محبطات الأعمال (5) (رفع الصوت عند النبي –صلى الله عليه وسلم-  وترك صلاة العصر)

محمد بن إبراهيم النعيم
1439/07/12 - 2018/03/29 12:30PM

كنا قد بدأنا منذ أسابيع ولا نزال في الحديث عن محبطات الأعمال، وأنه ينبغي الحذر منها كل الحذر، لأنها تحبط لك حسنات كثيرة، أو قد تحبط عملك كله، وهذه الذنوب تعد من الكبائر التي يجب الاحتراز منها، ولذلك من الأهمية بمكان أن نتعرف عليها كي نتجنبها. ومن هذه الذنوب التي تحبط الأعمال: سأذكر لكم ثلاثة ذنوب: الأول: رفع الصوت عند النبي –صلى الله عليه وسلم-، وهل هذا النهي رُفِعَ عَنَّا بموته –صلى الله عليه وسلم- أم لا يزال قائما؟

لقد حذر جل وعلا أن من يرفع صوته فوق صوت النبي –صلى الله عليه وسلم- يحبط عمله، فقال في سورة الحجرات: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ{، وعندما نزلت هذه السورة خاف أحد الصحابة وكان جهور الصوت أن يحبط عمله، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ –رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ... إِلَى آخِرِ الآيَةِ{ جَلَسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ وَقَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَاحْتَبَسَ عَنْ النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ: (يَا أَبَا عَمْرٍو مَا شَأْنُ ثَابِتٍ، اشْتَكَى)؟ - أي هل هو مريض؟- قَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لَجَارِي وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى، قَالَ: فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: (بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)، قال: فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، متفق عليه.

والسؤال هل هذا الحكم لا يزال قائما أم رفع عنا بموت النبي –صلى الله عليه وسلم-؟ يمكن أن نعرف جواب ذلك من حياة الصحابة -رضي الله عنهم- بعد وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم- عنهم، ومن فهمهم لكتاب الله -عز وجل-، فقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يغضون أصواتهم عند قبر النبي –صلى الله عليه وسلم-، حيث روى السَّائِبُ بْنُ يَزِيد رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ، فَحَصَبَنِي رَجُلٌ فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قَالَ: مَنْ أَنْتُمَا أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-؟ رواه البخاري.

ومرة من المرات ناظر أبو جعفر الخليفة، مالكاً الفقيه العلامة الثقة المحدث، ناظره في المسجد النبوي، أي: مناقشة، فقال الإمام مالك للخليفة: لا ترفع صوتك يا أمير المؤمنين في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوماً، فقال: }لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ{  ومدح قوماً فقال: }إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى{ وذم قوماً فقال: }إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر، نزل عند نصح الإمام مالك.

ويرى بعض أهل العلم أن هذا الحكم يجب العمل به عند سماع أحاديث النبي –صلى الله عليه وسلم-، فقد ذكر القرطبي -رحمه الله تعالى- في تفسيره نقلاً عن ابن العربي قوله: حرمة النبي –صلى الله عليه وسلم- ميتًا كحرمته حيًا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة، مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قُرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه؛ كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به اهـ.

لذلك يجب علينا -معشر الإخوة- أن نتأدب في حضرة أي مجلس للعلم يقرأ فيه أحاديث النبي –صلى الله عليه وسلم- فلا نلهو ولا نتمازح ولا نرفع أصواتنا، لئلا تحبط أعمالنا ونحن لا نشعر.

قال الخطيب البغدادي: أرَى رَفْعَ الصَّوْتِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَرَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، إِذَا قُرِئَ حَدِيثٌ وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تُنْصِتَ لَهُ كَمَا تُنْصِتُ لِلْقُرْآنِ، وقال: فَمَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ عِنْدَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ، فَكَأَنَّمَا رَفَعَ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-.

وكان عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله تعالى-: إذا قَرأ حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم-  أمر الحاضرين بالسكوت، فلا يتحدث أحد، ولا يُبرى قلم، ولا يبتسم أحد، كأن على رؤوسهم الطير.

