مال الزوجة
سليمان بن خالد الحربي
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه وَنستَعِينُه ونسْتغْفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَن سَار على نهجِه، واقْتَفَى أثرَه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
فاتقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ- حق التقوى، {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
مَعْشَرَ الإِخْوةِ: صُورَةٌ مِن صور الظُّلْمِ وأكْلِ المالِ قد انتَشَرَتْ وتفاقَمَتْ في كثيرٍ مِن البيوت يُزاوِلُها الأزواجُ في كلِّ آخر شهرٍ، ألا وهِي أكْلُ راتِبِ الزَّوْجة أو مكافأتِها، كثيرٌ مِن الأزواجِ يأخُذُ بطاقَةَ الصرافِ مِن زوجته، ويسْحَبُ من مالها، متى ما أرادَ دُونَ خوفٍ أو وَجَلٍ، والْأَنْكى حينَما يأْخُذُه الزّوج دونَ تأنيبِ ضميرٍ، من قال: إن مالَها لَك، واللهِ لتُسْأَلَنَّ يومَ القيامة، عن هذا المال، ولتُحْشَرَنَّ مَع الظلمة وآكلي أموال النَّاس، تأملوا قول الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4].
وسببُ الآيةِ فِيما ذُكِر أن قومًا تحرَّجُوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوه إلى الزوجات فنزلت: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ} فالخطاب للأزواجِ أُمِروا بإيتاء نسائِهم الصَّدَاق، فإن طابت نفوسُهُنَّ بشيءٍ من ذلك فوهبن منكم، {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} سائغًا طيِّبًا.
وقال ابن عباس: «إذا جادت المرأةُ لزوجِها بالعطيَّةِ طائعةً غيرَ مُكرَهةٍ، لا يقضي به عليكم سلطانٌ، ولا يؤاخِذُكم اللهُ تعالى به في الآخرة»([1]).
عن ابن عباس: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4]، يقول: إذا كان غيرَ إضرارٍ ولا خديعةٍ، فهو هنيءٌ مريءٌ، كما قال الله جل ثناؤه، فإن لم يكن عن طِيب نفسٍ فقد سمَّاه اللهُ بُهتانًا وإِثْمًا مُبِينًا، قال الله: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:20].
فتأمَّلْ كيف منع الله -جل وعلا- أن يأخُذَ الزَّوجُ من زوجته بعضَ مهرِها، فكيف بمالٍ هو من كَدِّها وتعبِها وجهدِها؟ ولا شكَّ أن هذا من أعظم الاعتداء وأخذِ المال بغيرِ حقٍّ، روى الامامُ أحمَدُ في مسنده من حديث أَبِي حُرَّةَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَذُودُ عَنْهُ النَّاسَ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَتَدْرُونَ فِي أَيِّ شَهْرٍ أَنْتُمْ؟ وَفِي أَيِّ يَوْمٍ أَنْتُمْ؟ وَفِي أَيِّ بَلَدٍ أَنْتُمْ؟» قَالُوا: فِي يَوْمٍ حَرَامٍ وَشَهْرٍ حَرَامٍ وَبَلَدٍ حَرَامٍ، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَهُ» ثُمَّ قَالَ: «اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»([2]).
وروى مسلمٌ في صحيحِه مِن حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا المفْلِسُ؟». قَالُوا: المفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ: «إِنَّ المفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»([3]).
ورَوى أيضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ»([4]).
ولا شكَّ أن أخذ مال الزوجةِ دون رضاها ظلمٌ وغصب، وأكلٌ لمالها بالباطل، حتى ولو كان الزوج يعود بهذا المال على البيت ونفقته فهو حرامٌ لا يجوز؛ لأن نفقة البيت واجبةٌ على الزوج لا عليها.
