محاربة الفساد

سليمان بن خالد الحربي
1442/04/25 - 2020/12/10 09:38AM

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستَعينُه ونستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِنْ شُرور أنفسِنا وسيِّئَاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هادِيَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَنْ سارَ على نهجِه، واقْتَفى أثَرَهُ إِلَى يومِ الدِّينِ، وسلَّم تسلِيمًا كثيرًا.

أَمَّا بعْدُ:

فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-!{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

معْشَرَ المصَلِّينَ: كَثُر الحديث عن الفسادِ بكُلِّ أنواعِهِ في مُجتمَعِنا، وأُنْشِئَتْ هيئةٌ لمكافَحةِ الْفسَادِ، والسؤالُ: مَنْ هُم هؤلاءِ المفسِدُونَ؟ هل هُم مِن كَوْكَبٍ آخرَ لا يُرَوْن ولا يُعْرَفُون؟ كلَّا، هُم بعْضُنا، هُمْ مَن نُؤاكِلُهم ونُشَارِبُهم ونُجالِسُهُمْ، ولكنَّنا نتسَتَّرُ عليهم، بل أحيانًا نُشارِكُهم في فسادِهم.

الموظَّفُ الحكُومِيُّ الَّذي يأخُذُ الرِّشْوةَ، أو ما يُسمَّى بالإكرامِيَّةِ مَن الَّذي أعطاه؟ ومَنْ هُو مُديرُه الَّذي سكت عنه؟ كلُّ هَؤُلاءِ مُشارِكُونَ فِي الفسادِ، أَمِينُ الصُّندوقِ، ومُدِيرُ الشُّؤونِ الماليَّةِ، ومُدِير المشَارِيع، وقَائمَةٌ كبِيرةٌ بإمكانها أن تخْتَلِس، وتتلاعَبَ عَلى مرأىً مِنَّا، أو عَلى مرأىً مِن مُديرِها، ومَع ذلك نظلُّ ساكِتِينَ.

ولهذَا لَا عَجَبَ عِندَما وقعَتْ كَوارِثُ عِظيمَةٌ فِي المنشآتِ والمشاريعِ، مشاريعُ وهميَّةٌ، وبعضُها شكليَّةٌ فراحَتِ الأنْفُسُ ضحيَّتَها، وفِي كُلِّ يوْمٍ تُطالِعُنا الصُّحُفُ الوَرَقِيَّةُ والإكترونيَّةُ بقواصِمَ ينْدَى لها الجبينُ، مبانٍ حُكُومِيَّةٌ كلَّفَتِ الملايينَ لم تُسْتَلَمْ إِلَّا لأشهرٍ، ثُمَّ يظْهُر فِيها الخلَلُ الكبيرُ، ولما جاءَتِ الأمطارُ أظهَرَتْ بعْضَ عُيوبِها.

مَعْشَر الإِخْوَةِ: لَئِنْ كانَ اللهُ توعَّد الوعيدَ الشَّديدَ لِمَنْ أكَل مالَ اليتيمِ، وهُوَ قائِمٌ عليْهِ، ولكنَّه يختلِسُ منه بالوعيدِ الشديدِ، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النساء:10]، فما بالُك بمَن يأخذ بعضَ أموالِ وممتلكاتِ شرائح المجتمَعِ كبيرِهم وصغيرِهم، غنيِّهم وفقيرِهم، أيتامِهم وأرامِلِهم؟!

فأموالُ المستشفياتِ ومشاريعُه ملكُ هؤلاءِ، وكَذِلكَ البلدِيَّاتُ والمدارِسُ والمرافِقُ، كلُّ نقدٍ ولو قلَّ لمشاريعِها فلِلْجَميعِ فِيها حقٌّ فِي أن يذهب إليهِمْ، وإلى مشارِيعِهم ومَبانِيهِمْ.

وتأمَّلُوا عُقوبَةَ قومِ شُعيْبٍ، فإنَّ الْبَائِعَ كانَ يُنْقِصُ المكيالَ عَلى رجُلٍ واحدٍ، ومَع ذلك نزَل عليهم العذابُ، {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 85،86]، فهو يقول لهم: لا تُنْقِصُوا مِن أشياءِ النَّاس، عمَّمَ النقْصَ فِي الأشياءِ، أي: فِي كُلِّ شيءٍ لا تُنْقِصُوه، فتسْرِقُوها بأخذِها.

