مجزرة بخارى .. أ.شريف عبدالعزيز عضو الفريق العلمي

الفريق العلمي
1441/08/18 - 2020/04/11 17:43PM

التاريخ الإنساني يشكل في مجموعه نشاطات البشر وتفاعلاتهم الحضارية والاجتماعية والعمرانية، وأنماط السلوك البشري في كثير من الأحيان تتشابه إلى حد التطابق، بحيث تتكرر المشاهد عبر التاريخ في مقدماتها ونتائجها، ومدخلاتها ومخرجاتها، بصورة دفعت المفكرين والعقلاء للقول بأن التاريخ يعيد نفسه، ولكن في الواقع التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن البشر لا يتعلمون من دروس الماضي، ويعيدون إنتاج أخطائهم، وبالتالي تتشابه المآلات والنهايات في كثير من المواقف والأحداث عبر التاريخ.

 

ومن أجل هذا التشابه دعانا المولى -عز وجل- في محكم التنزيل للنظر في سير الماضين وأحوال السابقين، للتأسي والاعتبار من عواقب الأحداث وسوء النهايات ومصارع الأقوام، فقال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ)[الروم: 42]، وقال: (فاعتبروا يا أولي الأبصار)[ الحشر: 2]، وقال: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)[آل عمران: 137]، والآيات في ذلك كثيرة، ذهب بعض أهل العلم لاعتبارها ثلث القرآن الكريم.

 

وهنا يثور السؤال الخالد: لماذا لا يتعلم الناس من أخطائهم؟ لماذا يكررون نفس أخطائهم؟ لماذا لم يعتبروا بأحوال السابقين؟

والحقيقة أن العقلية البشرية وما جُبلت عليه من نقص واستعجال وخفة وهلع وقلة صبر ورفض النصح هي التي تدفع دائما للتكبر والغرور والخوض في المفاوز، والاعتماد على قدراتها العقلية المحدودة، ورفض الهدية الربانية التي تقدم تصوراً كاملاً عن الحياة بتفصيلاتها وكلياتها، ونعني القرآن الكريم، الذي ذكر مصارع المكذبين وأخبار السابقين وقصص الأنبياء والمرسلين مع أقوامهم.

 

فالعلم والقرآن قد يكونان بين أيدي الناس ولكنهم لا يعتبرون بهما، ولا ينصاعون لكلام العلماء المخلصين، بل يختارون -طواعية- السير وراء أهواء المغرضين وتحريض المبطلين ونعاقات الدجالين.

 

وقصة مذبحة التتار لأهل مدينة بخارى العظيمة واحدة من المواقف التاريخية ذات العبر والدلالات في ترك الاعتبار والأخذ بسنن الهلاك والبوار التي حذرنا منها المولى -جلّ في علاه- في كتابه الحكيم.

 

المعمورة وقت ظهور التتار

ظهرت قوة التتار في أوائل القرن السابع الهجري (603 هـ - 1206 م)، قوة ناشئة لا يُعرف على وجه التعيين كيف استطاعت أن تخرج من إطارها المكاني من أقصى شمال الصين -منغوليا الآن- وتنساح إلى بلاد الأرض كلها كالطوفان الكبير الذي يجرف كل شيء في طريقه، تحت قيادة "جنكيز خان"، وهو لقب مغولي يعني: قاهر العالم، أو ملك ملوك العالم، أو القوي.. حسب الترجمات المختلفة للغة المنغولية، واسمه الأصلي "تيموجين"، وكان رجلًا سفاكًا للدماء، وكان كذلك قائدًا عسكريًّا شديد البأس، وكانت له القدرة على تجميع الناس حوله، وبدأ في التوسُّع تدريجيًّا في المناطق المحيطة به، وسرعان ما اتَّسعت مملكته؛ حتى بلغت حدودها من كوريا شرقًا إلى حدود الدولة الخُوارِزمية الإسلام ية غربًا، ومن سهول سيبيريا شمالًا إلى بحر الصين جنوبًا، أي أنها كانت تضم من دول العالم حاليًّا: (الصين، ومنغوليا، وفيتنام، وكوريا، وتايلاند، وأجزاء من سيبيريا، ولاوس، وميانمار، ونيبال، وبوتان).

