تعالى كما جاء على لسان إبراهيم: " إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين ".. و إذا كان إبراهيم و زوجه و إسماعيل قد نجحوا جميعا في مدرسة الطاعة، فما هو نصيب المسلم من هذه المدرسة.؟[/font]
[font="]إنّ أوامر الله تأتي للمسلم من خلال كتاب الله و سنّة نبيّه صلى الله عليه و سلم، فما درجة التزامه بها، سواء في العبادات أو المعاملات؟ و لعلّ أحدا يظنّ أنّه إذا استقام في بيعه فإنّ ربحه سيقل، فيتذرّع بذلك ليطفّف، إذا إكتال لغيره يستوفي، و إذا كال لغيره ينقص و يخسر، و ينقض العهود، و يأكل الحقوق بالباطل، و يبيح لنفسه الرشوة و الاحتيال ليتمكن من تحقيق دخل أكبر على حدّ تفكيره.. أين هذا الإنسان من يقين هاجر التي قالت: إذن لا يضيّعنا الله.. فلطالما أنّ الله أمر بالإستقامة، فإنّه لن يضيّع من إستقام..[/font]
[font="]* ثانيا :[/font][font="]إنّ القارئ لحياة إسماعيل يجد فيها أنبل الصفات، إذ وصفه الله بأنه حليم فقال: فبشرناه بغلام حليم.. و وصفه بأنه من الصابرين فقال على لسانه: ستجدني إن شاء الله من الصابرين.. و وصفه بأنّه صادق الوعد فقال: واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد و كان رسولا نبيا.. [/font][font="]( مريم 54 )[/font][font="]. و منحه الله شهادة الرضا عنه فقال: و كان عند ربّه مرضيا.. [/font][font="]( مريم 55 )[/font][font="]. و كان موقفه في طاعة الله مستسلما منقادا، و كان بارا بأبيه إذ قال له: يا أبتي افعل ما تؤمر.. [/font][font="]( الصافات 102 )[/font][font="].[/font]
[font="]إنّ هذه الصفات النبيلة التي كان إسماعيل يتمتّع بها يرجع الفضل فيها إلى تربية أمّه، إذ تركها زوجها مع طفلها في الصحراء، و كانت ترضعه مع حليبها، لبان الصدق و الحلم و الصبر و طاعة الله و برّ الوالدين، و كانت تغرس فيه القيم الفاضلة حتى تحلّى بهذه الأخلاق الحميدة التي وصل بها إلى طاعة الله، مهما تعرّضت لشظف العيش و ضنك الحياة..[/font]
[font="]و يقابل هذا الموقف، أب يدعو إبنه إلى النجاة، وهو نوح عليه السلام، دعا إبنه ليركب في السفينة ليسلم من الطوفان: و ناد نوح إبنه و كان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين، قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء.. [/font][font="]( هود 43.42 )[/font][font="]. لقد ابن نوح عاقا إلى درجة رفض طاعته حتى ولو أدّت إلى نجاته من الغرق.. و لقد كان إسماعيل بارا إلى درجة قبوله بطاعة أبيه حتى لو أدّت إلى ذبحه.. إنّ الذي اثّر في عقوق ابن نوح أمّه التي كانت كافرة: ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح و امرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا و قيل أدخلا النار مع الداخلين[/font][font="]..( التحريم 10 )[/font][font="]. و هذا يشير إلى أن الذي يختار له زوجة صالحة يضمن تربية أولاده على العقيدة الصحيحة و الصلاح و التقوى و البرّ.. لهذا وجّه الرسول صلى الله عليه و سلم إلى حسن الاختيار إذ قال: عليك بذات الدين.. [/font]
[font="]* ثالثا :[/font][font="] ترتبط هذه المدرسة بالحج و أركانه، و ما تحمله من قيم ينبغي أن تغرس في نفوس الحجيج و من هذه القيم: [/font]
[font="] 1) [/font][font="]السعي في طلب الرزق عبادة ترتبط بالسعي بين الصفا و المروة، و ذلك لأن الناس يسعون إقتداءً بأم إسماعيل التي راحت تهرول بينهما تبحث عن ماء و رزق لها و لطفلها الرضيع. و اعلموا أنّ الذي يمشي في مناكب الأرض ليأكل من رزق الله و يسعى لسد حاجته و إطعام عياله من مال حلال إنما هو في عبادة ما دام قد أخلص النية لله. و قد ربط عيه الصلاة و السلام بين سعي الحاج و سعي أم إسماعيل إذ قال: و لذلك سعى الناس بينهما.. [/font]
[font="] 2) [/font][font="]رجم العقبة الكبرى و الوسطى و الصغرى تعبير عن إنتصار الإنسان على الشيطان، و إنّ الحاج عندما يرجم إبليس إنما يقتدي بإبراهيم عندما رجمه إذ حاول ثني عزمه عن تنفيذ أمر الله بذبح ولده إسماعيل.. و هذا المعنى يغرس في نفس الحاج قيمة رجم الشيطان من نفسه و تفكيره و عمله..[/font]
[font="] 3) إنّ الشرع الحنيف الذي نزل من السماء بالفداء: و فديناه بذبح عظيم.. قد ألغى مسألة التضحية بالبشر التي كانت سائدة في الماضي، لأنّ الله لا يأمر بذبح أو قتل الأبرياء، و إنما أراد أن يذبح حبّ إسماعيل من قلب إبراهيم من جهة، و أن يحرّم على البشر أن يضحّي أحدهم بغيره من البشر..[/font]
[font="]و لقد ضحى إبراهيم بحبه لولده.. فكان حب الله أغلى عنده من حبّه لولده.. و ضحّى إسماعيل بروحه فكان حب الله أغلى عنده من نفسه التي بين جنبيه..[/font]
[font="]و حريّ بالحاج عندما يضحّي أن يستذكر هذه القيم فيضحّي بالهوى و الأنا في سبيل شرع الله.. و من العجب أن يقوم بعض الناس بالتضحية بشرع الله في سبيل مصالحهم الشخصية و الأنانية ، فيقتلون الأبرياء للوصول إلى التسلّط، و يرتشون لأجل الثراء و الغنى، و يفعلون كل ما يغضب الله إتّباعا لهوى النفس الأمّارة...[/font]

[font="]عباد الله، الدنيا فانية و الآخرة باقية، و خيركم من استغلّ الدنيا و تعب فيها بإتيان الأعمال الصالحة و مجانبة المعاصي لنيل الرضا و القبول و الفوز بالآخرة، فاتقوا الله و صلّوا و سلموا على من أمرتم بالصلاة و السلام عليه بقول الحق تبارك و تعالى: إن الله و ملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما..[/font] [font="]اللهم فصلّ و سلّم و بارك على عين ذاتك العليّة، بأنواع كمالاتك البهيّة، في حضرة ذاتك الأبدية، على عبدك و رسولك القائم الصائم القانط بأتمّ الصلوات الزكيّة.. اللهم صلّ و سلّم و بارك على أشرف الخلائق الإنسانيّة و الجانيّة، صاحب الأنوار الفاخرة الشمسيّة و القمرية.. اللهم صلّ و سلّم و بارك عليه و على آله و صحبه و أولاده و أزواجه و ذرّيته و أهل بيته وإخوانه من النبيّين و الصديّقين و على من آمن به و اتبعه من الأولين و الآخرين.. اللهم اجعل صلاتنا عليه مقبولة لا مردودة.. اللهم واجعله لنا روحا و لعبادتنا سرّا، واجعل اللهم محبّته لنا قوّة نستعين بها على تعظيمه و ذكره.. اللهم اجمعنا معه في أعلى مقام، و ارزقنا يا ربّنا في جواره حسن الختام.. نشهدك يا الله أنّه قد بلّغ الرسالة، و أدّى الأمانة، و نصح الأمة، و كشف الغمّة، و محى الظلمة.. اللهم كما آمنّا به و لم نره، فلا تفرّق بيننا و بينه، حتى تدخلنا مدخله برحمتك يا أرحم الراحمين..[/font]
[font="]اللهم أعز الإسلام و المسلمين، و أذلّ الشرك و المشركين، و اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.. اللهم اصلح من في صلاحه صلاح للإسلام و المسلمين،و اهلك اللهم من في هلاكه صلاح للإسلام و المسلمين.. اللهم كما دفعت كيد الحساد عن أنبيائك، و ضربت رقاب الجبابرة لأصفيائك، و خطفت أبصار الأعداء عن أوليائك، و قطّعت أعناق الكياسرة لأتقيائك، و أغرقت الفراعنة لخواصّك المقرّبين و عبادك الصالحين،، يا غيّاث المستغيثين أغث أمة محمد، اللهم زلزل الأرض تحت أقدام اليهود الذين يسعون إلى محاكمة قرآنك.. اللهم أرسل عليهم الريح القواصف، و البراكين و العواصف واملأ قلوبهم بالرعب و المخاوف.. اللهم نكّص لهم كل راية، و حلّ بينهم و بين كل غاية.. اللهم اجعل تدبيرهم في تدميرهم.. اللهم أهلكهم كما هلكت عاد و إرم، و انزل عليهم سيل العرم.. اللهم اكسر شوكتهم و أقضي على ساستهم و اجعل كيدهم في نحر و وهن..[/font]
[font="]اللهم احفظ بلادنا و اصلح أولادنا، واشف مرضانا و عاف مبتلانا و ارحم موتانا، و خذ بأيدينا إلى كل خير و اعصمنا من كل شر، و احفظنا من كل ضير.. اللهم اجعل بفضلك و منّك هذا البلد آمنا مطمئنّا، اللهم اكتب لهذا الشعب الأمن و الأمان و ارزقه من حيث لا يحتسب.. لمّ شعثنا، إجمع شملنا، وحّد كلمتنا و انصرنا على من خالفنا فيما يرضيك، و خذ بأيدينا إلى كل خير و اعصمنا من كل شر، و لا تسلب نعمتك عنا يا ربّ و كن معنا حيث كنا.. آمين، آمين برحمتك يا رب العالمين.. يا أرحم الراحمين.. و صل و سلم و بارك على سيد الأولين و الآخرين محمد بن عبد الله و على لآله الطيّبين الطاهرين، و على صحابته الأبرار الميامين، و على من تبع نهجهم و تقواهم بإحسان إلى يوم البعث و اليقين.. و عنا و معهم و فيهم برحمتك يا رب العالمين ..[/font]
[font="]عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون،، اذكروا الله يذكركم و اشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون .. و قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله .. و صلوا صلاة مودّع..[/font]

[font="][/font]

[font="][/font]

[font="][/font]
[font="] الشيخ محمّد الشّاذلي شلبي[/font]
[font="] الإمام الخطيب
[/font]

[font="] جامع الإمام محمّد الفاضل ابن عاشور بالزّهور الرّابع - تونس
[/font]
[font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="]
[/font]
المشاهدات 2632 | التعليقات 0