إذنْ نَحْنُ أمامَ تهديدٍ –أيضًا- بسبَبِ هؤلاءِ المرْضَى، فإنَّ اللهَ لا يرضَى أن نُفْسِدَ فِي الأَرْضِ؛ ولهذَا قالَ لهم شُعَيْبٌ عندَما أفسدُوا في الأموالِ: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85].

إنَّ الاختِلاساتِ الَّتي تحدُثُ في الدَّوائِرِ الحُكومِيَّةِ مرَضٌ عُضالٌ إِنْ لم يَتَكَاتَفِ المجتَمَعُ بأكمَلِهِ لاجْتِثاثِهِ والْقضاءِ عليْهِ؛ فنَحْنُ أمامَ تهديدٍ مِن ربِّ الْعبادِ.

ألَيْسَ مِن الْفَسادِ الَّذِي لا نَرْضاهُ أبدًا أنْ يَقُوم هذَا المفْسِدُ باسْتِغلالِ وظيفَتِهِ، وكأنَّها إِقْطَاعٌ مِن وَليِّ الأمرِ، يُعطي مَن يُريدُ، ويَمْنَعُ مَن يُبْغِضُ؟

أليْسَ مِن الفسَادِ أنْ نتزَلَّفَ إِلى المسْؤُولِ ليُقْطِعَنا حُقوقَنا؟

إنَّك لَتَعْجَبُ مِمَّن استَغَلُّوا مناصِبَهُم لِيمْلَؤُوا حسابَاتِهِم قبْلَ انتِهاءِ خدْمَتِهم، أيْنَ مبدأُ المحاسَبةِ، وأيْنَ قانُونُ مِنْ أيْنَ لَك هذا؟

فقَدْ كانَ أميرُ المؤمنين عُمَرُ بْنُ الخطابِ -رضي الله عنه- يُحاسِبُ عُمَّالَه حسابًا شديدًا، فيُحصِي ثروةَ العامِلِ قبْلَ العَملِ وأثناءَ العمل، فإذا ظهرَتْ زِيادَةٌ غيرُ مبرَّرَةٍ أخذَها مِنه وردَّها إِلى بيْتِ المالِ، ومِن الْأقْوَالِ المأثورَةِ عَنِ الفارُوقِ عُمَر: «لو رتعت لرتعت الرعية»([1])، وفي الوقت نفسِه لا بُدَّ أن يحسِنَ المديرُ والمسؤولُ اختيارَ مُساعِدِيهِ عَلى أساس الكفاءَةِ، وليس المجاملةَ أو المحاباةَ.

فهذا الصحابيُّ الجليلُ أبو ذرٍّ الغفاريُّ وهُو مِن المقرَّبينَ إلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم، يقُولُ لَه كما في صحيح مُسْلِمٍ: يا رسولَ اللهِ؛ ألَا تستعمِلُني؟ قال: فَضَربَني بِيَدِهِ عَلى مَنْكِبِي، ثُمَّ قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا»، وفي لفظ: «وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ»([2]).

يا لها مِن وَصِيَّةٍ! كُلُّ مَن يعلَمُ أنَّه ضعِيفٌ ليْسَ فقَطْ لِقِلَّةِ أمانَتِه، بل لضعْفِه في تحصِيلِ الحُقُوقِ، وضعْفِه بِأَخْذِ الحقِّ، وقُوَّتِه وشدَّتِهِ في تطبيقِ قواعِدِ السَّلامَةِ فِي المنْشَآتِ والمشَارِيعِ، ومتابَعَةِ المقاوِلِينَ، وكذِلك قوَّتُه فِي محاسَبَةِ مَن تُسَوِّلُ له نفْسُهُ فِي أكْلِ الرِّشَاءِ.

قال النوويُّ -رحمه الله- معلِّقًا على حديثِ أبي ذَرٍّ: «هذا الحديثُ أصْلٌ عظِيمٌ في اجْتِنابِ الوِلَايَاتِ، لا سِيَّمَا لِمَنْ كَان فِيه ضعْفٌ عَنِ الْقِيامِ بِوَظائِفِ تِلْك الوِلَايَةِ»([3]).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].

بَارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقولُ ما سمعْتُم، وأَستغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولَكُم ولِسائر المسلمين مِن كُلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاسْتغفِرُوه وتُوبوا إليْهِ؛ إنَّه هو الغفور الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهَدُ ألا إله إلا اللهُ؛ تعظيمًا لشانِه، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه الدَّاعي إلى جنَّته ورِضوانِه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه، أَمَّا بعْدُ:

معْشَرَ المصَلِّينَ: ما أجملَ الخازِنَ أو المسؤولَ الماليَّ في دوائِرِنا الحُكُوميَّةِ إذَا كانَ صاحِبَ ضَمِيرٍ حيٍّ، يُحِبُّ قِيَمَ الحقِّ والخيرِ والجمالِ والعفَّةِ والفضيلةِ والتقْوَى والأمانَةِ والصِّدْقِ والوَلَاءِ والْكَرَمِ والْجُودِ، وعن طريقِ الضميرِ الحَيِّ يستطِيعُ الإِنْسانُ أن يُمَيِّزَ بيْنَ الصَّوابِ والخَطأِ.

إنَّ الرِّقابَةَ الداخِليَّةَ لَدى الفَرْدِ المسْلِمِ تُعِينُهُ عَلى الِامْتِنَاعِ عَن كُلِّ المحرَّماتِ؛ لأنَّه يستَشْعِرُ رَقابَةَ اللهِ لَهُ في السِّرِّ والْعَلَنِ، والمتمَثِّلَةِ فِيما نُطْلِقُ علَيْهِ الضَّميرَ الحَيَّ المرْتَبِطَ باللهِ القائلِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]، وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، وقال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24].

ولِهَذَا عَظَّم اللهُ أجْرَ الوِلَايَاتِ والإِدَارَاتِ الَّتي تكوُنُ مسْؤُولةً عنِ المالِ مُبَاشرَةً، فأجْرُهُمْ متَمَيِّزٌ عَنْ غيْرِهم؛ لأنَّهم يُجَاهِدُون أنفُسَهُمْ، وَيُجاهِدُونَ أعْوَانَ الشَّيطانِ، فَما أعْظَم أجْرَ الخازِنِ، وأمينِ الصُّندوقِ، ومَنْ يُباشِرُ إبْرَامَ العُقودِ والمشارِيعِ، إِذا كانَ أمِينًا!

تأمَّلُوا فضْلَ اللهِ -سبحانه وتعالى- لهؤُلَاءِ إِذا أحسَنُوا العَملَ، فِي الحَدِيثِ الَّذي رواه الْبُخارِيُّ ومُسْلِمٌ مِنْ حديثِ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُنْفِقُ -وَرُبَّمَا قَالَ: الَّذِي يُعْطِي- مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبًا نَفْسُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ بِهِ أَحَدُ المتَصَدِّقَيْنِ»([4])، بوَّب عليه الإمامُ البخاريُّ -رحمه الله- بقوله: «باب وكالة الأمين في الخزانة ونحوها».

فهنِيئًا لهؤُلاءِ، هنيئًا لهم هذا الأجْرُ الَّذي لم يدْفَعُوا فِيه رِيالًا واحِدًا، وإنَّما أنْفَذُوا ما كُلِّفوا بِه، فصَارُوا فِي عِداد المتصَدِّقِينَ، فكَيْفَ إِذا كانَتْ هذَهِ المشاريعُ بالملَايينِ، هنِيئًا لهم هذَا الْأَجْرُ الجزِيلُ.

والمصيبةُ كلُّ المصيبةِ إذا تغَلَّف هذا الفسادُ بغِلَافٍ التحايُلِ، وأخْرَج نفسَهُ مِن عِدادِ السَّارِقِينَ والمفْسِدِينَ بحِيلَةٍ، كَما يَتَحايَلُ بِها عَلى الصِّغارِ، ومَا عَلِمَ أنَّ اللهَ يعْلَمُ السِّرَّ وأخْفَى، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 18، 19].

ثمَّ صلُّوا وسلِّمُوا على رسولِ الْهُدَى، وإمام الورى، فقد أمركم ربُّكم فقال -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبه أجمعين، وارْضَ اللهُمَّ عن الخلفاء الراشدين، وَالأئِمَّةِ المهْدِيِّين أَبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وعليٍّ، وعنِ الصَّحابةِ أجْمَعين، وعنَّا معهم بعفْوِك وكَرَمِك يا أكرمَ الأكْرَمِين...

 

 

([1]) مجموع الفتاوى (28/ 268).

([2])  أخرجه مسلم (3/1457، رقم 1826).

([3])  شرح النووي على مسلم (12/ 210).

([4])  أخرجه البخاري (2/521، رقم 1371)، ومسلم (2/710، رقم 1023).

المرفقات

محاربة-الفساد

محاربة-الفساد

المشاهدات 1217 | التعليقات 0