ما هو موقفُنا من المصائبِ؟

هلال الهاجري
1434/01/29 - 2012/12/13 17:32PM
الحمدُ للهِ خالقِ كلِ شيءٍ .. ورازقِ كلِ حيٍ .. أحاطَ بكلِ شيءٍ علماً .. وكلُ شيءٍ عندَه بأجلٍ مسمى .. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له .. هو الإلهُ المعبودُ .. وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَنا محمداً عبدُه ورسولُه .. صاحبُ المقامِ المحمودِ .. والحوضِ المورودِ .. صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلهِ وأصحابِه الركعِ السجودِ .. والتابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى اليومِ الموعودِ وسلمَ تسليماً كثيراً .. أما بعد:

(اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)

رجلٌ قد تجاوزَ الثلاثينَ .. له أربعةُ أبناءٍ وأمُهم .. يحبُهم ويحبونه .. ليس لهم بعدَ اللهِ تعالى إلا هذا الأبُ الرحيمُ .. يعملُ ليلاً ونهاراً لأجلِ أن يأتيَهم بلقمةِ العيشِ الشريفةِ .. لو رأيتَهم وهم يستقبلونه عندَ البابِ وهو قادمٌ من عملِه .. فيضعُ الأكياسَ من يدِه ويحملَهم بين يديه لعرفتَ السعادةَ التي يعيشونها .. هذا الرجلُ أصابَه حادثٌ أقعدَه الفراشَ فلا يستطيعُ المشيَ ولا الحركةَ ..

هنا فلنتأملْ قولَه تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)

عائلةٌ سعيدةٌ .. لهم ابنٌ في عُمُرِ الزهورِ .. ليس لهم ابنٌ غيرَه .. يكبرُ يوماً بعد يومٍ أمامَ أعينِ والديه .. كم كان يحلمُ أبوه في مستقبلِه .. خططَ كثيراً .. واستشارَ كثيراً .. كانت أمُه تتابعُ دراسَته .. وتساعدَه في حلِ واجباتِه .. كلاهُما ينتظرُ قطفَ الثمرةِ التي سقوها كثيراً .. واعتنوا بها كثيراً .. تعبَ يوماً .. واحتارَ الأطباءُ في مرضِه .. فالولدُ يذبلُ .. والدواء لا يعملُ ..

هنا فلنتأملْ قولَ اللهِ تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

زوجانِ يحبُ بعضُهما بعضاً .. كتبَ اللهُ تعالى بينَهما المودةَ والرحمةَ .. كانتْ نِعمَ المعينِ لزوجِها على طاعةِ اللهِ .. وكانَ يُكرمُها ويُكرمُ أهلَها .. ولكن لم يرزقْهما اللهُ عزَ وجلَ الولدَ .. سنواتٌ عديدةٌ وهم بين طبيبٍ وعلاجٍ .. وبين راقٍ وحوَّاجٍ ..

هنا فلنتأملْ قولَ اللهِ تعالى: (وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)

عبادَ اللهِ ..

ما هو موقفُنا من المصائبِ؟

هل سمعتُم بخبرِ تلك المرأةُ العجيبةُ؟ .. التي تربتْ في مدرسةِ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ .. حبُها للإسلامِ جعلَها تقبلُ بِه مهراً .. وحبُها للنبي صلى اللهُ عليه وسلمَ جعلَها تُهديه ابنَها له خادماً .. إنها أمُ سُلَيمٍ بنتُ مِلْحان رضيَ اللهُ عنها وكانَ من خبرِها:

أنه كانَ لها ابنٌ من أبي طلحةَ رضيَ اللهُ تعالى عنه وكانَ مريضاً .. وكان أبوه يسألُ عنه قبلَ الخروجِ من المنزلِ وبعد عودتِه .. ثم ماتَ الغلامُ .. فغطتُه أمُه في ثوبٍ وجعلَته في إحدى الغرفِ .. ولم ترسلْ أحداً ليزعجَ أباهَ بل انتظرَتْه حتى رجعَ إلى البيتِ.. وقالت لأهلِها: لا تُحدثوا أبا طلحةَ بابنِه حتى أكونَ أنا أُحدثُه .. فلما رجعَ أبو طلحةَ قال: ما فعل َ ابني؟ .. قالت: هو أسكنُ ما يكونُ .. وصدقتْ، وهل هناكَ شيءٌ أسكنُ من الموت؟ .. فقربتْ إليه العشاءَ، فتعشى .. ثُمّ تَصَنّعَتْ لَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَ تَصَنّعُ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمّا رَأَتْ أَنّهُ قَدْ شَبِعَ وَأَصَابَ مِنْهَا .. قَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنّ قَوْماً أَعَارُوا عَارِيَتَهُمْ أَهْلَ بَيْتٍ، فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ، أَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ؟ .. قَالَ: لاَ .. قَالَتْ: فَاحْتَسِبِ ابْنَكَ.

هل تعجبونَ من هذه المرأة؟ بل أعجبُ منها من لم تكن تحفظُ كثيراً من القرآنِ .. وإنما هو الإيمانُ باللهِ تعالى .. قالَ الأصمعيُ: خرجتُ أنا وصديقٌ لي إلى الباديةِ، فضللنا الطريقَ، فإذا نحنُ بخيمةٍ على يمينِ الطريقِ، فقصدنا نحوَها فسلمْنا فإذا عجوزٌ تردُّ السلامَ، ثم قالتْ: من أنتم؟ قلنا: قومٌ ضللنا الطريقَ، وأَنِسْنا بكم، وقومٌ جياعٌ، فقالتْ: ولُّو وجوهَكم حتى أقضيَ من حقِكم ما أنتُم له أهلٌ.
ففعلْنا وجلسنا على فراشٍ ألقتْه لنا، وإذا ببعيرٍ مقبلٍ وعليه راكبٌ، وإذا بها تقولُ: أسألُ اللهَ بركةَ المُقبلِ، أما البعيرُ فبعير ولدي أمَّا راكبُه فليس بولدي.
فجاءَ الراكبُ قال: يا أمَّ عقيلٍ السلامُ عليكِ، أعظمَ اللهُ أجرَك في عقيلٍ، فقالتْ: ويحَك أو قد ماتَ عقيلٌ؟ قالَ: نعم، قالتْ: ما سببُ موتِه؟ قالَ:ازدحمتْ عليه الإبلُ فرمت به في البئرِ.
فقالتْ: انزل، فدفعت له كبشًا ونحن مدهوشون، فذبحَه وأصلحَه وقرَّب إلينا الطعامَ، فجعلْنا نتعجبُ من صبرِها.
فلمَّا فرغْنا، قالتْ: هل فيكم أحدًا يُحسنُ من كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ شيئًا, قلنا: نعم، قالت: فاقرؤوا عليَّ آياتٍ أتعزَّى بها عن ابني، قال: قلتُ: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) قالتْ: آلله إنها لفي كتابِ اللهِ؟ قلتُ: واللهِ إنها لفي كتابِ اللهِ، قالتْ: إنا للهِ وإنا إليه راجعون، صبرًا جميلاً .. وعندَ اللهِ احتسبُ عقيلاً .. اللهم إني فعلتُ ما أمرتَني به فأنجزْ لي ما وعدتَني، ولو بقيَ أحدٌ لأحدٍ لبقيَ محمدٌ صلى اللهُ عليه وسلمَ لأمتِه؛ قالَ: فخرجْنا ونحن نقولُ: ما أكملَ منها ولا أجزلَ، لمَّا علمتْ أن الموتَ لا مدفعَ ولا محيصَ عنه، وأن الجزعَ لا يجدي نفعًا، وأن البكاءَ لا يردُ هالكًا، رجعت إلى الصبرِ الجميلِ والرِّضا بقضاءِ السميعِ العليمِ، فاحتسبت ابنَها للهِ عزَّ وجلَّ ذخيرةً نافعةً ليومِ الفقرِ والفاقةِ.

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.





الحمدُ للهِ الذي خلقَ فسوى .. والذي قدرَ فهدى .. أحمدُه سبحانَه على نعمِه التي لا تُحصى .. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له .. له الحمدُ في الآخرةِ والأولى .. وأشهدُ أن نبيَنا وسيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه المرتضى .. اللهم صلِ وسلمْ وباركْ على عبدِك ورسولِك محمدٍ المصطفى .. وعلى آلِه وصحبِه ومن تبعَهم واقتفى .. أما بعد:

إنكم إذا قرأتُم القرآنَ ومررتُم بقولِه تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) علمتُم أن المصائبَ لا بُدَ منها لكلِ أحدٍ.. فهل نحنُ قد هيأنا أنفسَنا لاستقبالِها؟ .. هل ننتظرُ مع مرورِ الأيامِ إلا مرضاً مُفْسِدًا.. أو فقراً مُنْسِيًا.. أو هرماً مُفَنِّدًا.. أو موتاً مُجْهِزًا.

أيها المؤمنون ..

هناك من يستقبلُ المصائبَ بنظرةِ (إذا أحبَ اللهُ قوماً ابتلاهم) .. وباحتسابِ (عجباً لأمرِ المؤمنِ إن أمرَه كلَه خيرٌ وليسَ ذاك لأحدٍ إلا للمؤمنِ إن أصابتْه سراءُ شكرَ فكانَ خيراً له وإن أصابتْه ضراءُ صبرَ فكان خيراً له) .. وباستشعارِ (إنما الصبرُ عندَ الصدمةِ الأولى) .. وبيقينِ (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) .. وبقولِ (أنا للهِ وأنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفْ لي خيراً منها) .. (أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

وإن من عبادِ اللهِ من لا يصلحُ له إلا البلاءُ .. تأملوا في قولِ الله تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) .. قمةُ الذلِ والتعبدِ والخضوعِ للهِ الذي بيدهِ كلُ شيءٍ .. دعاءٌ على كلِ حالٍ وفي كلِ مكانٍ .. (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ) هل استشعرتُم ذلك الموقفُ .. قمةُ الجحودِ .. يمرُ على الأماكنِ الذي كانَ يتضرعُ فيها للهِ تعالى وكأنه لم يرفع يديه يوماً .. ولم يُسْكَبْ دمعُه يوماً .. ولم يلح على الله تعالى بالدعاءِ يوماً .. (كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

اللهُم إنا نعوذ ُ بك من زوالِ نعمتِك .. وتحوّلِ عافيتِك .. وفَجأةِ نِقمتِك .. وجميعِ سَخطِك .. اللهم أصلحْ لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرِنا .. وأصلحْ لنا دنيانا التي فيها معاشُنا .. وأصلحْ لنا آخرتَنا التي اٍليها معادُنا .. واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كلِ خيرٍ .. واجعل الموتَ راحةً لنا من كلِ شرٍ.
المرفقات

موقفنا من المصائب.zip

موقفنا من المصائب.zip

المشاهدات 3236 | التعليقات 1

خطبة رائعة ومواقف مفيدة.

بارك الله لك في علمك ووقتك وزادك ربي من فضله.