متى يغضب عليه الصلاة والسلام

هلال الهاجري
1436/01/19 - 2014/11/12 07:38AM
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: أَوصِنِيْ، قَال: (لاَ تَغْضَبْ) .. فَرَدَّدَ الرَّجُلُ مِرَارَاً، - أَيْ قَالَ: أَوْصِنِي - قَالَ: (لاَ تَغْضَبْ) .. فلم يزدْ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على هذه الكلمةِ الجامعةِ .. والوصيَّةِ الماتعةِ.
ولكن قد يقولُ قائلٌ: لقد قرأنا أحاديثَ كثيرةً .. وسمعنا مواقفَ في السِّيرةِ .. غَضِبَ فيها النَّبيُ صلى اللهُ عليه وسلمَ .. فهل الغضبُ كلُّه مذمومٌ .. أو أنَّ هناكَ غضبٌ ممدوحٌ .. فتعالوا لنرى متى يغضبُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؟.
يغضبُ بأبي هو وأُمِّي عندما يرى مُنكراً في بيتِه .. عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً - وسادةً يُجلسُ عَليها- فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْهُ، قالت: فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟)، قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا .. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ، وَقَالَ: (إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ) .. وسادةٌ عليها صورٌ تُغضبُ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ وتمنعه من دخولِ البيتِ .. فكيفَ بنا نحنُ في بيوتٍ قد كَثرتْ فيه صُوَرُ المَجَلاتِ .. وانتشرتُ فيها على الرفوفِ تَماثيلُ البَشرِ والحيواناتِ .. والصُّوَرُ التِّذكاريَّةُ على الجُدرانِ وفي الجَوَالاتِ .. وفضائيَّاتٌ تَبُثُّ العُهرَ والفُسوقَ والطَّعنَ في الدِّينِ وأهلِه من أهلِ الخيرِ والصَّالحاتِ .. فلم نغضبْ .. ولم يُعرفْ في وجوهِنا الكراهيَّةُ .. فاللهمَّ هُداكَ ومغفرتَك ورُحماكَ.
يغضبُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عندما رأى شرارةَ الغُلوِّ والتَّنطَّعَ في الدِّينِ .. قوماً يستنُّونَ بغيرِ سُنتِه ويَهْدونَ بغير هدْيِه ..عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَضِبَ حَتَّى بَانَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً) .. فإيَّاكم وجفاءَ سُنَّةِ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ .. فخيرُ الهديِ هديُه .. وخيرُ الأمرِ أمرُه .. من عملَ عملاً ليسَ عليه أمرُه فهو مردودٌ .. كَم كرِه من السُّؤالِ مخافةَ المَشقةِ على أتباعِه .. وكم تركَ من الأعمالِ خشيةَ أن تُفرضَ على أمَّتِه .. احْتَجَرَ فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ حُجْرَةً -أَيْ:حَوَّطَ مَوْضِعًا مِنَ الْمَسْجِدِ بِحَصِيرٍ لِيَسْتُرَهُ لِيُصَلِّيَ فِيهِ- فَكَانَ يَخْرُجُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُصَلِّي فِيهَا، فَصَلَّوْا مَعَهُ لِصَلَاتِهِ يَعْنِي رِجَالًا وهذا أَصْلُ صَلَاةِ التَّراويحِ، وَكَانُوا يَأْتُونَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي، لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَحْنَحُوا وَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا بَابَهُ -أَيْ رَمَوْهُ بِالْحَصْبَاءِ، -وَهِيَ الْحَصَى الصِّغَارُ-، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغْضَبًا فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنْ سَتُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ) .. فخافَ أن تُفرضَ علينا صلاةُ التَّراويحِ فلا نُطيقُها .. ولذلكَ وَصفَه الذي يعلمُ السِّرَ وأخفى ويعلمُ ما في الصُّدورِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) .. فالزموا سُنَّتَه ففيها الهُدى والخيرُ والرَّشادُ والبركةُ والنَّجاةُ والسَّدادُ .. في الدُّنيا ويومَ المَعادِ.
ومما يُغضبُه أيضاً إطالةُ بعضِ الأئمةِ للصَّلاةِ مما قد يُسبِّبُ تنفيرَ بعضِ النَّاسِ عنها أو التَّأخرَ في الحُضورِ إليها .. عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَاللَّهِ لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ) .. فيا أيُّها الأئمَّةُ رفقاً بالمُصلِّينَ .. خاصةً في هذا الزَّمانِ الذي ضَعُفَ فيه الإيمانَ .. وكَثُرتْ فيه الأشغالُ .. وقلَّ فيه الخُشوعُ .. فحبِّبوا النَّاسَ في عَمودِ الدِّينِ .. مُتَّبعينَ وصيَّةَ سيِّدِ المُرسلينَ.
يغضبُ صلى اللهُ عليه وسلمَ ويظهرُ الغضبُ على وجهِه إذا رأى اختلافَ الأمَّةِ على كتابِ اللهِ تعالى .. يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: هَجَّرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا – أَيْ بَكَّرْتُ-، قَالَ فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ فَقَالَ: (إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ) .. فيا عبادَ اللهِ .. إذا كانَ الاختلافُ على آيةٍ واحدةٍ أثارَ هذا الغضبَ في وجهِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ .. فكيفَ لو رأى اختلافَنا اليومَ على الأحاديثِ والآياتِ .. والأحكامِ والاعتقاداتِ .. أحزابٌ مُتشاكِسونَ .. ومذاهبُ مُتفرقونَ .. فخالفنا أمرَ (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) .. وتركنا مدحَ (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) .. فمتى الرُّجوعُ إلى كتابِ اللهِ تعالى وسُنَّةِ نبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .. فلا اجتماعَ إلا تحتَهما .. ولا اتِّفاقَ إلا في ظِلِّهما.
يغضبُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ويحمَّرُ وجهُه إذا لمْ يُعظَّمْ اللهُ تعالى حقَّ التَّعظيمِ .. ولمْ تُحترمْ بيوتُه حقَّ الاحترامِ .. عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَحَكَّتْهَا، وَجَعَلَتْ مَكَانَهَا خَلُوقًا –أي طِيباً-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا أَحْسَنَ هَذَا) .. وإن كانَ تطهيرُ المساجدِ واحترامُها حقَّاً على المسلمينَ .. فأيضاً هذا الغضبُ العظيمُ له سببٌ كبيرٌ .. رَأَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَلَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا) .. ولو استشعرنا هذا القيامَ .. لخشَعت القلوبُ والعِظامُ.
يغضبُ نبيُّ العِزَّةِ صلى اللهُ عليه وسلمَ إذا رأى مظاهرَ التَّشبُّهِ بالكفَّارِ في أفرادِ أمتِّه الشَّريفةِ العزيزةِ .. حتى ولو كانَ عن غيرِ قصدٍ .. عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما الشَّابِّ العابدِ، أَنَّهُ رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُعَصْفَرَانِ - وَهِيَ الْمَصْبُوغَةِ بِعُصْفُرٍ وَلَونَهُ أَحْمَرُ- فغَضِبَ، فَقَالَ: (هَذِهِ ثِيَابُ الْكُفَّارِ فَلا تَلْبِسْهَا) .. فالمسلمُ له شخصيَّتُه العزيزةُ .. وله شريعتُه الأبيَّةُ .. وقدوتُه الشَّامخةُ .. فكيفَ لو رأى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حالَنا في هذا الزَّمانِ .. وكيفَ أصبحَ من أهلِ الإسلامِ مَنْ يذوبُ في حضارةِ الغربِ .. فلباسُه وكلامُه ومظهرُه وقدوتُه من الكَّفارِ .. ولم يبقَ له من الإسلامِ إلا اسمُه الذي سماهُ به أبوه .. فيا أهلَ الإيمانِ قد جاءَ في الحديثِ: (وَلَا يُحِبُّ رَجُلٌ قَوْمًا إِلَّا حُشِرَ مَعَهُمْ) .. ففي اليَومِ الذي يُحشرُ فيه الحبيبُ مع الحبيبِ .. من يُحبُّ منَّا أن يُحشرَ مع أهلِ الصَّليبِ؟.
غضبَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عندما رأى كتاباً من كُتُبِ أهلِ الكتابِ مع عمرَ الفاروقِ .. كما جاءَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ فَقَالَ: (أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ - أَمُتَّحَيُرونَ، أَتَشُكُّونَ- وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي) .. فإذا كانَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ غضبَ على الفاروقِ الذي يفِّرُ الشَّيطانُ من الطَّريقِ الذي يمشي فيه لأنه جاءَ بكتابٍ من كُتُبِ الأولينَ الذي اختلطَ فيه الحقُّ بالباطلِ .. بكيفَ بغيرِه من المسلمينَ الذي يتَّصفحُ كُتُبَ البَاطلِ والإلحادِ والزَّندقةِ بزعمِ سِعةِ الاطِّلاعِ .. والحُريَّةِ الثَّقافيَّةِ .. ثُمَّ يدَّعي رُسوخَ إيمانِه .. وقوَّةَ عقيدتِه .. وهو لا يعلمُ أنه قد أصابتُه هذه الكُتُبُ بلوثةٍ فكريَّةٍ .. وشكوكً عقَديَّةٍ .. فأصبحَ يُجادلُ في أمورِ الغيبِ .. وأركانِ الإيمانِ .. وضروراتِ الدِّينِ .. بل حتى في وجودِ الخالقِ سُبحانَه.
يغضبُ رسولُ العدلِ والإنصافِ عندما يرى محاولاتٍ لتعطيلِ حدودِ اللهِ عزَّ وجلَّ .. فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا كَلَّمَهُ أُسَامَةُ فِيهَا تَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَالَ : (تُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟)، قَالَ أُسَامَةُ: فَاسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ثُمَّ قَامَ فخَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فَقُطِعَتْ يَدُهَا .. فالحدودُ هي الوسيلةُ العُظمى لمنعِ الجريمةِ والاعتداءِ .. ولدفعِ الفوضى ورفعِ البَلاءِ .. بها تُحفظُ أرواحُ النَّاسِ ودماءُهم وأموالُهم وأعراضُهم .. وهي رحمةٌ وكفارةٌ لمن أُقيمَ عليه الحَدُّ المَسنونُ .. (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروهُ وتوبوا إليه، إنَّهُ هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ العظيمِ الرحمنِ، الكريمِ المنَّانِ، المتفضلِ بواسعِ الرحمةِ والعطاءِ والإحسانِ، أحمدُه سبحانَه وأشكرُه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، وخيرتُه من خلقِه، صلّى اللهُ عليه، وعلى آلِه وصحبِه .. أما بعد:
عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَسْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي أُهْدِيَ لِي، قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: (مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ)، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ .. اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) .. فلا إلهَ إلا اللهُ .. يغضبُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على صحابيٍّ جليلٍ قد جاءَ بصدقةِ المُسلمينَ وأنكرَ عليه غايةَ الإنكارِ لأنه قَبِلَ هديةً في أثناءِ عملِه وأخذَها له .. فكيفَ لو رأى من يَستغلُّ مَنصبَه في كلِّ شيءٍ .. فتصلُ أجملُ وأغلى الهدايا إلى أبوابِ بيتِه الكبيرِ .. وتتيسَّرُ أعقدُ الإجراءاتِ والمعاملاتِ بتوقيعِ قلمِه الصَّغيرِ .. ويتوظَّفُ الأخوانُ والأهلُ والأحبابُ باتِّصالٍ قصيرٍ .. الرَّشوةُ سُميَّتْ هديَّةٌ وعربونُ محبةٍ وعشاءٌ ودُهنٌ للسَّيرِ .. ولن يمنعُ هذا اللَّعنةَ التي تحلُّ على أهلِها .. والغِشُّ أصبحَ شطارةً ودهاءً .. ومهارةً وذكاءً .. وويلٌ لهم من وعيدٍ (مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا) .. يكلفونَ النَّاسَ فوقَ طاقتِهم بأنظمةٍ مُعقَّدةٍ .. ووشروطٍ مُعجِزةٍ .. كأنَّهم لم يسمعوا دعاءِ الرَّفيقِ الرحيمِ بأمتِه حيثُ قال: (اللَّهُمَّ مَنْ رَفَقَ بِأُمَّتِي فَارْفُقْ بِهِ، وَمَنْ شَقَّ عَلَى أُمَّتِي فَشُقَّ عَلَيْهِ) .. فالعجيبُ أن يكثرَ الفسادُ .. في أمَّةٍ تراقبُ ربَّ العبادِ.
فيا عبادَ اللهِ .. هكذا كانَ نبيُّكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يغضبُ لنفسِه وإنما كما قالتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً ، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) .. فالغضبُ لمحارمِ اللهِ إذا أُنتهكتْ ممدوحٌ محمودٌ .. ولقد كانَ لكم في رسولِ اللهِ أُسوةٌ حسنةٌ.
اللهم أصلحْ لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرِّنا وأصلحْ لنا دنيانا التي فيها معاشُنا وأصلحْ لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، اللهم لا تجعلْ الدُّنيا أكبرَ همِّنا ولا مبلغَ علمِنا ولا إلى النَّارِ مصيرَنا، اللهم لا تجعلْ مصيبتَنا في دينِنا، اللهم اجعلْ الحيَّاةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ والموتَ راحةً لنا من كلِّ شرٍّ، اللهم اختمْ لنا بخيرٍ واجعلْ عواقبَ أمورِنا إلى خيرٍ وتوَّفَنا وأنت راضٍ عنا.
اللهم أصلحْ أئمتَنا وولاةَ أمورِنا وآمنَّا في أوطانِنا ودورِنا، اللهم اغفرْ جميعَ ما مضى من ذنوبِنا واعصمنا فيما بقي من عمرِنا، وارزقنا عملاً زاكياً ترضى به عنا، خذْ بنواصينا إلى الحقِّ، واجعل الإسلامَ منتهى رجائِنا.
اللهم لا تدعْ لنا ولا لأحدٍ من المسلمينَ همَّاً إلا فرجتَه ولا ذنباً إلا غفرتَه ولا مريضاً إلا شفيتَه ولا ميتاً إلا رحمتَه ولا دَيْناً إلا قضيتَه ولا مبتلىً إلا عافيتَه ولا عسيراً إلا يسَّرتَه ولا كرباً إلا نفَّستَه ولا حاجةً من حوائجِ الدنيا والآخرةِ إلا يسَّرتَها.
المرفقات

متى يغضب عليه الصلاة والسلام.docx

متى يغضب عليه الصلاة والسلام.docx

المشاهدات 3152 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا