محبته صلى الله عليه وسلم بالاتباع لا بالابتداع (من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية)

محمد بن عبدالله التميمي
1441/03/10 - 2019/11/07 18:16PM

الخطبة الأولى

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ  ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}

أما بعد: فقد بين الله في كتابه حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم من الطاعةِ له، ومحبتِه، وتعزيرِه، وتوقيرِه، ونصرِه، وتحكيمِه، والرضى بحكمِه، والتسليمِ له، واتباعِه، والصلاةِ والتسليمِ عليه، وتقديمِه على النفس والأهل والمال، وردِّ ما يُتنازع فيه إليه، وغيرِ ذلك من الحقوق. وأخبر سبحانه أن طاعتَه طاعتُه فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ومبايعتَه مبايعتُه فقال: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وقرن بين اسمِه واسمِه في المحبة فقال: {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، وفي الأذى فقال: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، وفي الطاعةِ والمعصيةِ فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وفي الرضا فقال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} فهذا ونحوُه هو الذي يستحقه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي .

[عباد الله..] في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثٌ مَن كُنَّ فيهِ وجدَ بِهِنَّ طعمَ الإيمانِ ، مَن كانَ اللَّهُ ورسولُهُ أحبَّ إليهِ مِمَّا سواهُما ، وأن يُحبَّ المرءَ لا يحبُّهُ إلَّا للَّهِ ، وأن يَكْرَهَ أن يعودَ في الكفرِ بعدَ إذ أنقذَهُ اللَّهُ منهُ كما يَكْرَهُ أن يُقذَفَ في النَّارِ» وقال صلى الله عليه وسلم: « لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» [متفق عليه، زاد البخاري:] قال له عمر: يا رَسولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شيءٍ إلَّا مِن نَفْسِي، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لَا، والذي نَفْسِي بيَدِهِ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْكَ مِن نَفْسِكَ» فَقالَ له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسِي، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «الآنَ يا عُمَرُ» ، وتصديقُ هذا في القرآن في قوله: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: « ما مِن مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى به في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ».

وذلك أنه لا نجاة لأحد من عذاب الله ولا وصولَ له إلى رحمة الله إلا بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم: بالإيمان به ومحبتِه وموالاتِه واتباعِه. وهو الذي يُنجِّيه الله به من عذاب الدنيا والآخرة، وهو الذي يُوْصِلُه إلى خير الدنيا والآخرة. فأعظمُ النعم وأنفعُها نعمةُ الإيمان، ولا تَحْصُلُ إلا به صلى الله عليه وسلم، وهو أنصح وأنفع لكل أحد من نفسه وماله. فإنه الذي يُخرج الله به من الظلماتِ إلى النور، لا طريق له إلا هو صلى الله عَلَيْهِ وَسلم .

[عباد الله..إن ] محبةَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من محبة الله، وَلِهَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: « وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَلَده ووالده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ» [ودعوى محبة الله برهانُها متابعةُ الرسولِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كما قال جلَّ ذِكْرُه] { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

ومتابعة الرَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحدُ ثَلَاثَةِ أصُولٍ لأهل محبَّة الله، كما قال تعالى: {فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}

وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} فالإيمانُ بالله ورسوله، والتعزيرُ والتوقيرُ للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

[عباد الله.. ومن عِظم هذا الوجوب لمحبته صلى الله عليه وسلم وجبت] مَحَبَّةُ صَحَابَتِهِ وَقَرَابَتِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: « آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ»، وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: « وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ لِلَّهِ وَلِقَرَابَتِي» يَعْنِي: بَنِي هَاشِمٍ.

وحقيقة الْمحبَّة لَا تتمّ إِلَّا بموالاة المحبوب وَهُوَ مُوَافَقَته فِي حب مَا يحب وبغض مَا يبغض، وَالله يحب الْإِيمَان وَالتَّقوى وَيبغض الْكفْر والفسوق والعصيان .

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارا به وتوحيدا ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا مزيدًا، أما بعد:

فإذا كان هذا حبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم التابع لِـحُبِّ الله، فكيف في حب الله الذي إنما وجب حب الرسول لحبه، والذي لا يجوز أن نحب شيئاً من المخلوقات مثل حبه، بل ذلك من الشرك. [وإعظام الله لمنزلته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لها حد معلوم بالشرع] فقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بتحقيق التوحيد وتجريده، ونفي الشرك بكل وجه، حتى في الألفاظ، كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء محمد، بل: ما شاء الله ثم شاء محمد» وقال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال: «أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده» .

وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} فأخبره أنه أرسله داعيا إليه بإذنه فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك، ومن دعا إليه بغير إذنه فقد ابتدع، والشرك بدعة، والمبتدع يؤول إلى الشرك، ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك.

وقد زين الشيطانُ لكثير من الناس سوءَ عملهم واستزلَّـهم عن إخلاص الدين لله إلى أنواع من الشرك [والبدع التي منها] اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال: إنها ليلة المولد فإنها من البدع التي لم يستحبَّها السلفُ ولم يفعلوها، ومن جعل شيئا دينا وقربة بلا شرع من الله فهو مبتدع ضال وهو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كلُّ بدعة ضلالة» .

[عباد الله.. ومع أنه لم يتعين يومه بالاتفاق، ولو كان يُخص بشيء من ذلك لكان معينا بالاتفاق بتعاقب القرون من لدُن صحابته، إلا أنها بدعة أُحدثت بعد القرون المُفضلَة، ولو كان خير لهدى الناس إليه ولسبق إليه صحابتُه رضوان الله عليهم الذي فدوه بفاعلهم لا بأقوالهم، ولهذا أنكر العلماء من سائر المذاهب، فكن لسبيل البدعة مجانب، وإذْ تقرر هذا فإنه قد يصلكم عبر هذه الأجهزة من غازٍ علينا أو جاهلٍ منا بعضُ مظاهر الاحتفال بهذا الموسم غيرِ المُعظَّم، فكن لذلك منكرا ولمن أرسل محذرا، وهكذا قد يصل ما دون ذلك من تذكير بنَشْرِ مُعجزاتِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وذِكرِ أخلاقِه وآدابِه، والتعريفِ بحقوقِه، وامتثالِ أوامرِه والوقوفِ لزواجرِه، وتَعليمِ سُنَنِه، أو حث على كثرة الصلاة والسلام عليه فيه، فلا يُخص ذلك بشيء من هذا، بل هو واجبٌ في كلِّ وقتٍ] .

* هذه الخطبة كلها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية سوى ما كان بين معقوفتين .

المرفقات

عن-محبته-صلى-الله-عليه-وسلم-بالاتباع-لا

عن-محبته-صلى-الله-عليه-وسلم-بالاتباع-لا

المشاهدات 1444 | التعليقات 0