 

كانت المعمورة وقت ظهور التتار منقسمة إلى عالمين لا ثالث لهما: العالم الإسلامي، العالم الصليبي:

أولاً: العالم الإسلامي: ويشغل مساحة ضخمة من العالم في ذلك الوقت؛ فقد كانت حدود البلاد الإسلام ية تبدأ من غرب الصين وتمتد عبر آسيا وإفريقيا لتصل إلى غرب أوربا حيث بلاد الأندلس، وهي مساحة شاسعة للغاية، لكن وضع العالم الإسلام ي السياسي كان مضطرباً بصورة تدعو للرثاء ؛ فقد كانت هناك فُرقة شديدة في العالم الإسلامي، وتدهور كبير في الحالة السياسية لمعظم الأقطار الإسلامية. ولو نظرت لخريطة العالم الإسلام ي لوجدت فسيفساء سريالية أقرب للجنون منها للمعقولية، فقد كانت عوالم إسلامية وليست عالماً واحداً متماسكاً.

فالخلافة العباسية والتي يفترض أن تكون المظلة الجامعة لعموم المسلمين، كانت مجرد (صورة خلافة) وليست خلافة حقيقية؛ خليفتها منشغل بالصيد والتحريش بين أمراء الأقاليم ومعاداة سلطان الدولة الخوارزمية.

في حين كانت مصر والشام والحجاز واليمن في أوائل القرن السابع الهجري في أيدي الأيوبيين أحفاد صلاح الدين الأيوبي، ولكن أبناء صلاح الدين الثلاثة انشغلوا بصراعات داخلية تافهة ومقيتة أزالت هيبة أبيهم وأسرتهم، وأوهنت دولتهم وعجلت بسقوطها بعد ذلك بقليل.

وبلاد المغرب والأندلس تحت إمرة (دولة الموحدين)، وقد كانت فيما سبق دولة قوية مترامية الأطراف تحكم مساحة تمتدُّ من ليبيا شرقًا إلى المغرب غربًا، ومن الأندلس شمالاً إلى وسط إفريقيا جنوبًا، ولكن أصابها الوهن بعد هزيمة العقاب سنة 609 هـ بدأ الصليبيون الإسبان في الاستطالة عليهم.

أما الدولة الخوارزمية والتي كان من قدرها أن تكون أول ضحايا الاكتساح التتاري فقد كانت دولة مترامية الأطراف، وكانت تضم معظم البلاد الإسلامية في قارة آسيا، تمتد حدودها من غرب الصين شرقًا إلى أجزاء كبيرة من إيران غربًا، دولة قوية وفتية وجديرة بالتصدي للتتار ووقف هجومهم الكاسح، ولكنها كانت دولة شر وفتن واضطرابات وإغارة مستمرة على جيرانها المسلمين، سلطانها أشبه بقطاع الطرق لا هم له سوى محاربة أشقائه المسلمين واحتلال أراضيهم، كما كانت هذه الدولة على خلاف كبير مع الخلافة العباسية، وكانت بينهما مكائد ومؤامرات متعددة. كما كانت تحارب سلطنة المسلمين في الهند وكانت تحت سلطان الغوريين المجاهدين في ذلك الوقت.

 

بالجملة كان العالم الإسلام ي في مرحلة شديدة من الفرقة والتشاحن واختلاف الكلمة، وتجري عليه سنن الاستبدال والابتلاء من حيث لا يدري، فالهجوم التتار الجارف سيغير شكل العالم الإسلام ي تماماً بعد ذلك، وستقسط دول وتقوم دول في ميلودراما لم يعرف التاريخ الإسلام ي لها نظير من قبل.

 

ثانياً : العالم الصليبي: ومركزه الرئيسي في غرب أوربا؛ حيث لهم أكثر من معقل، وقد انشغلوا بحروب مستمرَّة مع المسلمين؛ فكان نصارى إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا يقومون بالحملات الصليبية المتتالية على بلاد الشام ومصر، وكان نصارى إسبانيا والبرتغال في حروب مستمرَّة مع المسلمين في الأندلس.

