ما ينبغي سلوكه في معاشرة المؤمنين: 1444/2/6هـ

عبد الله بن علي الطريف
1444/02/05 - 2022/09/01 09:00AM

ما ينبغي سلوكه في معاشرة المؤمنين: 1444/2/6هـ

أما بعد: يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

أيها الإخوة: فإن الله خلق الخلق وغرس فيهم حب الاجتماع والتعايش فيما بينهم، ولقد حث الإسلام على الاجتماع ورغب فيه فقال سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا. وعنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ. رواه ابن ماجة وغيره وصححه الألباني...

ومن هذا المنطلق حث الإسلام على الاجتماع وحسن المعاشرة بين المسلمين فيما بينهم، ولقد تمثل هذا الخلق ودعا إليه الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله.. وركز عليه فيما كتب وهذا الخلق ظاهر جلي في سلوكه كما نقل عنه ذلك ممن عاشروه، وسأقتبس في خطبة اليوم مما كتب أسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه ووالدينا الفردوس الأعلى.

أيها الأحبة: أصل حسن المعاشرة بين المسلمين قوله ﷺ: أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا، وقوله ﷺ لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

قال الشيخ السعدي: واعلم أن الناسَ في معاشرةِ بعضهم بعضاً درجاتٌ في الخير والشر لا تنضبط درجاته، وأغلب المعاشرات قليلةُ الجدوى عديمة الفائدة، بل كثيرٌ منها مؤدٍّ إلى الخسران والأضرارِ الدينية والدنيوية.

ونذكر في هذا الموضع أعلى الأقسام وأنفعها وأبقاها ثمرةً، فإن أدركها المؤمن بتوفيق الله ثم جدِّه واجتهاده، فقد أدرك كلَّ خيرٍ، وإن لم تقو نفسُه على بلوغِها فليجاهدها ولو على بعضها، وهي يسيرة على من يسرها الله عليه.

فأصل ذلك أن تعتقدَ عَازْماً جازماً وعقيدةً صادقةً على محبة جميع المؤمنين، والتقربِ لله في هذه المحبةِ، وتجتهدَ في تحقيقها على وجه العمومِ، وعلى وجه الخصوص، وعلى قلعِ ما يضادُّها أو يَنْقُصها، فتعتقدُ أن تَحَقُقَ القلب بمحبة المؤمنين عبادةٌ من أجلِ العبادات وأفضلِ الطاعات، فتتخذَ جميعَ المؤمنين إخواناً، تحب لهم ما تحبُ لنفسك من الخير وتكره لهم ما تكرَهه لنفسك من الشر، وتَفَقَّد قلبك في تحقيقِ هذا الأمرِ الجليل والاتصاف به، والاحتراز من ضده، من الغلِّ والحقد والحسد والبغض لأحدٍ منهم، ومتى رأيت من قلبك شيئاً من ذلك فبادر بقَلعه، واسأل الله أن لا يجعل في قلبك غلاًّ على أحد من المؤمنين، خاصتِهم وعامتِهم، ومَيّزْ من له في الإيمانِ مقامٌ جليلٌ كعلماءِ المسلمين وعُبَّادِهم بزيادة محبة، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10] أي: من جاء بعد المهاجرين والأنصار (يَقُولُونَ) على وجه النصح لأنفسهم ولسائر المؤمنين: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ... وهذا دعاءٌ شاملٌ لجميع المؤمنين، السابقين من الصحابة، ومن قبلَهم ومن بعدَهم، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضُهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي من فروعها أن يدعو بعضُهم لبعض، وأن يحبَ بعضُهم بعضاً.

ولهذا ذكر اللهُ في الدعاء نفي الغل عن القلب الشامل لقليل الغل وكثيره، الذي إذا انتفى ثبت ضده، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين. لأن دعاءهم بذلك مستلزم لمحبة بعضهم بعضاً، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، وأن ينصح له حاضرا وغائبا، حيا وميتا، وأن هذا من جملة حقوق المؤمنين بعضهم لبعض، وهؤلاء أهلُه، جعلنا الله منهم، بمنه وكرمه.

وتعاهد أيها الأخ المبارك ذلك بالتحبب إلى المؤمنين بطلاقة الوجه وحسن الخلق والمعاملة الجميلة بين المسلمين فإنها في نفسها عبادة، وجالبةٌ لتحقق المودة والرحمة في القلوب بينك وبين المؤمنين.. مصداق ذلك ما رواه أَبِو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ ﷺ لا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ. رواه مسلم وعن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: قال رسول الله ﷺ: إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاقًا. رواه البخاري.

