ما لا تراه عينُ الطمع

د. سلطان بن حباب الجعيد
1446/06/24 - 2024/12/26 18:37PM

الحمدُ للهِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، خَلَقَ الخلقَ بقدرتِه، ورزقَهم بكرمِه وفُيوضِ عطائِه ومِنَّتِه، وهداهم إليه بفضلِه ورحمتِه، وأنزلَ الطمأنينةَ والسَّكينةَ على قلوبِ عبادِه الذين جعلهم من صَفوتِه.

وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، أشفقُ رسولٍ على أمَّتِه، الذي جعله اللهُ محلَّ خُلَّتِه، وأرسله للعالمين ليشملَهم برحمتِه.

صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، صلاةً وسلامًا، نرجو بها النجاةَ من عذابِه ومقتِه، ويُلحقنا بها في جوارِه في أعلى جنتِه.

 


أيها الناسُ: اتقوا اللهَ، فمنِ اتقى اللهَ، كانَ اللهُ معه، ومن كانَ اللهُ معه، سَعُدَ في الدنيا والآخرةِ، قال اللهُ تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 194].

 


أما بعد:

أيها السادةُ الكرامُ: من المهامِّ التي يجب علينا أن نضطلعَ بها في حياتِنا هذه المطبوعةِ على الكَدَرِ، مطاردةُ أسبابِ الحزنِ والتخلصُ منها، حتى ننعمَ قدرَ استطاعتِنا بحياةٍ هادئةٍ وادعةٍ.

ومن مسبِّباتِ الحزنِ، التي مُنيَ بها كثيرٌ من الخلقِ، أن تمتدَّ أعينُهم لما في أيدي الأغنياءِ والموسرينَ، فيرَونَ ما هم فيه من النعيمِ، ورغدِ العيشِ وسعتِه، حتى إذا ما ارتدَّ إليهم بصرُهم، ورأوا البونَ الشاسعَ بينهم وبينَ هؤلاءِ المُترفينَ، ارتدَّ حزينًا وأسيفًا، وقالوا بلسانِ الحالِ والمقالِ: يا ليتَ لنا مثلَ ما أوتيَ هؤلاءُ، إنهم لذوُو حظٍّ عظيمٍ!

فأورثَهم كلُّ هذا في قلوبِهم حسرةً وحزنًا، وازدراءً لنعمةِ اللهِ عليهم، فقلَّ شكرُهم للهِ، ومن قلَّ شكرُه؛ قلَّت سعادتُه.

 


وهذا من الحقائقِ المُقرَّرةِ، أنَّ المقارنةَ تسلبُ منك سعادتَك وهناءَك؛ ولذلك جاء النهيُ عنها، كما قال اللهُ تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 131].

وجاء في الحديثِ الصحيحِ: “انظروا إلى من هو أسفلَ منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقَكم؛ فإنه أجدَرُ ألا تزدروا نعمةَ اللهِ عليكم”.

 


أما ما أودُّ قولَه لكم، وألفتُ عنايتَكم إليه، لعلَّه أن يساهمَ في علاجِ هذا السببِ المؤرِّقِ، ويخففَ من حزنِه وغلوائِه، ويقنعَ بالعدولِ عنه:

هو أنَّ لحياةِ هؤلاءِ الأثرياءِ والموسرينَ جانبًا لا تراه عينُ الطَّمعِ فينا؛ لأنَّها عينٌ من طبيعتِها الضعفُ، وقصرُ النظرِ، فبريقُ الدنيا يحجبُ عنها بقيةَ الصورةِ.

 


فهي لا تَرَى ما قاسَوْهُ وعانَوْهُ، حتى وصَلُوا إلى ما هُمْ فيهِ؛ فالنجاحُ لا يأتي عَفْوًا كما هو مَعروفٌ، فَكَمْ مِنَ الدموعِ سَحُّوا؟ وَكَمْ مِنَ الليالي أَرِقُوا؟ وَكَمْ مِنَ الفشلِ خافُوا؟

ثُمَّ هي لا تَرَى أيضًا الجُهْدَ والمعاناةَ التي يُقَاسُونَها بعدَ نجاحِهِمْ في الحُصولِ على الثَّرْوَةِ، في سبيلِ حِياطتِها ورعايتِها وتنميتِها.

وكذلكَ تَقْصُرُ عينُ الطَّمَعِ أن تَرَى أنَّ امتحانَهُمْ وابتلاءَهُمْ بِحَجمِ ما خوَّلَهُمُ اللهُ فيهِ؛ لذلكَ سؤالُهُمْ في الآخرةِ أشدُّ، وموقِفُهُمْ أطولُ.

 


وإذا أضَفْنَا إلى ذلكَ أنَّ المالَ مهما كَثُرَ عندَهُمْ، لا يُخَلِّصُهُمْ من آفاتِ النَّفْسِ البشريَّةِ إذا حُرِمُوا من معاني الإيمانِ، فهم أيضًا يُقَاسُونَ الطَّمَعَ، والتَّطَلُّعَ إلى ما في أيدِي غيرِهِمْ، وعَدَمَ الرِّضا عن أنفُسِهِمْ، بما يكونُ في قسوتِهِ وألَمِهِ بحَجمِ ثرواتِهِمْ؛ نكونُ قد أضَفْنَا جانبًا آخرَ من الصُّورةِ لا تَرَاهُ عينُ الطَّمَعِ.

 


مَنْ ذَا الذِّي قَدْ نَالَ رَاحَةَ فِكْرِهِ

فِي عُمْرِهِ مِنْ عُسْرِهِ أَوْ يُسْرِهِ؟

يَلْقَى الغَنِيُّ لِحِفْظِهِ مَا قَدْ حَوَى

أَضْعَافَ مَا يَلْقَى الفَقِيرُ لِفَقْرِهِ

فَيَظَلُّ هَذَا سَاخِطًا فِي قِلَّهِ

وَيَظَلُّ هَذَا تَاعِبًا فِي كَثْرِهِ

أَوَ مَا تَرَى المَلِكَ العَزِيزَ بِجُنْدِهِ

رَهْنَ الهُمُومِ عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِ

فَيَسُرُّهُ خَبَرٌ وَفِي أَعْقَابِهِ

خَبَرٌ تَضِيقُ بِهِ جَوَانِبُ قَصْرِهِ

وَأَخُو التِّجَارَةِ حَائِرٌ مُتَفَكِّرٌ

مِمَّا يُلاَقِي مِنْ خَسَارَةِ سِعْرِهِ

 


كُلُّ هذِهِ الجوانِبِ وغيرُها مَحْجُوبَةٌ عَنَّا، ومِنَ الخَيْرِ أَنْ نَسْتَدْعِيَهَا، ونُحاوِلَ مُشاهَدَةَ الحَقِيقَةِ كامِلَةً، حَتَّى نُعِيدَ لأَنْفُسِنَا اعْتِدَالَها، ونَعْلَمَ بذلكَ أَنَّهُمْ وإنْ تَفَوَّقُوا عَلَيْنَا في النِّعَمِ، فَهُمْ أَيْضًا رُبَّمَا تَفَوَّقُوا عَلَيْنَا في الألَمِ.

 


وإنْ كُنَّا أَقَلَّ مِنْهُمْ مَالًا وَثَرَاءً، فَنَحْنُ رُبَّمَا نَكُونُ أَقَلَّ مِنْهُمْ ألَمًا. فَنِعَمُ اللهِ لَيْسَتْ قَصْرًا على العَطَاءِ، فَرُبَّمَا تَأْتِي على هَيْئَةِ حِجَابٍ يَحْجُبُ اللهُ بِهِ عنَّا أَلْوَانًا مِنَ الألَمِ والمُعاناةِ، التي كابَدُوهَا وعَافَانَا اللهُ مِنْهَا.

 


بِمِثْلِ هذَا الفَهْمِ، والنَّظَرِ لِلأُمُورِ، نَكُنْ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ والبَصِيرَةِ، الذينَ لا يَغُرُّهُمْ بَرِيقُ مالِ قارُونَ ومَظَاهِرُهُ وزِينَتُهُ الخَدَّاعَةُ، عنِ النَّظَرِ لِعَوَاقِبِ الأُمُورِ وحَقَائِقِها، وحَقَارَةِ الدُّنْيَا مُقَارَنَةً بالآخِرَةِ ونَعِيمِها، فننعمُ بذلك بالراحةِ والطمأنينةِ والسكينةِ.

وإلَّا كُنَّا منَ الفِئَةِ الأُخْرَى، أصحابِ النَّظَرِ القَصِيرِ، الذينَ لا تَكُفُّ أبْصَارُهُمْ عنِ النَّظَرِ، وقُلُوبُهُمْ عنِ التَّحَسُّرِ، وألْسِنَتُهُمْ عنِ التَّمَنِّي، كُلَّمَا رَأَوْا صَاحِبَ ثَرَاءٍ ونِعْمَةٍ، قالوا مِثْلَ ما قالَ مَنْ سَبَقَهُمْ مِنْ أرْبَابِ هذا الفَهْمِ، لَمَّا رَأَوْا قارُونَ ومَالَهُ:

 


﴿يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [القصص: ٧٩].

 


وهُمْ بِسَبَبِ غَفْلَتِهِمْ عنْ عَوَاقِبِ الأُمُورِ، وقِصَرِ نَظَرِهِمْ، لا يَعْلَمُونَ، أنَّهُ رُبَّمَا كانَ العَطَبُ كُلَّ العَطَبِ في تَحَقُّقِ أَمَانِيهِمْ، لوْ كانوا مِثْلَهُمْ، فحَجَبَ اللهُ عَنْهُمْ أَلْوَانًا مِنَ التَّعَبِ والمُعَانَاةِ، وأنْجَاهُمْ مِنْهَا، كما أنْجَى مَنْ تَمَنَّوْا مَكَانَ قارُونَ، مِنْ مَصِيرِهِ وعَذَابِهِ.

 


فَعَلِمُوا بَعْدَ أنْ تَكَشَّفَتْ لَهُمُ الأُمُورُ، أنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ قارُونَ ومَصِيرِهِ، إلَّا أنْ يُحَقِّقَ اللهُ أَمَانِيَهُمْ، فَحَمِدُوا اللهَ على عَدَمِ تَحَقُّقِهَا، فقالوا حَامِدِينَ للهِ شَاكِرِينَ:

 


﴿وَيكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾[القصص: ٨٢].

 


فَالحَمْدُ للهِ على ما تَفَضَّلَ بهِ عَلَيْنَا، والحَمْدُ للهِ على ما صَرَفَهُ عنَّا مِنَ الشُّرُورِ التي لا نُحِيطُ بهَا عِلْمًا.

 


أقولُ قَوْلِي هذا…

 


الثانية:

 


وبَعْدُ:

 


أيُّهَا الإخْوَةُ الكِرَامُ، لَيْسَ في هذا الكَلَامِ ما يُغْرِي بِالقُعُودِ عنِ العَمَلِ والأَخْذِ بأَسْبَابِ النَّجَاحِ، فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالعَمَلِ، والنَّشَاطِ وتَرْكِ الكَسَلِ، وأنْ نَحْرِصَ على ما يَنْفَعُنَا.

 


وإنَّمَا هُوَ مُوَجَّهٌ لِمَنْ قَرَّرَ المُشَاهَدَةَ فَقَطْ، والتَّمَنِّي والتَّحَسُّرَ، بأَنْ يُشَاهِدَ الصُّورَةَ كَامِلَةً على الأَقَلِّ، فَذَلِكَ أَقَلُّ لأَلَمِهِ، وأَجْدَرُ أَنْ لا يَحْتَقِرَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ.

 


اللَّهُمَّ أَغْنِ قُلُوبَنَا، ونَجِّنَا مِنَ التَّعَلُّقِ بِالدُّنْيَا وزُخْرُفِهَا وزِينَتِهَا، واكْتُبْنَا فيها مِنَ الزَّاهِدِينَ.

 


اللَّهُمَّ لا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، ولا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، ولا إلى النَّارِ مَصِيرَنَا…

المشاهدات 907 | التعليقات 0