مَا بَعْدَ رَمَضَانَ هُوَ الاِبْتِلَاءُ الْأَصْعَبُ
إبراهيم بن سلطان العريفان
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ، وَجَعَلَ لِلصِّيَامِ جَزَاءً عَظِيمًا، وَعِوَضًا كَرِيمًا، نَحْمَدُهُ تَعَالَى وَنَشْكُرُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَنْصِرُهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ، أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي الْمُقَصِّرَةَ بِتَقْوَى اللهِ، فَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.
عِبَادَ اللهِ، مَضَى رَمَضَانُ كَسُحَابَةِ صَيْفٍ، وَانْقَضَى كَطَيْفِ حُلْمٍ، فَهَنِيئًا لِمَنْ قَامَهُ وَصَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَوَيْلٌ لِمَنْ أَدْرَكَهُ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، سُؤَالٌ كَبِيرٌ يَطْرُقُ الْقُلُوبَ وَيَسْأَلُ النُّفُوسَ: "مَاذَا بَعْدَ رَمَضَانَ؟"، هَلْ هُوَ نِهَايَةُ الْعِبَادَةِ؟ هَلْ هُوَ خِتَامُ الطَّاعَةِ؟ كَلَّا، بَلْ رَمَضَانُ مَدْرَسَةٌ، وَالْعِبَادَةُ فِيهِ تَدْرِيبٌ، وَالْمُؤْمِنُ بَعْدَهُ مَا هُوَ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْرَارِ.
فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ رَمَضَانَ، فَإِنَّ رَمَضَانَ قَدْ انْقَضَى، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ، فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، مَا بَعْدَ رَمَضَانَ هُوَ مِحَكُّ الصِّدْقِ، وَمِيزَانُ الثَّبَاتِ، فَاسْأَلْ نَفْسَكَ: هَلْ تَغَيَّرْتَ؟ هَلْ تَقَرَّبْتَ؟ هَلْ ثَبَتْتَ؟
اعْلَمُوا أَنَّ رَبَّ رَمَضَانَ هُوَ رَبُّ شَوَّالٍ، وَرَبُّ كُلِّ الشُّهُورِ، وَأَنَّ مَنْ طَلَبَ الْجَنَّةَ جِدًّا، لَمْ يُفَارِقِ الْمِضْمَارَ، وَلَمْ يَرْضَ بِالْفُتُورِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: ٩٩].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، إِنَّ ثَبَاتَكُمْ بَعْدَ رَمَضَانَ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ أَعْمَالِكُمْ، وَإِنَّ الْإِقْبَالَ عَلَى الطَّاعَةِ بَعْدَ الشَّهْرِ الْفَضِيلِ، شِعَارُ الْمُخْلِصِينَ.
فَلَا تَكُونُوا كَالَّذِي يَبْكِي عِنْدَ الْخَتْمَةِ، ثُمَّ يُغْلِقُ الْمُصْحَفَ شَهْرًا، وَلَا تَكُونُوا مِمَّنْ يَدْعُو فِي الْقَدْرِ، ثُمَّ يَهْجُرُ الدُّعَاءَ دَهْرًا.
ثَابِتُوا عَلَى الْخَيْرِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِالْهُدَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يُبَاغِتُ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا.
فَلَا تَكُنْ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ اللهَ إِلَّا فِي رَمَضَانَ، وَلَا تَكُنْ كَالَّذِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا.
وَاذْكُرُوا أَنَّ حَسْنَةً تَجُرُّ حَسَنَةً، وَأَنَّ مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ الْقُرْبِ لَا يَرْضَى بِالْبُعْدِ
اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا أَعْمَالَنَا، وَارْفَعْهَا فِي عِلِّيِّينَ، وَاجْعَلْهَا خَالِصَةً لِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ، لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ.
اللَّهُمَّ لَا تَرُدَّنَا خَائِبِينَ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْمَرْدُودِينَ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ قِيلَ فِيهِمْ: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي مِيزَانِ حَسَنَاتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِنَا، وَاخْتِمْ لَنَا بِالْقَبُولِ وَالرِّضْوَانِ وَالْجِنَانِ، يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، وَلِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ.
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ لِلطَّاعَاتِ أَعْوَاقًا، وَلِلْخَيْرَاتِ أَبْوَابًا، وَفَتَحَ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ سُبُلَ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ.
أَيُّهَا الْمُقْبِلُ عَلَى رَبِّكَ، يَا مَنْ صُمْتَ رَمَضَانَ، وَذُقْتَ لَذَّةَ الطَّاعَةِ، وَسَكِينَةَ الْقُرْبِ، أَلَا فَاعْلَمْ أَنَّ لِرَمَضَانَ صِلَةً، وَلِصِيَامِهِ تَمَامًا، تَكُونُ فِي سِتٍّ مِنْ أَيَّامِ شَهْرِ شَوَّالٍ. قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ".
فَانْظُرْ رَعَاكَ اللهُ كَمْ هُوَ كَرِيمٌ رَبُّكَ، يُعْطِيكَ الْكُلَّ وَأَنْتَ فِي الْقَلِيلِ، يَجْعَلُ لَكَ بِصِيَامِ شَهْرٍ وَسِتَّةِ أَيَّامٍ أَجْرَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ!
فَالسِّتُّ بَعْدَ رَمَضَانَ هِيَ عَلامَةُ قَبُولٍ، وَبِرْهَانُ ثَبَاتٍ، وَمِنْهَاجُ أَوْلِيَاءِ اللهِ الَّذِينَ لَا يَنْقَطِعُونَ عَنِ الْخَيْرِ، بَلْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَيْهِ مَا دَامَتْ فِيهِمُ الرُّوحُ.
هِيَ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: صِيَامُ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَصَلَاةِ السُّنَنِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، تُكْمِلُ نَقْصَ الْفَرْضِ، وَتَزِيدُ فِي الْأَجْرِ وَالرِّفْعَةِ.
وَفِي هَذِهِ السِّتِّ أَدَبٌ رَبَّانِيٌّ، فَهِيَ تُعَلِّمُ الْعَبْدَ أَنْ لَا يَكُونَ رَمَضَانِيًّا، بَلْ رَبَّانِيًّا، وَأَنْ لَا يَعْبُدَ الشَّهْرَ، بَلْ يَعْبُدَ رَبَّ الشَّهْرِ وَرَبَّ الدُّهُورِ كُلِّهَا.
فَصُمْهَا – رَحِمَكَ اللهُ – وَتَلَذَّذْ بِالطَّاعَةِ بَعْدَ الطَّاعَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْلَامِ الْقَبُولِ، وَجَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ مِمَّنْ يُوَفَّقُونَ لِلطَّاعَاتِ دَائِمًا، وَيُكْتَبُونَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا بَعْدَ رَمَضَانَ، وَارْزُقْنَا حُسْنَ الْخَاتِمَةِ، وَتَقَبَّلْ صِيَامَنَا وَقِيَامَنَا، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تُكْتَبُ لَهُمُ الرِّضْوَانُ وَالْجِنَانُ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
المرفقات
1743722804_مَا بَعْدَ رَمَضَانَ هُوَ الاِبْتِلَاءُ الْأَصْعَبُ.pdf
1743722813_مَا بَعْدَ رَمَضَانَ هُوَ الاِبْتِلَاءُ الْأَصْعَبُ.docx