قال ابن عثيمين -رحمه الله-: «إذا كانت الزوجةُ تدْرُس، وقد شرط على الزوج تمكينها من تدريسها؛ فإنه لا حقَّ له فيما تأخذه من راتبٍ، لا نصف ولا أكثر ولا أقل، الراتب لها ما دام قد شرط عليه عند العقد أنه لا يمنعها من التدريس فرضي بذلك، فليس له الحقُّ أن يمنعها من التدريس، وليس له الحق أن يأخذَ من مكافأتها، أي من راتبها شيئًا، هو لها، أما إذا لم يشترط عليه أن يمكنها من التدريس، ثم لما تزوج قال لا تدرسي، فهنا لهما أن يصطلحا على ما يشاءان، يعني مثلًا له أن يقول: أمكنك من التدريس بشرط أن يكون لي شيءٌ من الراتب، على ما يتَّفِقان عليه، وأما إذا شرط عليه أن تدرس وقبل فليس له الحق أن يمنعها وليس له الحق أن يأخذ من راتبها شيئًا»([5]).
أَعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لـمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [يونس:54].
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكْرُ على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أنَّ لَا إله إلا اللهُ؛ تعظيمًا لشانِه، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الدَّاعِي إلى جنَّتِه ورضوانِه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانِه.
أمَّا بَعْدُ:
مَعْشَرَ الإِخْوةِ: لقدْ سمِعْنا وقرأنَا آهاتِ كثيرٍ من الزوجات بسبب استبداد أزواجهن، وظلمهن في أموالهن، وعدم النفقة عليهن بحجة أنهن يستلمن راتبًا أو مكافأةً، وهذا صحيح ولكن يبقى التوجيه للزوجاتِ بأن من أعظم البِرِّ والإحسان هو مساعدة الزوج على تكاليف الحياة، وشدةِ المعيشة، فما المانعُ أن تساهِم الزوجةُ من مالها بما يحتاجه زوجُها وأولادُها بما لا يضرها؟! بل إن اللهَ -جل وعلا- جعله: {هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4].
وقد روى الطبريُّ عن عبيدةَ قال، قال لي إبراهيم: أكلتَ من الهنيء المريء! قلت: ما ذاك؟ قال: امرأتُك أعطَتْك من صَداقِها. ورَوى عن إبراهيمَ قال: دخل رجلٌ على علقمةَ، وهو يأكل من طعامٍ بين يديه، من شيءٍ أعطته امرأتُه، فقال له علقمة: ادْنُ فكُلْ مِن الهنيء المريء!([6]).
روى البخاريُّ في صحيحه عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ بن مسعود قَالَتْ: كُنْتُ فِي المسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «تَصَدَّقْنَ، وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا، قَالَ فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللهِ سَلْ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلَالٌ، فَقُلْنَا: سَلْ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي؟ وَقُلْنَا: لَا تُخْبِرْ بِنَا، فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: «مَنْ هُمَا؟» قَالَ: زَيْنَبُ، قَالَ: «أَيُّ الزَّيَانِبِ؟» قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: «نَعَمْ، لَهَا أَجْرَانِ، أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ»([7]).
فاعلَمِي أنَّ ما تبذُلِينَه هو من أفضلِ الصدقات والبر، واللهُ لا يُضيِع أجْرَ مَن أحسنَ عمَلًا.
ثمَّ صلُّوا وسلِّمُوا على رسولِ الْهُدَى، وإمام الورى، فقد أمركم ربُّكم فقال -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبه أجمعين، وارْضَ اللهُمَّ عن الخلفاء الراشدين، وَالأئِمَّةِ المهْدِيِّين أَبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وعليٍّ، وعنِ الصَّحابةِ أجْمَعين، وعنَّا معهم بعفْوِك وكَرَمِك يا أكرمَ الأكْرَمِين...
([2]) أخرجه أحمد (5/72، رقم 20714) قال الهيثمي (3/266): رواه أحمد وأبو حرة الرقاشي وثقه أبو داود وضعفه ابن معين، وفيه على بن زيد وفيه كلام.
([3]) أخرجه مسلم (4/1997، رقم 2581).
([4]) أخرجه مسلم (4/1997، رقم 2582).