ماذا حدث في ليلة القدر ؟!!

د. محمد بن علي الرشيد
1438/09/19 - 2017/06/14 15:10PM
ماذا حدث في ليلة القدر؟؟

بسم الله الرحمن الرحيم


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن سار على نهجه وأهتدى بهداه، وأقتفى أثره إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد ..

أيها المؤمنون :فإن وصيتي لنفسي ولكم أن اتقوا الله ، فإن من اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﱠ} [سورة آل عمران:102].

أيها المؤمنون : يقول رب العزة والجلال بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
( ليلة القدر خير من ألف شهر )

ليلة بدء نزول هذا القرآن ، على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الحدث العظيم، الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته، وفي آثاره في حياة البشرية كلها، ما الذي حدث يا عباد الله؟.
ما لذي حدث في تلك الليلة؟، حين بدأ الوحي بمطلع سورة العلق ، حين كان رسول الله ‘ يتحنث في غار حراء في شهر رمضان، يقول رب العزة والجلال: { إنا أنزلناه في ليلة مباركة} [سورة الدخان:3].

إنه وربي حدثٌ جلل ، غير مجرى التاريخ، بل غير موازين القوى على الأرض ، نزل أوّل ما نزل على أمة غارقة في الجهل والظلم والطغيان ، وهي بين الأمم على جنبات الطريق، تأكل فتات موائد الأقوياء من الروم والفرس، بلا عقيدة ، بلا هدف، بلا فهم للحقائق المحيطة.

يتفاخرون في غير مفاخر..
وأدٌ للبنات، أكل للميتة، إسراف في شرب الخمور.
أريدك أخي وحبيبي المبارك: أن تتصور هذا المجتمع ، بكامل مكوناته وكأنك تنظر إلى القوم بأنديتهم حول الكعبة، فيخرج مثلاً رجلٌ من بين البيوتات يسير هوينا يستحي من القوم لكي لا يُرى ما الذي يحمله , والجميع ينظر إليه، يتجاوز النادي، والناديين والثلاثة، ليحفر حفرة، ويضع فيها فلذة الكبد ليس لها أي ذنب إلا أنها أنثى، بإقرار من الجميع وبلا نكير..!!
يشعر بالخزي والعار لأنها أنثى !!

يكظم مشاعر الغضب، والشعور بالخسارة {ظل وجهه مسودا وهو كظيم} [سورة النحل:59].

هذا أنموذج لهذا المجتمع الذي تنزلت فيه الآيات في ليلة القدر.

في أجواء هذه المهانة اليومية، والعبث الحياتي ، بدأ نزول القرآن في ليلة القدر، وفي وسط هذه الظلمات بدأ النداء القرآني يجاهد في الوصول للأسماع الثقيلة ، يطرقها بكل وسيلة، يصيح بهم استيقظوا ، انظروا ، تدبروا..
بنداءات متتابعة، يطرق أسماعهم مرة بعد مرة ، ومع الطرقات والصيحات يدٌ قوية تهز النائمين المخمورين هزاً عنيفا، وهم كأنما يفتحون أعينهم دون قلوبهم ثم يعودون لما كانوا فيه.

هذا حدث في أول نزول القرآن ، ومع هذا العناد والإصرار والإعراض إلا أن فئة باحثة عن الحقيقة طارت بهذا النور فرحا ، وذاقت حلاوته بعد أن عانت من الظلام وتجرعت مرارته، فاصطفاهم العزيز الوهاب ، وفتح لهم بالخير والعزة والتمكين ما لا يحصى من الأبواب ، وبقيت ليلة القدر شامخة ، معلنة أنه لا عزة لأهل الإسلام إلا بالنور الذي أنزل أول ما أنزل فيها ، فليست العزة يا عباد الله تكون بالترانيم والألحان تدوي في جنبات المسجد لا وربي، إن كانت بدون فهم وتدبر وعمل ، وليست العبرة بمكث في المسجد يطول أو يقصر دون عزيمة جازمة بقبول كل أمرٍ جاء من العظيم قبول محبة.