إضافة إلى هذا المركز الصليبي الضخم -في غرب أوربا- كانت هناك تجمُّعات صليبية أخرى في العالم، وكانت هذه التجمُّعات أيضا على درجة عالية من الحقد على الأُمَّة الإسلامية، وكانت الحروب بينها وبين العالم الإسلام ي على أشدِّها، وكانت أشهر هذه التجمعات:

الإمبراطورية البيزنطية، وحروبها مع الأُمَّة الإسلامية شرسة وتاريخية؛ ولكنها كانت في ذلك الوقت في حالة من الضعف النسبي والتقلُّص في القوَّة والحجم؛ فلم يكن يأتي من جانبها خطر كبير، وإن كان الجميع يعلم قدر الإمبراطورية البيزنطية.

 

مملكة أرمينيا: وكانت تقع في شمال فارس وغرب الأناضول، وكانت في حروب مستمرَّة مع المسلمين، خاصة السلاجقة ومن بعدهم من العثمانيين.

 

مملكة الكُرْج: وهي دولة جورجيا حاليًّا، ولم تتوقَّف الحروب كذلك بينها وبين أُمَّة الإسلام ، وتحديدًا مع الدولة الخُوارِزمية.

 

بقايا الإمارات الصليبية في الشام وفلسطين وتركيا: وهذه الإمارات كانت تحتلُّ هذه المناطق الإسلام ية منذ أواخر القرن الخامس الهجري؛ بدءًا من سنة (491هـ=1098م). وعلى الرغم من انتصارات صلاح الدين الأيوبي على القوات الصليبية في حطين وبيت المقدس وغيرها؛ فإن هذه الإمارات ما زالت باقية، بل وما زالت من آن إلى آخر تعتدي على الأراضي الإسلامية المجاورة غير المحتلَّة، وكانت أشهر هذه الإمارات: أنطاكية وعكا وطَرَابُلُس وصيدا وبيروت.

 

وهكذا استمرَّت الحروب في معظم بقاع العالم الإسلام ي تقريبًا، وزادت جدًّا ضغائن الصليبيين على أُمَّة الإسلام بعد ظهور التتار.

 

خروج التتار على العالم الإسلامي

اختلف المؤرخون اختلافاً كبيراً في سبب خروج التتار على العالم الإسلام ي واجتياحه للمالك الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، فمن قائل بسبب العقلية التوسعية لجنكيز خان، أو بسبب حادثة مقتل تجار المغول على يد أحد ولاة الخوارزميين، أو بسبب تحريض أوروبا الصليبية، أو بسبب الشره لثروات العالم الإسلام ي، أو بسبب تحريض الخليفة الناصر بالله العباسي للتتار على الهجوم على السلطان علاء الدين خوارزم للعداوة بين الرجلين، ومهما يكن من أسباب، والأرجح أنها كل الأسباب المذكورة مجتمعة مع بعضها البعض، فالتتار خرجوا بالفعل سنة 616 هـ على شرق العالم الإسلام ي مثل الطوفان الكبير.

 

بدأت الهجمة التترية الأولى على دولة خوارزم شاه، وجاء جنكيز خان بجيشه الكبير لغزو خوارزم شاه، وخرج له محمد بن خوارزم شاه بجيشه أيضًا. والتقى الفريقان في موقعة رهيبة استمرت أربعة أيام متصلة، وذلك شرق نهر سيحون -وهو يعرف الآن بنهر سرداريا ويقع في دولة كازاخستان المسلمة-، وقتل من الفريقين خلق كثير.

 

لقد استُشهد من المسلمين في هذه الموقعة عشرون ألفًا، ومات من التتار أضعاف ذلك. ثم تحاجز الفريقان، وانسحب محمد بن خوارزم شاه بجيشه لأنه وجد أن أعداد التتار هائلة. وذهب ليُحصِّن مدنه الكبرى في مملكته الواسعة وخاصة العاصمة: أورجندة. وكان هذا اللقاء الدامي في عام 616هـ.

 

انشغل محمد بن خوارزم شاه في تحضير الجيوش من أطراف دولته، ولكن لا ننسى أنه كان معاديًا لجيرانه المسلمين، معادياً للخلافة العباسية في العراق، ولغيرها من الممالك الإسلامية؛ فلم يكن على وِفاق مع الأتراك ولا مع السلاجقة ولا مع الدولة الغورية في الهند. وهكذا كانت مملكة خوارزم شاه منعزلة عن بقية العالم الإسلام ي، ووقفت وحيدة في مواجهة الغزو التتري المهول.

