محاسبة النفس

محاسبة النفس

ألقيت في جامع حمراء الأسد – المدينة المنورة

عبد الله بن عبد الرحمن الرحيلي

27/ ذي الحجة/ 1442

عناصر الخطبة:

1-موقف الحساب يوم القيامة.

2-أهمية المحاسبة ومنزلتها.

3-نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم.

4- ثمرات محاسبة النفس.

5-نماذج لما ينبغي أن يحاسب المسلم نفسه عليه.

6-جميل عاقبة المحاسبة في الآخرة، وسوء عاقبة ترك المحاسبة.

7-صفة المحاسبة.

 

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ لله؛ الحمدُ لله العزيز الغفار، مُكَوِّرِ الليل على النهار، تذكرةً لأولي القلوب والأبصار، وتبصرة لذوي الألباب والاعتبار.

وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الواحد القهار، الذي أيقظ من خلقه المصطفين الأبرار، فزهدهم في هذه الدار، ورغبهم في التأهب لدار القرار.

وأشهدُ أن محمدًا رسوله المصطفى المختار، دعانا إلى الجنة، وأنقذنا الله به من النار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى جميع المهاجرين والأنصار.

 

أما بعد فاتقوا الله – عباد الله - تسعدوا؛ وأنيبوا إليه تفلحوا؛ ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].

﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].

 

عباد الله..

إنكم موقوفون بين يدي الله؛ وإن الله سائلكم عن أعمالكم، وأعمالُكم مدونة عليكم، في سجل دقيق؛ وكتاب محفوظ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؛ يتولى الله تعالى يوم القيامة حسابكم؛ وهو الذي لا تخفى عليه خافية من أعمالكم.

 

إنكم أيها المؤمنون مسؤولون عن الجليل والحقير، والنقير والقطمير، محاسَبون على السمع والبصر والجوارح، ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36].

 

ومن رام تخفيف الحساب عليه في دار القرار؛ فعليه أن يحاسب نفسه في هذه الدار.

 

يراجع الإنسان ما فعله في يومه، فإن كان محمودًا فإنه يُمضيه، ويُتبعه بما يُضاهيه، وإن كان مذمومًا استغفر ربه، وتاب من ذنبه، وعزم على ألا يعود لمثله.

 

عباد الله.. إن الله تعالى دعاكم إلى هذه المحاسبة فقال:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].

انظروا ماذا ادَّخَرْتم لأنفسكم يوم القيامة، أَمِنَ الصالحات المنجية؟ أم من السيئات الموبقة.

 

إن المؤمن عباد الله قوَّام على نفسِه، يحاسبها أشد من محاسبة الشريك لشريكه، وأفضلُ ذوي العقول منزلةً أدومهم لنفسه محاسبة، فهكذا كان السلف رحمهم الله.

 

فها هو إبراهيم التيمي رحمه الله يقول: «مَثَّلْتُ نفسي في الجنة: آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مَثَّلْتُ نفسي في النار: آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أُرد إلى الدنيا فأعملَ صالحًا، قلت: فأنتِ في الأمنية فاعملي»

 

ويقول الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2]: "لا تلقى المؤمن إلا وهو يعاتب نفسه، ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ بأكلتي؟ ماذا أردتُ بشَربتي؟ والفاجر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه".

 

إن من حاسب نفسه؛ عرف عيوبها فأصلحها، وزكاها وطهَّرها، ورأى نعم الله عليه فشكرها، وأدرك أهمية أوقاته فاغتنمها، فيصلحُ العبد أحواله وأيامَه؛ وتسرُّه صحيفته يوم القيامة: حينما يُقال: ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 14]، فيكون ممن قال الله فيهم: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ﴾ [الحاقة: 19، 20].

 

عباد الله .. حاسبوا أنفسكم في صِلتكم بمولاكم؟ كيف أنتم مع صلاتكم؟ كيف تعظيم الصلاة في قلوبكم؟

أحصوا غفلاتِكم وزلاتِكم، واعمروا بذكر الله أوقاتَكم، تأملوا ما اقترفته منكم الجوارح، وراجعوا نياتِكم في أعمالكم.