إن العزة والكرامة لم ولن تكون إلا حين يتمثل السائر إلى الله سبحانه وتعالى، قول ربه جل شأنه : {فلا وربك لا يؤمنون حتى يجكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } [سورة النساء:65].

ولسان الحال والمقال : ما دام هذا الأمر من الله سمعنا وأطعنا ،وبذلك تتحول العقائد إلى ممارسات عملية يومية في العبادة وفي الأخلاق والمعاملات .. فالعين لا تنظر إلا ما يرضي الله سبحانه وتعالى، والأذن لا تسمع إلا ما يقرب من الله ، والفكر يعمل في مرضاة الله ، القدم تتحرك فيما يقرب إلى الله ، هذا هو التحويل الحقيقي للعقائد إلى ممارسات عملية يومية.

أيها المؤمنون :بهذا الترابط الذهني والقلبي أريدك إن أردت أن تدخل معتكفك أن تدخل!، أو أردت أن تبدأ المشوار الجاد في البحث عن ليلة القدر، لتعلم أن القضية ليست قيام مع الإمام وينتهي الأمر بعد ساعة وساعة ونصف، ومقاطعك في جوالك لم تتغير ، وهمومك لم تتغير ، وقنواتك لم تتغير ، وعلاقاتك مع أرحامك لم تتغير ، إن ليلة القدر جاء فيها النور الذي غير أمة العرب ومن دخل معهم فيمن بعد , ليتحولوا بعد خمس وعشرين عاما إلى قادة للعالم ، ولما تخلينا عن هذا النور، كنا كما قال الناظم :

وَيُقْضى الأمْرُ حينَ تَغيبُ تَيْمٌ
وَلا يستشهدون وَهُمْ شُهُودُ

ومقومات التمكين قائمة والعزة مغروسة في هذا الدين وأسباب النصر متجددة, لكن حالنا مع ديننا اليوم كما قال الأول :
كالعيس في البيداء يقتله الضمأ ...والماء فوق ظهورها محمول .

أريدك حبيبي الغالي: أن تعيد النظر في قلبك وأنت تبحث عن ليلة القدر، وأنت تعزم أن تعتكف في مسجد من المساجد أن تعيد النظر في قلبك ، ماذا صنع الإسلام فيك ؟ ، هل تصوراتك صافية، أم مشوشة عن رحلتك في الحياة؟، هل أهدافك واضحة وأنت تسعى إليها أم هي غائبة ومغيبة؟، هل ما حملت في صحائفك في الماضي فيما سلف من عمرك يبيض وجهك؟ ، {يوم تبيض وجوه } [سورة آل عمران:106].

أخي وحبيبي الغالي: إذا تجردت من الهوى وعوائق النفوس ، وعقبات الشهوات، كنت قريباً بإذن ربي وربك من الفوز بتلك المبشرات العظيمات من إمام المرسلين وسيد المرسلين، وهو ما ستسمعه إن شاء الله في الخطبة الثانية ...
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله الجليل العظيم الكريم لي ولكم من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أخي المبارك: أسوق لك نصوصاً صحت عن المعصوم عليه الصلاة والسلام، عل قلباً أن يتحرك ، وفكراً أن يعيد النظر ، ونحن في آخر الأيام من هذا الشهر الكريم، فلم يبقَ إلا بعض العشر الأخيرة ، فياسعادة من فاز من فاز ويا خسارة من تخلف عن الركب.

فها هو أنس ¢ يقول: دخل رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر من حرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم خيرها إلا محروم )؛ صححه الألباني.

وكان بأبي وأمي عليه الصلاة والسلام ، كما تقول عائشة: ( إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر ).

واليوم أهلك مستيقظون لا يحتاجون إلى إيقاظ ، لكن حثهم ورغبهم ، وأعلمهم إنما هي أيام ، وسق لهم حديث أبي هريرة ¢ ، الذي يقول فيه رسول الله ‘ : (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه).

تقوم مع الإمام ساعة ونصف في أول الليل ، ومثلها آخر الليل فيغفر لك ما لطخ في السنين من سواد، أي فضل وأي نعمة وأي خير .
وقد أكد على هذا حبيبي وحبيبكم عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان .


وما أجمل تلك القلوب التي تتطلب المعالي ، فها هي عائشة رضي الله عنها ، وهي تثق أنها ستقوم في كل ليلة، فتسأل سؤالاً ، يا ليته يأتي في خاطري وخاطرك، تقول كما صح في ذلك الخبر: أرأيت إن وافقت ليلة القدر , ما أقول فيها ؟ قال : قولي : " اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ".

والنصوص في هذا يا عباد الله كثيرة، فمن أراد الاعتكاف فليدخل إلى المعتكف، ولا يخرج إلا حين يعلن عن العيد، هذا إن أراد الاعتكاف الكامل الموافق للسنة، وليتجنب الشواغل وليتفرغ لإصلاح القلب ، هذه المضغة، فإننا نسمع أحيانا عن عجب من المعتكفين، الذين يصطحبون هذه الهواتف النقالة ، ولا يتغير في حالهم إلا أنهم يوجدون فقط في هذه البقعة المباركة ، أما الاتصال فمستمر مع أهل الدنيا .

وهذا ليس من مقصود الاعتكاف، بل ليشتغل المعتكف لقراءة القرآن وبالذكر وبالصلاة وبالدعاء، ومن لم يستطع أن يعتكف العشر كلها ، فلا يحرم نفسه من ليلة أو ليلتين، ومن لم يستطع ليلة كاملة ، ليكن بعض ليلة، حتى إن بعض أهل العلم قالوا ولو ساعة، ولكن بنية تدخل لتخلوا بربك وتحاسب نفسك وتبث همومك إلى مولاك ، فأبشر فإنه العظيم الرحيم الكريم.


اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين ، اللهم أصلح فساد قلوبنا يا رب العالمين، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين يا رب العالمين ، اللهم اجلعنا ممن صام ويصوم رمضان إيمانا واحتسابا ، واجعلنا ممن قام ويقوم رمضان إيمانا واحتسابا ، واجعلنا ممن يوافق فيه ليلة القدر وتعطيه عليها أعظم الأجر ، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها ، وخير أيامنا يوم نلقاك يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، ونسألك اللهم رضاك والجنة ، ونعوذ بك من سخطك ومن النار يا عزيز يا غفار، إلهنا إن لنا إخواناً في غزة تسلط عليهم اليهود ، لم يرقبوا فيهم إلاً ولا ذمة ، لم يرحموا شيخاً كبيرا ، ولا طفلاً صغيرا ، ولا امرأة عفيفة شريفة، غرتهم قوتهم وأنت القوي العزيز، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم شتت شملهم وفرق جمعهم ، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم ، اللهم سلط عليهم ما نزل من السماء، وسلط عليهم ما خرج من الأرض، وسلط عليهم جنودك إنه لا يعلم جنودك إلا أنت ، اللهم اجعل ما جمعوا من عتاد تدميرا عليهم يا رب العالمين ، يا ذا الجلال والإكرام، يا من لا يهزم جنده، ولا يخلف وعده، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين، اللهم كن لأخواننا المستضعفين من أهل غزة ، اللهم كن لهم ناصراً ومؤيداً ومعينا ، اللهم أبدل بلاءهم عافية ، اللهم أبدل بلاءهم عافية ، اللهم أبدل بلاءهم عافية ، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما بهم من البلاء ، يا رب العالمين ، اللهم اجعل لهم من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، وأرزقهم من حيث لا يحتسبون يا رب العالمين يا حي يا قيوم ، اللهم آمنا في دورنا ، وأصلح أأمتنا وولاة أمورنا، وأرزقهم اللهم البطانة الصالحة الناصحة ، التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه ، وتجنبهم بطانة السوء يارب العالمين.

أيها المؤمنون: اعلموا أن الله قد أمركم بأمر بدأ به بنفسه ، فقال عز وجل : {ﱢ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } [سورة الأحزاب:56].

اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ؛ وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
المشاهدات 615 | التعليقات 0