لذلك يجب علينا التأدب عند سماع أحاديث النبي –صلى الله عليه وسلم-  حتى لا يتعرض أحدنا لحبوط عمله وهو لا يشعر.

أيها الأخوة وأما الذنب الثاني الذي يحبط الأعمال: التقدم على قول اللهِ -عز وجل- ورسولهِ –صلى الله عليه وسلم-، فقد قال الله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{.

 قال الإمام ابن القيم: إذا كان مجرد رفع الصوت على النبي -صلى الله عليه وسلم- يحبط العمل، فكيف بمن قدم العقل على قول وفعل النبي –صلى الله عليه وسلم-؟ فالذي يقدم رأيه على قول الله وقول رسوله –صلى الله عليه وسلم- فقد حبط عمله.

فكيف لو عاش ابن القيم في زماننا ورأى من لا يقدم قوله وعقله وفكره على قول وفعل النبي –صلى الله عليه وسلم-  فحسب، بل ويتهم شريعة النبي –صلى الله عليه وسلم- بالجمود والقصور والرجعية والتخلف، وعدم قدرتها على مسايرة مدنية القرن الحادي والعشرين، فيقدم شريعة البشر على شريعة الله -عز وجل-، ويحارب من ينادي بتحكيم شرع الله -عز وجل-.

أسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين، وأن يردهم إلى دينهم ردا جميلا، وأن يريهم الحق حقا ويرزقهم اتباعه، وأن يريهم الباطل باطلا ويرزقهم محاربته واجتنابه.

 أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى واعلموا أن من محبطات الأعمال الأخرى التي حذر منها النبي –صلى الله عليه وسلم-  ترك صلاة العصر حتى يخرج وقتها، وهو الذنب الثالث في هذه الخطبة.

لقد أمر الله عز وجل بالمحافظة على الصلوات الخمس عمومًا وأكد على صلاة العصر خصوصًا لأهميتها فقال عز وجل: }حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ{.

وقد روى أَبو الْمَلِيحِ -رحمه الله- قَالَ: كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ، فَقَالَ: بَكِّرُوا بِصَلاةِ الْعَصْرِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَنْ تَرَكَ صَلاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) رواه البخاري.

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ) متفق عليه. أي من صلى العصر خارج وقتها، سيعاني من الحسرة والأسف والعذاب الشديد يوم القيامة كحسرة ومصيبة من فقد أهله وماله في لحظة واحدة.

فما معنى -يا عباد الله- قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ تَرَكَ صَلاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)، فهل هذا يعني أنه حبط كُلُ عمله؟ أم هل يعني أنه حبط عنه ثواب صلاة العصر حتى لو قضاها؟ أم هل يعني أنه حبط عنه ثواب اليوم كله؟

لم يحدد النبي –صلى الله عليه وسلم-، شيئا من ذلك وإنما قال كلاما مطلقا وزاجرا: (مَنْ تَرَكَ صَلاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)، لذلك يُترك الحديثُ دون تقييدٍ لمعناه؛ ليكون زاجرا ورادعا لمن تهاون في صلاة العصر.

فليحذر أولئك الذين يأتون من أعمالهم بعد الظهر ثم ينامون عن صلاة العصر ولا يصلونها إلا بعد المغرب، فليحذروا من حبوط أعمالهم والعياذ بالله.

أيها الأخوة في الله: الخلاصة التي ينبغي أن نخرج بها من هذه الخطبة: أن نتأدب عند سماع أحاديث النبي –صلى الله عليه وسلم-  وأن نغض أصواتنا ولا نرفعها عند سماع أحاديث النبي –صلى الله عليه وسلم-، ولا شك أن هذا من تعظيم النبي –صلى الله عليه وسلم-، ومن فعل ذلك لن يجرأ على التقدم على قول الله وقول رسوله –صلى الله عليه وسلم-، وأن نبادر إلى أداء صلاة العصر قبل خروج وقتها.

أيها الأخوة في الله، لا يزال هناك العديد من محبطات للأعمال أدع ذكرها في خطب قادمة بإذن الله.

أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمع إلى القول فيتبعُ أحسنه.

       21/4/1435هـ

المشاهدات 2137 | التعليقات 0