 

قال الحسن البصري: "رحم الله عبدا وقف عند همه؛ فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر".
راقبوا أعمالكم في أداء حقوق الله، وما حظكم من الإكثار من ذكر الله؟

 

كيف أنتم مع أداء حقوق العباد! أين أنتم من بر الوالدين على التمام والكمال؟ أين منكم أداء حقوق الزوجة والعيال؟

كيف صلتكم بالأرحام والجيران؟ وهل نصحتم للزملاء والخلان؟

 

هل حققنا مراقبة الله في الخلوات؟ وهل حفظنا أبصارنا عن المحرمات؟ وهل حفظنا ألسنتنا من الكذب والغيبة والفحش والمنكرات؟

تأملوا نعم الله عليكم؟ نعم لا تحصى كثرة! أمن وستر وعافية، فهل قمتم بحقها؟ وهل أديتم شكرها؟

 

انظروا ماذا قدمتم في عامٍ مضى؟ وزمن انقضى، وماذا أعددتم لعام أقبل؟

تأمل يا عبدالله ما أنت صائر إليه؛ من الحشر ولقاءِ الله والوقوفِ بين يديه.

كيف أنت غدا وقد سار ركابُ أهل الجَنَّة يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم.

ألا تخشى أن يُحال بينك وبينهم؟!

 

فَبادِرْ إلى الخَيْراتِ قَبل فَواتِها

وخالِف مُرادَ النَّفسِ قبل مَماتِها

سَتَبكِي نُفوسٌ في القِيامَة حَسرةً

على فَوْتِ أَوقاتٍ زَمانَ حَياتِها

فَلا تَغتَرِرْ بالعِزِّ والمالِ والمُنَى

فكم قد بُلينا بانقِلابِ صِفاتِها

 

وبعد عباد الله .. فاعملوا لدنو الآجال، وتذكروا أن العمر قصير مهما طال، واعتبروا بمرور الأيام؛ وسرعة انقضاء الشهور والأعوام، واعلموا أن الموت يأتي بغتة، والسعيد من كان له في يومه وقفةُ محاسبة؛ يخلو فيها بربه، ويتوب إليه من ذنبه.

 

يقول عمر  -رضي الله عنه-  : "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيؤوا للعرض الأكبر على الله"، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18].

 

اللهم اجعلنا ممن يحاسبون أنفسهم ويخافون سوء الحساب.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله الوليِّ الحميد، ذي العرش المجيد، الفعَّال لما يُريد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ذي النهج الرشيد، والقول السديد، وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين.

 

أما بعد.. فإن محاسبة النفس هي طريق السالكين إلى ربهم، وزادُ المؤمنين لمعادهم، فما نجا من نجا ، إلا بمحاسبة النفس ومخالفة الهوى، فمَن حاسب نفسه قبل أن يحاسب، خفَّ في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسُن منقلبُه ومآبُه.

 

ومن أهمل نفسه، وضيع وقته، لازمته الندامة والحسرة، وأدركته الخسارة والشقوة، ومن تعب قليلا استراح طويلا، ورُبَّ شَهوةِ سَاعة أورَثَت حُزنًا طَويلًا.

 

وإنما خفَّ الحساب على قومٍ وقفوا مع أنفسهم فحاسَبوها، وشقَّ الحساب على قوم تركوا المحاسبة وأهملوها؛ غرَّهم طول الأمل، وران على قلوبهم سوء العمل؛ هم عن الآخرة غافلون، نسوا الله فأنساهم أنفسهم؛ أولئك هم الفاسقون.

 

وبعدُ فاتق الله عبد الله، وأيقن أن للعبد ربا هو مُلاقيه، وبيتا هو ساكنه، فعليه أن يَسترضي ربَّه قبل الوقوف بين يديه، وعليه أن يُعمِّر بيته قبل أن ينتقل إليه.

 

اجعل لنفسك في يومك ساعةَ محاسبة؛ تتأمل فيها ما ربحت في يومك وما خسرت، وما وُفِّقتَ له من الخير وما أذنبت، ثم تجدد لله توبة نصوحا صادقة؛ فتنام على تلك التوبة، فإن مت من ليلتك مت على توبة، وإن استيقظت استيقظت مستقبلا للصالحات، مسروراً بتأخير الأجل، لتستدرك ما فات.

 

اللهم أصلح لنا شأننا كله وخذ بنواصينا إلى الخير، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

اللهم اغفر لنا ذنبنا كله؛ دقه وجلَّه، أوَّله وآخره، سرَّه وعلنه.

اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، ونسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك، ونسألك شكر نعمتك وحُسن عبادتك، ونسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا.

 

المرفقات

1632383206_خطبة محاسبة النفس.pdf

المشاهدات 1138 | التعليقات 0