 وقال الشيخ: ووطن نفسك أخي الكريم على ما ينالك من الناس من أذىً قولي، أو أذىً فعلي أو معاملة منهم بضد ما عاملتهم به من إحسان، فإن توطين النفس على ذلك يسهلُ عليك الأمر وتتلقى أذاهم بضده، وليكن التقربُ إلى الله عند ذلك على بالك، فإن التقرب إلى الله هو الذي يهون عليك هذا الأمرَ الذي هو شديدٌ على النفس، واعلم أن هذا الوصفَ من أوصاف الكُمِّل من أولياء الله وأصفيائه فبادر للاتصاف به، فمن أبغضك وعاداك وهَجَرَك فعامله بضد ذلك لتكسب الثوابَ، وتكسب هذا الخُلقَ الفاضلَ، وتتعجل راحة قلبك، وتخفف عن نفسك هم المعاداة، وربما انقلب العدو صديقا والمبغض محباً، كما هو الواقع، واعف عما صدر منهم لله، فإن من عفا عن عباد الله عفا الله عنه، ومن سامحهم سامحه الله، ومن تفضل عليهم تفضل الله عليه والجزاءُ من جنسِ العمل، وليَنْصَبِغْ قلبُك كلَّ وقت بالإنابة إلى الله، ومحبة الخير لعباد الله، فإن من كان كذلك فقد تأصلت في قلبه أصول الخير التي تؤتي أُكُلَها وثمراتِها كل حين بإذن ربها، وبهذا يكون العبد أوَّاباً، (إِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا). أ هـ

أيها الإخوة: ومما ينبغي أن يعاشر المسلم به الخلق الإحسان إليهم بالقول والفعل، وأنواع المعروف، وكلها خيرٌ وإحسان، وبها يدفع الله عن البر والفاجر الهموم والغموم بحسبها، ولكن للمؤمن منها أكمل الحظ والنصيب، ويتميز بأن إحسانه صادرٌ عن إخلاص واحتساب لثوابــه، فيُهَون الله عليه بذلَ المعروف لما يرجوه من الخير، ويدفع عنه المكاره بإخلاصه واحتسابه، قال تعالى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا. النساء:114. فأخبر تعالى أن هذه الأمور كلها خيرٌ ممن صدرت منه. والخير يجلب الخير، ويدفع الشر. وأن المؤمن المحتسب يؤتيه الله أجراً عظيماً. اللهم اكتب لنا من الأخلاق أحسنها ومن الأعمال صالحها واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين أو مضلين. وصلى الله على نبينا

الخطبة الثانية:

أما بعد أيها الأخ المبارك: وإذا اجتمعت مع الناس فخالقهم على حسبِ درجاتِهم، الصغيرُ والكبيرُ والشريفُ والوضيعُ، والعالمُ والجاهلُ، كلُ أحدٍ تكلمْ معه بالكلام الذي يناسبُه ويليقُ بحاله، ويدخل السرور عليه، وبالكلام الذي له به ميدان، معلماً للجاهلِ متعلماً ممن هو أعرف منك متشاوراً مع نظيرك فيما هو الأحسن والأصلحُ من الأمور الدينيةِ والدنيويةِ، آخذاً لخواطرهم موافقاً لهم على مطالبِهم التي لا محذور فيها، حريصاً على تأنيسهم وإدخالِ السرور بكل طريق مضمناً كلامك لكل أحدٍ بما يناسبه من النصائح التي تنفعُ الدينَ والدنيا ومن الآداب الجميلةِ، وحَثِّهم على قيام كلٍّ منهم بما هو بصدده من الحقوقِ التي لله والتي للخلق، موضحا لهم الطرق المسهلة لفعل الخير والأسباب الصارفة عن الشر، واقنع بالقليل إذا عجزت عن الكثير؛ واعلم أن قبولهم وانقيادهم مع الرفق والسهولة أبلغ بكثير من سلوك طريق الشدة والعنف إلا حيث تُلجئُ الضرورةُ إلى ذلك فللضرورة أحكام.

ومن حسن المعاشرة بين المؤمنين أن توطن نفسك على ألا تطلب الشكر إلا من الله، فإذا أحسنت إلى من له حق عليك أو من ليس له حق، فاعلم أن هذا معاملة منك مع الله. فلا تبال بشكرِ من أنعمت عليه، كما قال الله تعالى في حق خواص خلقه: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا). ويتأكد هذا في معاملة الأهل والأولاد، ومن قوي اتصالك بهم فمتى وطنت نفسك على إلقاء الشره عنهم، فقد أرحت واسترحت. اللهم اجعلنا متحابين فيك وأصلح ذات بيننا..

المشاهدات 3507 | التعليقات 0