محبة النبي

الخطيب المفوه
1432/11/02 - 2011/09/30 06:23AM
محبة النبي صلى الله عليه وسلم
د . سعد الدريهم
إنَّ الحمدَ لله ، نحمدُه ونستعينه ونستغفره ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله ؛ فلا مضلَّ له ، ومن يضللْ؛ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعدُ : فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد e، وشرَّ الأمور مُحـدثاتُها ، وكلَّ محـدثةٍ بدعــةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أيها الأحبةُ في الله ، لو قلنا لأحد منا سائلين : أتحب محمداً r ، لقال لك وهو مطمئن البال سريع الخاطر نعم ، وقد يرمقك بنظرات مستنكرةٍ متعجبةٍ ! وكأنه يقول لك وما مغزى هذا السؤال ؟ وهل هناك من لا يحب محمداً r وهو مطمئن القلب بالإيمان ؟
إن حبَّ محمد r دين وعقيدة ، ومن لا يحب محمداً فليس في قلبه من الإسلام شيء ؛ وإن فعل الشرائع وقام بالواجبات ، وإن صلى وصام ؛ لأنه r أخبر : أنه لا يؤمن من آمن حتى يكون r أحبَّ إليه من نفسه ومن ولده ووالده والناس أجمعين، وحتى يكون محمد r أحبَّ إليه من الماء البارد على الظمأ، ولا عجب أن تحب محمداً r ، بل العجب كلُّ العجب ألاَّ تحب ذلك الضياء النور ؛ إذ هو سببٌ مبارك في النجاة من العطب ، وهو ينبوع السعادة وأسها ، فبه أُخرجتَ من الظلمات إلى النور ، ورُزقت السعادة التي حُرِمَها أكثر أهل الأرض ، وشَرُفْتَ بأن كنت عبداً لله مخبتاً له ، فمحمد r هو الواسطة بين الله وخلقه ، وعن طريقه تنزلت خيرُ الرسالات ، فهل مثل هذا لا يحب ؛ إذن من يحب محمداً ؛ فهو مؤمن ومن لا يحب محمداً ، فهو في خسيسة الكفر والفسوق والعصيان ..
تجد الإنسان أيها الموفقون ، كارهاً لمحمد r ، يتمنى لو ألحق به الضرر، بل إنه ليتمنى أن لو تمكن منه فمحى وجوده ، ولكن ما إن يباشر الإيمان قلبه ؛ حتى ينقلبَ ذلك الكره وذلك البغضُ حباً عاصفاً ، ويتمنى لو يكون وقوداً في سبيل أن ينشر محمدٌ r دينه بين العالمين ؛ لأن تلك النفس الشفافة أدركت أنها في رغد من الخير سرى أليه من هذا النبي r ؛ فكان هذا الحبُّ وكانت تلك المودة ، وفي ذلك صور تعجز الكلمات عن نقلها أو الإفصاح عن كنهها .
يقول ذلك الرجل الذي رأى هذا الحب من الصحب لمحمد r ؛ فنقله لمن وراءه ، وكان له بالغَ الأثر في نفسه ؛ فأسلم t ، يقول : أي قومِ ، والله لقد وفدتُ على الملوك ، ووفدتُ على قيصرَ وكسرى والنجاشي ، والله ما رأيت ملكًا قطّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ r محمدًا ، والله إن انتخم نُخامةً إلا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له .
لقد كان ذلك أيها الجمع الكريم ، تعظيماً مبعثه الحبُ لا الخوف كما في تعظيم الرعية ملوكها .. لو جلست تتعاطى هذه الكلمات تحليلاً وتفسيراً ؛ لكنت في أمر شاقٍ لا ينتهي ؛ فالمعاني كثر وأنى للفظ أن يحيط بذلك أو يأتي على معشاره ، ارجع البصر فيها ، تجد أن المعاني تنثال عليك كلما أتبعتها النظر ..
بل إن النفوس الكبار من صحب محمد r لتذوب ، وقد تكاد تهلك لو لم تر محمدً r أو تجد ريحه ، جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله r فقال : لأنت أحب إلي من نفسي وولدي وأهلي ومالي ، ولولا أني آتيك فأراك لظننت أني سأموتُ ، وبكى الأنصاريُّ ، فقال له رسول الله r : « ما أبكاك ؟ » ، قال : ذكرتُ أنك ستموت ونموت ، فتُرفع مع النبيين ، ونحن إن دخلنا الجنة كنا دونك ، فلم يخبره النبي r بشيء ، فأنزل الله عز وجل على رسوله r : ) وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ( [النساء:69، 70] ، فقال له النبي r : «أبشر« ، فما أعظمها من بشارة نالها هذا الصحابي الذي نزلت هذه الآياتُ في حقه ! وما أعظمه من أجر يناله كلُّ مُطِيعٍ لله ولرسوله r ، بل إن الصحب الكرام وزراءَ محمد r ما فرحوا بشيء منذ أن أسلموا فرحهم بهذه البشارةٍ العظيمة الكريمة ، وهل هناك أحب للنفوس من الجنان ؟! فكيف والجنانُ والدرجاتُ العاليةُ منها وقبل ذلك صحبة محمد r ؛ إنها لآلاء تترادف لكل مؤمن ، ولو كان العمل يسيراً شريطة أن تكون محباً لمحمد r ، فاللهم إنا نشهدك أنا بحبك نحب محمداً r وصحابتَه الكرام ؛ فاجمعنا بهم في مستقر رحمتك ..
ولم يكن الحب من الصحابة الكرام y تنظيراً لا رصيد له من الواقع ، بل كان واقعاً حاضراً في كلِّ أحوالهم شدة ورخاء ، بل إن النفوس منا لتتصاغر أمام تلك الوقائع ، ولو لم تنقل بصحيح النقول لقلنا : إنها ضرب من الخيال ، ففي غزوة الرجيع لما غدر بنو لَحيان بأصحاب النبي r كان فيمن أسروه زيدُ بن الدِّثِنَة ، فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه ، فاجتمع رهطٌ من قريش فيهم أبو سفيان ، فقال له حين قُدِّم ليُقتل : أَنشدُك بالله يا زيد ، أتحبّ أن محمدًا الآن عندنا مكانك نَضرب عُنقَه وأنك في أهلك ، قالt ، وما أجمل ما قال ؛ إن ما قاله ليكتب بماء التبر ، وإن الكلمات لتتطامن إعجاباً بهذا المقال ، قال : والله ما أحبّ أن محمدًا الآن في مكانِه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي ، قال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمدًاr ، فهل رأيتم أعظم من هذا الحب أو أصدق من هذا الوفاء؟
لا أظنك تجد ولو قلبتَ الأسفار ، وجعلت وقوداً لذلك الليلَ والنهار، وهذا كله بسبب من حب الرب سبحانه محمداً r ، فمن أحبَّه ربُّهُ أحبه خلقُ ربه ، ومن أبغضه الرب أبغضه الخلق جزاء وفاقاً ، فقد ثبت أن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل u أن الله يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، فينادي جبريل في السماء : إن الله يحب فلاناً فأحبوه ؛ فيحبه أهل السماء ، ويوضع له القبول في الأرض ، ومن كان على غير هذه الشاكلة فإن الله يبغضه ، ويبغضه أهل السماء ، ويوضع له الشنآن في الأرض ..
كما أن محمداً r بذل الحب لأصحابه y وزرعه في نفوسهم وبينهم ونصح لهم؛ فكان الحصاد حباً بحب ، وكذلك أنت ابذل الحب وبادل الناس الحب وصرح لهم بحبك لهم ، وسترى أن الناس قد أحبوك ، وانقلبت عداوة من كان عدواً إلى حب ، )فَإِذَا الَّذِيْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيْمٌ ( [ فصلت : 34 ] ، ومن كان على غير هذه الشاكلة فلا يرجُ الحب ، ولا يطمع في بحبوحته ، وإنك لتعجب من أناس بيننا لا تكاد تجد في قلوبهم مساحةً للحب أو شيئاً من أثره ، حتى ليخيل إليك أن هؤلاء لا يحبون حتى أنفسهم ، فبئس والله أولئك الخلق ، وأولئك هم الأبعدون في الدنيا والآخرة .. نسأل الله أن يحسن أخلاقنا وخلقنا ..
أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

الحمد ُلله على آلائه، وصلـواتُه على محمَّدٍ خاتمِ أنبيائه، وعلى آله وأصحابه وأصفيائه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أَمَّا بَعدُ :
فيا أيها الأحبة في الله ، الدعاوى إن لم تُقم عليها بيناتٌ ؛ فأصحابها أدعياء ، فلا بد أن تقرن الدعوى بالببينة ، وإلا كنتَ متقولاً مدعياً ما ليس فيك أو لك ، وهذا في كل شأن وفي كلِّ أمر ، وهو في دعوى حُبِّ محمد r ألزم وأوجب ، وكما قيل :
وكل يدعي وصلاً بليلى وليـلى لا تقــر لهم بذاكا
فكل مسلمٍ يدعي حبَّ محمد r ، ولو قلت له غير ذلك لربما وقع فيك ، وسامك سيما الخسف ، ولكنَّ الأمرَ في التمييز هينٌ وبينٌ ، فمحب محمد r قائم على شريعته ومطبق لها ، وحريص على تتبع سنته r قولاً وفعلاً ؛ إن أمراً أو نهياً ، ومن لا يحب تجده بعيداً غاية البعد عن ذلك ، فتجده دائماً رهين المخالفة ، بل لا تهدأ نفسه إلا بذلك ، وليس هذا الأمر أمراً حادثاً ، بل ادعى قومٌ حبَّ محمد r فابتلاهم الله بذلك، فقال سبحانه: ) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فَاتَبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ( [ آل عمران : 31 ] ، فالاتباع لمحمد r هو الدليل والبرهان على صدق المحبة أو كذبِها ؛ فإن كُنتَ تُحِبُّ محمَّداً فأطعه ، وإلا فلا تلزم الناس بالشهادة لك بالمحبة ، ولذا فنحل في حل عندما نقول : إنك ممن أبغض محمداً r ، وعلى هذا الترتيب في النظم القرآني نقول : إن من يحب الله ويسعى في الخلاص ؛ فليتبع محمداً r في كل شأن من شؤونه وإن كان ثقيلاً على نفسه ما استطاع، وعندها يُلَقَّى حُبَّ مٌحَمَّدٍ r ، ومن جُمِعَ له ذلك تبوأ مغفرة الله ورضوانه ، ومن رغب عن ذلك فليس في سلك أهل النجاة ينظم ، وعندها يلقى وزر ما عمل خسارة في الدنيا والآخرة ) قُلْ أَطِيْعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُ الكَافِرِيْنَ ( [ أل عمران : 32 ] ، نسأل الله أيها الأحبة أن نكون ممن أطاع الله ورسوله وأحبهما ؛ فاستوجبَ محبَّة الله ومغفرتَه ..
المشاهدات 2318 | التعليقات 0