 

وهذه هي عاقبة سوء الأفعال والخصال الرديئة وقطع الأرحام واستحلال المحرمات، فخوارزم لم يجد من يعاونه بعد أن وتر إخوانه المسلمين جميعاً، لذلك كان مصيره ومصيره الدولة الشاسعة الدمار الشامل، وصدق الله العظيم عندما قال (من يعمل سوء يجز به)، وهذه أيضا عاقبة التنازع وفساد ذات البين بين المسلمين بعضهم بعضاً، على الرغم من نداء ربهم (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)[الأنفال: 46].

 

والواقع أن الخطأ الذي ارتكبه خوارزم بانسحابه إلى العاصمة لم يكن تكتيكيًا في المقام الأول، ولكنه كان خطأ قلبيًا أخلاقيًّا في الأساس. لقد اهتم محمد بن خوارزم بتأمين نفسه وأسرته ومقربيه، وتهاون جدًا في تأمين شعبه، وحافظ جدًا على كنوزه وكنوز آبائه، ولكنه أهمل الحفاظ على مقدرات وأملاك شعبه. وعادةً ما يسقط أمثال هؤلاء القواد أمام الأزمات التي تعصف بأممهم. وعادة ما تسقط أيضًا الشعوب التي تقبل بهذه الأوضاع المقلوبة دون إصلاح. ولننظر ماذا تحمل الأيام لمحمد بن خوارزم وشعبه.

 

لقد كان على بعضهم أن يدفع الثمن لكل هذه الأخطاء الأخلاقية والعسكرية، وكانت مدينة "بخارى" الكبرى أول من دفع ثمن تفرق المسلمين واختلافهم والوهن الذي دبّ فيهم.

 

مدينة "بخارى" عبر التاريخ

تعد مدينة بُخَارى من أعظم مدن ما وراء النهر وأجلها، وأعرق بلاد الإسلام في قلب القارة الآسيوية وأم العلوم والفنون وموئل الكثير من علماء الإسلام ومحط رحال طلبة العلم والمحدثين من كل مكان.

 

نشأت مدينة بخارى قبل الإسلام بعدة قرون وكان اسمها باللغة الصينية "نومي" أما عن سبب تسميتها باسم "بخاري" فيرجع الي الكلمة التركية المغولية "بخر" والتي تعني الصومعة أو الدير, وقد كان بالمدينة معبدا بوذيا كبيرا قبل دخولها في الإسلام ويحتمل أنه السبب في تسميتها باسم "بخارى". وقيل انها مشتقة من كلمة "بخار" وتعني العلم الكثير، وسُميت بهذا الاسم لكثرة علمائها.

 

وقد مر الإسلام في طريقه لهذه المدينة بمرحلتين:

المرحلة الاولي: مرحلة البدء والتعريف بهذا الدين الجديد وكان ذلك عن طريق جيش عبيد الله بن زياد سنة 54 هجرية والذي اتجه إليها في خطة مدروسة هاجم فيها مدينة بيكند التي تعد قصبة الحكومة ومركزها التجاري وتم له إخضاعها بعد نضال طويل مع أهلها ثم اتجه الي بخارى ومعه أربعة آلاف أسير ويبدو أنه عاد ولم تخضع له بخاري ولكنها عرفت الفاتحين الجدد وما معهم من دين.

 

المرحلة الثانية : والتي تعتبر هي مرحلة الفتح الحقيقية كانت علي يد قتيبة بن مسلم سنة 90 هجرية وهي فترة تثبيت الهوية الإسلامية والتعريف الحقيقي بهذا الدين, عندما كلف الحجاج قائده الشجاع بفتح بلاد ما وراء النهر عام 86 هجرية ونشر الإسلام فيه ففتح في طريقه بلخ ومرو وعندما اقترب من بخاري إذا به يفاجأ بقوة عظيمة تحيط به وتحاصره ولكن مع كثرة أعدادهم لم يفلحوا في حمل قتيبة علي الرجوع فحاصرها لمدة خمسين يوما ثم خضعت له المدينة.

 

ازدهرت هذه المدينة بعد دخول الإسلام اليها وظهر ذلك في أعلام العلماء الذين خرجوا بعد ذلك من هذه المدينة التي لقبت بمدينة العلماء، وكانت فترة حكم الأمراء السامانيين هي أوج نشاط بخارى العلمي والاقتصادي والحضاري، وما زالت آثار السامانيين موجودة حتى اليوم في بخارى.

 

حصار التتار لبخارى

 في طريق عودة علاء الدين خوارزم إلى عاصمته، أمر بتحصين مدينتي بخارى وسمرقند وكانتا أول مدينتين في طريق التتار، فوضع حامية ببخارى تقدر بعشرين ألفًا وأخرى بسمرقند تقدر بخمسين ألفًا ثم عاد إلى عاصمته بخراسان لاستنفار الجنود والمسلمين هناك للمشاركة في الحرب المتوقعة من قبل جنكيز خان.

 

وحدث ما توقعه القائد المسلم فقد انساح جنكيز خان بجيوشه الجرارة إلى بلاد الإسلام وكانت مدينة بخارى أول مدينة ينزل عليها فضرب عليها حصارًا شديدًا ثم أنشب قتالاً عنيفًا مع حاميتها لم يستمر سوى ثلاثة أيام ثم فرت الحامية الخوارزمية من المدينة وتركت أهلها فريسة سهلة للتتار.

 

فماذا فعل أهلها؟!

دخل أهل بخارى في خلاف بسبب تضارب الآراء، فقد غاب الحاكم وتركهم لمصيرهم المحتوم، والحامية التي تركها لم تصمد وولت مدبرة، فماذا العمل؟

ظهر رأيان في المدينة، ولكل رأي فريق وأنصار

الرأي الأول: تسليم المدينة نظير الأمان على النفس والولد لتجنب القتل على يد جحافل التتار، وكانت الأكثرية مع هذا الرأي بعد أن غاب عنهم الاستعلاء الإيماني والثبات واليقين بالنصر، وغلبهم حب الدنيا وكراهية الموت، كما غاب عنهم أخلاق التتار الخسيسة ونكثهم للعهد، على الرغم من نداء ربهم لهم (لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة).

 

الرأي الثاني: الصبر والثبات وقتال التتار، وكان أنصار هذا الرأي قليل، وهم المجاهدون المتطوعون من أهل المدينة، والعلماء والمشايخ ممن آثروا الجهاد دفعاً عن الدين والعرض على التسليم والدنية للكافرين.

 

وبعد مفاوضات ومداولات اكتشف المجاهدون أن الاتجاه السائد في المدينة هو الاستسلام، فقرروا الاعتصام بالقلعة الكبيرة التي تمثل خط الدفاع عن المدينة، وكانت قلعة حصينة وقوية ومليئة بالمؤن والعتاد، كما أنها محاطة بالخنادق العميقة، ودخل معهم القلعة العلماء والفقهاء وأصحاب الحديث، في حين قرر المتخاذلون والمستسلمون والمنهزمون نفسياً وإيمانياً وعلى رأسهم تجار بخارى وأثريائها ووجهائها فتح أبواب مدينتهم بأيديهم لأعدائهم.

 

وهنا يثور تساؤل آخر: ما الذي دفع معظم أهل المدينة للتخاذل والاستسلام سريعاً على الرغم من كثرة أعدادهم وحصانة مدينتهم ووفرة المؤن عندهم؟!

الإجابة تتخلص في كلمة واحدة : الهزيمة النفسية. فأهل بخارى لم يسبق لهم أن واجهوا التتار من قبل، ولكنهم سمعوا عن وحشية التتار وشدة بأسهم في القتال، وكيف أن سلطانهم علاء الدين خوارزم صاحب الجيوش الجرارة لم يستطع أن ينتصر على فليق واحد من الجيش التتاري!!

فلقد كانت الشائعات والأراجيف تعمل عمل النار في الهشيم، التتار لا يهزمون، التتار لا يفرون، التتار لا يرحمون أحداً، التتار يشربون دماء ضحاياهم، ويأكلون الأخضر واليابس، التتار كذا وكذا، حتى ظل أهل بخارى أن مواجهتهم ضرب من العبث والجنون، فأكلت الهزيمة النفسية قلوبهم واستسلموا، ولكن ما بعد ذلك كان أشد منه.

 

وفي 4 ذي الحجة سنة 616 هـ، فتح أهل المدينة أبوابها لجنكيز خان الذي تظاهر بادئ الأمر بالوفاء بعهوده وعدم التعرض لأهلها، ولكنه كان يضمر شيئاً آخراً، كان يريد منهم أن يساعدوه في الاستيلاء على قلعة المدينة المتحصن بها المجاهدون والعلماء والفقهاء، وهنا كان الموقف المخزي المشين الذي يُستجلب به العذاب، والخيانة للدين والعرض التي يُستحق به البوار.

فقد قام أهل المدينة بالتعاون مع جنود جنكيز خان في ردم خنادق القلعة وطمّ آبارها لتسهيل سقوط القلعة، وما إن تمت عملية الردم حتى قام جنكيز خان بحصار القلعة حصاراً خانقاً لمدة عشرة أيام مع القتال المتواصل حتى اقتحم القلعة وقتل كل من فيها من المجاهدين وكانوا حوالي ألفين من المقاتلين.

 

مجزرة بخارى وعواقب الخذلان والانهزام

ظن الحمقى أنهم قد صاروا بمأمن بعد أن قدموا دماء إخوانهم المجاهدين قرباناً للطاغية جنكيز خان، ولكن سنة الله ماضية، وقدر الله نافذ فيمن لا يعتبرون ويتعلمون من دروس التاريخ وأخطاء السابقين.

 

بدأ جنكيز خان في خيانة عهده، فسأل أهل المدينة عن كنوزها وأموالها وذهبها وفضتها، ثم اصطفى كل ذلك لنفسه، ثم أحل المدينة المسلمة لجنده، ففعلوا بها ما لا يتخيله عقل ويخطر على بال إبليس نفسه، وحشية لا يدانيها إلا ما فعله إخوانهم في العداوة ؛ الصليبيون يوم احتلال بيت المقدس.

 

يصف ابن كثير مشهد السقوط والمجزرة بعبارات باكية وكلمات دامية، فقال: " فقتلوا من أهلها خلقًا لا يعلمهم إلا الله، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا مع النساء الفواحش في حضرة أهليهن ارتكبوا الزنا مع البنت في حضرة أبيها، ومع الزوجة في حضرة زوجها، فمن المسلمين من قاتل دون حريمه حتى قُتِل، ومنهم من أُسر فعُذِّب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم أشعلت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها، فاحترقت المدينة حتى صارت خاوية على عروشها".

 

قال ابن الأثير واصفاً بعض ما جرى: "وممن اختار أن يقتل ولا يرى ما نزل بالمسلمين الفقيه الإمام ركن الدين إمام زاده وولده، فإنهما لما رأيا ما يفعل بالحرم قاتلا حتى قتلا، وكذلك فعل القاضي صدر الدين خان، ومن استسلم أخذ أسيراً، وألقوا النار في البلد والمدارس والمساجد، وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال..".

 

وهكذا قتل المستسلمون كما قتل المجاهدون، ولكن شتان ما بين الفريقين، ولكن لما كانت الأكثرية من المتخاذلين كانت الهزيمة والدمار، والصف المؤمن مهما كانت درجة نقائه إذا فيه دخل وخبث، فإن ذلك من مسببات وقوع الهزيمة والخسران، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)[ آل عمران: 152].

 

كل ذلك حدث بسبب الهزيمة النفسية وضعف الثقة بالله وغياب الاعتماد عليه، كل ذلك حدث بسبب حب الدنيا وكراهية الموت، فالدنيا حلوة خضرة، والنفوس البشرية جُبلت على حُبها، لكن حينما يُسيطر حبُّ الدنيا على القلوب، ويكره المسلمون الموت في سبيل الله؛ كأنهم الغثاء الذي يحمله السيل؛ إذا توجَّه السيل شرقًا شرَّقوا معه، وإذا توجَّه غربًا غرَّبوا معه، حينها ينزع الله مهابتهم من قلوب أعدائهم.

المشاهدات 505 | التعليقات 0