محلُ المناجاةِ ومعدنُ المصافاةِ -الصَّلَاةُ- 3 - 1439/6/14هـ
عبد الله بن علي الطريف
1439/06/14 - 2018/03/02 08:36AM
محلُ المناجاةِ ومعدنُ المصافاةِ -الصَّلَاةُ- -3- 14/6/1439هـ
أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وعلى أله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.. اللَّهِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران آية 102]
أيها الإخوة: اعلموا أن سر الصلاة هو تعظيم الربِّ تبارك وتعالى، لذا كان لكل ركنٍ من أركان الصلاة، أو ذكر من أذكارها سره وعبوديته.. وسبق أن أشارنا لأسرار كثيرة، نرجو أن تكون عوناً لنا في الإقبال على ربنا سبحانه في صلاتنا، لنلتذ بها في الدنيا وتكون لنا نوراً يوم القيامة كما قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ -أَوْ تَمْلَأُ- مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، [أي أنها تمنع من المعاصي وتنهى عن الفحشاء والمنكر وتهدي إلى الصواب كما أن النور يستضاء به] وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» رواه مسلم (1/ 203) عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قال ابن رجب رحمه الله: ومعنى «الصَّلَاةُ نُورُ» أي نُورٌ مُطْلَقٌ، فَهِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا نُورٌ فِي قُلُوبِهِمْ وَبَصَائِرِهِمْ، تُشْرِقُ بِهَا قُلُوبُهُمْ، وَتَسْتَنِيرُ بَصَائِرُهُمْ وَلِهَذَا كَانَتْ قُرَّةَ عَيْنِ الْمُتَّقِينَ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» رواه النسائي عن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني
أيها الإخوة: نعود إلى أسرار الصلاة ونقف عند ركن الركوع.. ففيه يخضع المصلي للمعبود سبحانه خضوعاً لعظمته، واستكانة لهيبته وتذللا لعزته.
فثناء العبد على ربه في هذا الركن؛ هو أن يحني له ظهره، ويضع له قامته، وينكس له رأسه، ويكبره مُعظماً له، ناطقاً بتسبيحه، المقترن بتعظيمه.. فيقول سبحان ربي العظيم فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «..أَمَّا الرُّكُوعُ، فَعَظِّمُوا الرَّبَّ فِيهِ، وَأَمَّا السُّجُودُ، فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» رواه مسلم.
فاجتمع له خضوع القلب، وخضوع الجوارح، وخضوع القول على أتم الأحوال، ويجتمع له في هذا الركن من الخضوع والتواضع والتعظيم والذكر ما يفرق به بين الخضوع لربه، والخضوع للعبيد بعضهم لبعض، فإنَّ الخضوع وصف العبد، والعظمة وصف الرب.
وتمامُ عبوديةُ الركوعِ أن يتصاغر الراكع، ويتضاءل لربه، بحيث يَمحو تصاغرُه لربه من قلبه كلَّ تعظيم فيه لنفسه، ولخلقه ويُثبت مكانه تعظيمه ربه وحده لا شريك له..
وكلما استولى على قلب المصلي تعظيم الربِّ وقوى؛ خرج منه تعظيم الخلق، وازداد تصاغره هو عند نفسه.. فالركوع للقلب بالذات والقصد.. والجوارح بالتبع والتكملة.
أيها الأحبة: ثم شرع الله للمصلي أن يحمده، ويثني عليه بآلائه عند اعتداله وانتصابه ورجوعه إلى أحسن هيئاته، منتصب القامة معتدلها فيحمد ربه ويثني عليه بآلائه عند اعتداله وانتصابه ورجوعه إلى أحسن تقويم، بأن وفقه وهداه لهذا الخضوع الذي قد حُرمه غيره..
وانتقال المصلي إلى مقام الاعتدال والاستواء، واقفاً في خدمة مولاه سبحانه بين يديه كما كان في حالة القراءة في ذلك، ولهذا شرع له من الحمد والمجد نظير ما شرع له من حال القراءة في ذلك.
ولهذا الاعتدال ذوقٌ خاص وحال يحصل للقلب ويخصه.. سوى ذوق الركوع وحاله، وهو ركنٌ مقصود لذاته كركن الركوع والسجود سواء، مع أن بعض المصلين يستعجل بفعله إلى درجة أنه يخاف عليه أنه ترك ركنَ الطمأنينة في الصلاة فيتنبه لذلك.. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطيلُه كما يطيل الركوع والسجود، فَعَنِ البَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ رُكُوعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُجُودُهُ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ» [أي من التساوي والتماثل] البخاري (1/ 159)
والسنة أن يُكثر فيه من الثناء والحمد والتمجيد، فقد كَانَ رَسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ»، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: «لِرَبِّيَ الْحَمْدُ، لِرَبِّيَ الْحَمْدُ» وَكَانَ قِيَامُهُ وَرُكُوعُهُ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَسُجُودُهُ وَمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ. رواه النسائي عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصححه الألباني.
أيها الأحبة: ثم ينتقل المصلي ركن هام وهو ركن السجود، وينتقل إليه بتكبيرة الانتقال الله أكبر ويدنو ويخرُّ ساجداً، ويُعطي في سجوده كل عضو من أعضائه حظَّه من العبودية، فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه، راغما له أنفه، خاضعا له قلبه..
ففي السجود يضع المصلي أشرف ما فيه وهو وجهه الظاهر بالأرض وينبغي أن يضع معه وجه قلبه ساجداً على الأرض معفِّراً له وجهه وهو أشرف ما فيه بين يدي سيِّده، راغماً أنفه، خاضعاً له قلبه وجوارحه، متذلِّلاً لعظمة ربه، خاضعاً لعزَّته، منيباً إليه، مستكيناً ذلاً وخضوعاً وانكساراً بين يديه، قد صارت أعاليه ملويةً لأسافله.
وقد طابق قلبُه في ذلك حال جسده، فسجد القلب للرب كما سجد الجسد بين يدي الله، وقد سجد معه أنفُهُ ووجهه، ويداه وركبتاه، ورجلاه.. فهذا العبد هو القريب المقرَّب؛ فأحرِ به في هذه الحال أن يكون أقرب إلى ربه منه في غيرها من الأحوال كلِّها، فقد قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وشرع له أن يُقلَّ فخذيه عن ساقيه، وبطنَه عن فخذيه وعَضُديه عن جنبيه، ليأخذ كل جزءٍ منه حظّه من الخضوع لا يحملُ بعضُهُ بعضاً.
أيها الإخوة لسائل: أن يسأل لماذا يكرر السجود مرتان في الركعة وكذا الأفعال والأقوال.؟ أشار ابن القيم رحمه الله إلى معنى قيم في ذلك فقال ما ملخصه: وشُرع له تكرير هذه الأفعال والأقوال؛ إذ هي غذاء القلب والروح التي لا قوام لهما إلا بها، فكان تكريرها بمنزلة تكرير الأكل لقمة بعد لقمة حتى يشبع، والشرب نفسا بعد نفس حتى يَروى، فلو تناول الجائع لقمة واحدة ثم دفع الطعام من بين يديه فماذا كانت تغني عنه تلك اللقمة.؟ وربما فتحت عليه باب الجوع أكثر مما به؛ كما قال ذلك بعض السلف.
وفي إعادة كل قول أو فعل من العبودية والقرب، وتنزيل الثانية منزلة الشكر على الأولى، وحصول مزيد خير وإيمان من فعلها، ومعرفة وإقبال وقوة قلب، وانشراح صدر وزوال درنٍ ووسخٍ عن القلب بمنزلة غسل الثوب مرَّة بعد مرَّة.
فهذه حكمة الله التي بَهَرت العقول حكمته في خلقه وأمره، ودلَّت على كمال رحمته ولطفه. أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن تكون قرة عيونهم بالصلاة إنه جواد كريم..
الثانية:
الحمد لله غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، صلى الله عليه وعلى أله وأصحابه أولي العزم والتشمير ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18]
أيها الإخوة: ثم شُرع للمصلي أن يرفع رأسه، ويعتدل جالساً، ولما كان هذا الاعتدال محفوفاً بسجودين؛ سجود قَبْلَهُ، وسجود بعده، فينتقل من السجود إليه، ثم منه إلى السجود الآخر، كان له شأنٌ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل الجلوس بين السجدتين بقدر السجود يتضرع إلى ربه فيه، ويدعوه ويستغفره، ويسأله رحمته، وهدايته ورزقه وعافيته، وللجلوس بين السجدتين ذوق خاص، وحال للقلب غير ذوق السجود وحاله؛ فالعبد في هذا القعود يتمثَّل جاثيا بين يدي ربه، مُلقيا نفسه بين يديه، مُعتَذراً إليه مما جَناَه، راغباً إليه أن يغفر له ويرحمه، مستَعدياً له على نفسه الأمَّارة بالسوء.
وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكرر الاستغفار في هذه الجلسة قال حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.: وقد كان رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، وَكَانَ يَقْعُدُ فِيمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ نَحْوًا مِنْ سُجُودِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي» رواه أبو داود وصححه الألباني وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر من الرغبة فيها إلى ربه.
فشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود أن يجثو بين يدي الله تعالى مستعدياً على نفسه، معتذراً من ذنبه إلى ربه، مِـمَّا كان منها، راغباً إليه أن يرحمه ويغفر له ويهديه ويرزقه ويعافيه فقد كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَعَافِنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي» رواه أبو داود عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وحسنه الألباني
وهذه الخمس كلمات، قد جمعت جماع خير الدنيا والآخرة: فإن العبد مُحتاجٌ بل مضطر إلى تحصيل مصالحه في الدنيا وفي الآخرة، ودفع المضار عنه في الدنيا والآخرة، وقد تضمّن هذا الدعاء ذلك كله.
فإنَّ الرزقَ يَجلب له مصالح دنياه وأخراه، ويجمع رزق بدنه ورزق قلبه وروحه، وهو أفضل الرازقين.. والعافيةُ تدفعُ مضارَّها.. والهدايةُ تجلبُ له مصالحَ أخراه.. والمغفرة تدفع عنه مضارّ الدنيا والآخرة.. والرحمة تجمع ذلك كلّه.. والهداية تعمُّ تفاصيل أموره كلّها..
وشرعَ لَهُ أن يعودَ ساجداً كما كان، ولا يكْــــــتَفِي منه بسجدة واحدة في الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد؛ وذلك لفضل السجود وشرفه وقرب العبد من ربِّه وموقعه من الله عز وجل، حتى إنَّه أقرب ما يكون إلى ربه وهو ساجد..
وهو أشهر في العبودية وأعرق فيها من غيره من أركان الصلاة؛ ولهذا جُعِلَ خاتمة الركعة، وما قبله كالمقدمة بين يديه.. أسأل الله أن يرزقنا حسن العمل..
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق