متدين بلا همة! د.حمزة بن فايع الفتحي

الفريق العلمي
1441/08/14 - 2020/04/07 19:06PM

لو لم تكن الهمةُ فيصلًا في حياة المؤمن، والشاب خصوصًا، لما شُرع لنا المسارعةُ في الخيرات، والتنافس العبادي، ولما تفاوت الناسُ في أعمالهم وحسناتهم، وقد قال تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [المائدة:48]. وفي السنة: قال صلى الله عليه وسلم: "فأعنّي على نفسك بكثرة السجود".

 

وهذه الهمة ضربٌ من ضروب الانتفاضة الداخلية، الراكلة للكسل، والطاردة للغم، والمنابذة للأشغال والصوارف..! والمتشوقة إلى المعالي والأمجاد.

 

شاهدته مرةً ومرات وتعجبت من حاله، ولوحظ اكتفاؤه بمجرد التدين والقيام بالواجبات الأساسية.

 

ويخالطه ضيقٌ وغمٌّ من العمل، ويريد الإنجاز بلا تحرك، والتفوق بلا متاعب، والانتصار بلا مقدمات..! ولا أدري هل قرأ القرآنَ حق قراءته، وهل وعى مواعظَه، وفقِه قصَصه...؟!

 

ويكتفي بالتدين الظاهر، ويهمل الباطن، ويأنف من التعلم الإضافي والقيمي والمهاري، الذي يضاعفُ درجة همته ونشاطه وحيويته.

 

ومع تدينه الطيب في الجملة، لكنه يكره العمل والانطلاق، ويرفض الجد والاحتساب، ويريد ملائكة تنزل من السماء تخطب وتعلّم وتدعو، وتقوم بالنصر المؤزر، والتمكين الراسخ...!

 

وهذه كانت موجودة قبل عقود من الزمان، فتهيأت هذه الفترة، وخلد بعضهم إلى مرتعه القديم الذي كان يروج له، ورأى المسوغات الداعية لذلك، والتي تلف على عقليته قناعةً زائفة..!

 

وحالته تدنو من الاكتئاب العملي والسلوكي، المنقبض على الذات، والشارد من كل ارتباط وقيمة وتفنن وإتقان..!

 

ومن المؤسف عدمُ استفادته من معاني الإسلام ودلائل القرآن، وما يقدمه الكفار من همم وعزمات، وجهود وانطلاقات، وهو ما تكشفه تجارب الحياة، وفي القرآن قال تعالى: (وَانْطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا)[ص:6] وقال عمر رضي الله عنه: "اللهم إني أعوذ بك من جلَد الفاجر، وعجز الثقة".

 

والمخرجُ من ذلك السلبي وتدينه المعوج، أن يُعيد صياغةَ نفسه وقلبِه وسلوكه، فيفقه الشرع حق فقاهته، ويعتقد أن الدين علم وعمل، والدعوة واجبة على الجميع، كلٌ بحسبه، وأن المؤمن المشارك الصبور، خير من المنعزل السلبي، ولا يزال للكلمة الطيبة، والموقف اللطيف، والمعروف اليسير أثرٌ ونعمة ومنفعة.

 

ويدركُ أن الإسلامَ دينُ العلم والطيبة والبذل والسماحة، وأنه دين تفاعلي إيجابي يمقت السلبية والانعزال والبخل بالخيرات والمحاسن.

 

ومن وَقود ذلك التفكر في الجنة ودرجاتها، ومساكن أهلها وتفاوتهم منازل ومراتب...( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)[المطففين:26].

 

والاعتبارُ بنشاط الكفار وما يوردونه من همم وإنجازات، خدمةً لدينهم ومعتقداتهم، وانظر كيف يحركون حروبهم وتسلطهم على المشرق الإسلامي...! والتفكر هنيهةً في ذلك مما يحمل المرء على العمل، وأن يشحذَ عزمه، ويراجع نفسه، ويكون من الفاعلين المنتجين.

 

ويسأل الله كثيرا الإعانة والطاقة، ويكرر أدعية عمل اليوم والليلة، ويكرر "لا حول ولا قوة إلا بالله"، وأصلها ومعناها في الفاتحة الكنز الشافية " إياكَ نعبد وإياك نستعين " قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته ثم رأيته في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة:5].. ويقول أيضا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) تدفع الرياء، (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تدفع الكبرياء، فإذا عوفي من مرض الرياء ب (إياك نعبد) ومن مرض الكبر والعجب ب (إياك نستعين) ومن مرض الجهل والضلال ب (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة:6] عوفي من أمراضه وأسقامه وتمت عليه النعمة وكان من المنعم عليهم غير المغضوب عليهم

 

وحكى العلامة ابن القيم رحمه الله أنه كان يقول ذلك كثيرا. وحكى قصته مع المرض في روضة المحبين، وكيف غلب الطبيب في طبه، حتى قال: ذلك خارج عن علاجنا.

 

وتعلّم من علماء صنفوا في محن، وعبّاد جدّوا على فاقة، ونبلاء برعوا في تعب... وقد تقدمت أخبارهم في مقالات سابقة، وأذكركم ونفسي هنا بيَقظات البخاري العشرين (٢٠) رحمه الله في الليلة الواحدة، حتى خلف لنا جامعه الذهبي، وحملان أحمد رحمه الله المحبرة ديمةً، حتى كتب المسند الضخم، والنووي صاحب (٤٥) سنة والتراث المهول وراءه كالروضة والرياض والمجموع والمنهاج. والخطيب البغدادي رحمه الله، القارئ المشاء والكتاب، وترك لنا تاريخ بغداد ولوامع نادرة. والسَرَخْسي الحنفي صاحب البئر والمبسوط، انبسطت نفسه فكتب لنا (٢٠) مجلدة وهو محبوس في عمق الجُب..! فلله درهم، تطول أخبارهم، ولا تنقضي نفائسهم..

 

ولا زال في الجُب العميق محاسنٌ...تلدُ العجيبَ وتورق الأزهارا...! فاللهم ارحم ضعفنا، وأعنا على أنفسنا، إنك جواد كريم.

المشاهدات 567 | التعليقات 0