ماذا بعد رمضان وهل استفدنا منه؟

محمد بن إبراهيم النعيم
1438/10/05 - 2017/06/29 04:34AM
أيها الأخوة في الله

لقد مرت علينا بالأمس أيام كرام، وانقضى سريعا عنا شهر الصيام، فبالأمس كنا نعيش في رمضان، أحد أركان الإسلام، ملئه الصالحون بالصيام والقرآن، والتراويح والقيام، والتفطير والإحسان، وها نحن قد ودعنا مدرسة الصيام، ودعنا مدرسة إيمانية ودورة روحانية جدول أعمالها عبادات متنوعة من صيام وتلاوة قرآن، ووتر وتهجد وطولِ قيام، وتفطيرِ صائمين وإحسان، وتصدق وحفظ لسان، وكظم غيظ ودعاء وغفران.
أتراه رحل عنا حامدا صنيعنا أم ذاما تقصيرنا؟
إنه رمضان: وما أدراكم ما رمضان، مفتاح باب الريان ورافع صاحبه إلى أعلى الجنان.
قال عنه –صلى الله عليه وسلم- (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب، منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان) رواه أحمد.

فهنيئا لمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا، وكف فيه سمعا ولسانا، وأنفق فيه مالا حلالا.

وفي الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم يقول المولى عز وجل: (يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

فالحمد لله الذي منَّ علينا بإكمال شهر الصيام وأعاننا فيه على الصيام والقيام ونسأله تعالى أن يعيده علينا أعواما عديدة وأزمنة مديدة ونحن نرفل بصحة في أبداننا، وأمنٍ في أوطاننا، وزيادة في إيماننا.
إن معظم المسلمين في شهر الصيام يجتهدون في عمل الخيرات والمسارعة إليها وترك المعاصي والمنكرات والابتعاد عنها لأن الشياطين ومردة الجن مسلسلة طوال الشهر الكريم، لكن السؤال الذي يطرح نفسه ما حالُنا بعد رمضان؟ وهل استفدنا من العبادات التي مارسناها طوال شهر رمضان؟ وهل سنستمر عليها يا ترى؟ فإن بعض الناس لا يعرفون نوافل الطاعات إلا في رمضان فإذا انتهى رمضان انتهى عندهم كل شيء، فلا يعرفون صيام نفل ولا سنن رواتب ولا قيام ليل ولا وتر ولا ختم قرآن.

فمن العبادات التي مارسناها في رمضان تلاوة القرآن وختمه عدة مرات، فهل بانتهاء رمضان نترك ختم القرآن؟
إن كثيرا من الناس لا يعرفون هذه الختمات إلا في رمضان، ولذلك ترى أكثرهم إذا دخل عليهم رمضان بدءوا القراءة من أول صفحة من القرآن، وإذا انتهى رمضان تقاعسوا عن ختمه، ولو حاول كل منا التبكير إلى المسجد بعد كل أذان لاستطاع أن يقرأ أربع صفحات عند كل صلاة أي عشرون صفحة كل يوم وذلك يعدل جزءا كاملا، وبذلك تستطيع ختم القرآن كل شهر دون تكلف، ومن فعل ذلك فلعله أن يكون من أصحاب القرآن الذين سيشفع لهم يوم القيامة.

ومن العبادات التي مارسناها في رمضان جماعيا صلاة التراويح وقيام الليل، ولقد حث المصطفى –صلى الله عليه وسلم- على هذه الصلاة في سائر العام قائلا "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم" رواه الترمذي والحاكم.

وإذا ثقل عليك قيام الليل فلا أقل من أن تصلي ركعتين قبل أن تنام تقرأ فيها عشر آيات على الأقل لكي لا تكتب عند الله من الغافلين حيث روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمئة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين" رواه أبو داود وأبو خزيمة.

ومن العبادات التي مارسناها جماعيا في رمضان صلاة الوتر، ولقد حث المصطفى –صلى الله عليه وسلم- على هذه الصلاة سائر العام قائلا (إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن) رواه أبو داود والترمذي، وروى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال : (إن الله زادكم صلاة، فحافظوا عليها، وهي الوتر) رواه الإمام أحمد.

وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- يوصي بعض أصحابه شخصيا بصلاة الوتر حيث روى أبو هريرة –رضي الله عنه- قال: أوصاني خليلي –صلى الله عليه وسلم- بثلاث لا أدعهن في سفر ولا حضر: ركعتي الضحى وصوم ثلاثة أيام وأن لا أنام إلا على وتر) رواه البخاري.

ولقد أكد النبي –صلى الله عليه وسلم- على عدم ترك هذه الصلاة قائلا (من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، كما قال –صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ) رواه أبو داود، ولذلك كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا نام عن وتره لأي ظرف كان يصليه في النهار شفعا، أي من كان معتادا أن يوتر بثلاث فنام عن وتره، فيسن أن يصليه أربع ركعات في النهار إذ لا وتران في ليلة.
وعندما سئل الإمام أحمد عن رجل يترك الوتر متعمدا قال: هذا رجل سوء.

فحري بنا أن لا ندع هذه الصلاة التي كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يحافظ عليها في السفر والحضر.

ومن العبادات التي مارسناها في رمضان حفظ اللسان وكظم الغيظ وتكرار قول: إني صائم عندما يخطأ علينا أحد، ولقد حث المصطفى –صلى الله عليه وسلم- على كظم الغيظ حيث روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (من كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة) رواه ابن أبي الدنيا، وروى معاذ بن أنس –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) رواه أصحاب السنن.
فمن أراد أن يعدد من الحور الحسان فعليه بكظم غيظه طوال العام. ‌

ومن العبادات التي مارسناها في رمضان الورع من كافة المفطرات الحسية لكي لا نخرم صيامنا، حتى بالغَ بعض الناسِ فكان يسأل العلماء: هل تكرار بلع الريق يجرح الصيام؟ وآخر سأل قائلا: شممت طيبا فهل جرح صيامي؟ وثالث قال: أحسست بالغبار أو رائحة العطر في حلقي فهل يبطل صيامي؟
فمن وصل إلى هذه الدرجة من التقى والورع المرهف هل يُعقل بعد رمضان أن يقع في الموبقات ويأكل الحرام ويعود إلى ماضيه المليء باللهو والمعاصي والنظر إلى النساء في وسائل الإعلام؟

إن بعض الناس لديه خلل في تصوراته وعدم توازن في سلوكياته، فتراه يسأل عن أدق الأشياء تورعا منها، بينما يقع في كبائر الذنوب ولا يبالي، كحال الخوارج الذين قال عنهم ابن عباس رضي الله عنهما: عجبت لكم يا أهل العراق تقتلون ابن بنت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وتسألون عن دم البعوض هل يجوز للمحرم أن يقتل البعوض؟ نعم، إنك ترى أحدهم يسأل أحسست بطعم السواك في حلقي وأنا صائم، والبعض الآخر يقول شربت ماءً والمؤذن قد شرع في أول تكبيرة للفجر، وتراه في المقابل يؤخر الصلاة عن وقتها، ولا يتحرج عن الوقوع في الغيبة والنميمة وقبول الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل وعقوق الوالدين وغيرها من ذنوب قد يكون بعضها من الكبائر.

فينبغي للمسلم الذي تخرج من مدرسة الصيام أن يتقي الذنوب عموما وأن يخاف من كبائر الذنوب خصوصا قبل صغائرها، ولا يضخم جانب ويهمل آخر أو يشدد في مهم ويهمل الأهم.

ومن العبادات التي مارسناها في رمضان كثرة الإنفاق والجود والإحسان وهذا أمر مهم ينبغي الاعتناء به سائر العام لأن من أكثر الأسباب التي تطفئ غضب الرب عز وجل عن العبد صدقة السر حيث روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (عليكم باصطناع المعروف فإنه يمنع مصارع السوء، وعليكم بصدقة السر فإنها تطفئ غضب الرب عز وجل) رواه ابن أبي الدنيا وصححه الألباني.

فحبذا أن يكون لك استقطاع شهري من مرتبك إلى أحد الجمعيات الخيرية ولو كان مبلغا قليلا كخمسين ريالا، فأحب العمل إلى الله عز وجل أدومه وإن قل. ‌

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من البيان والحكمة ورزقنا الاستقامة على دينه في رمضان وفي غير رمضان أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله الرحيم الرحمان، المعبود بحق في كل زمان، المعروف بالمن والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكريم المنان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الإنس والجان صلى الله عليه وعلى آل بيته الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنه مر علينا موسم من أعظم مواسم الخيرات ومضاعفة الحسنات، ذلك هو شهر التقوى، الذي يزكي النفوس ويقوم السلوك.

ومن العبادات التي مارسناها في رمضان وكانت جوهر الأعمال: هي عبادة الصيام وقد حثنا المصطفى –صلى الله عليه وسلم- على الإكثار من الصيام في سائر العام خصوصا يومي الاثنين والخميس حيث تعرض الأعمال فيهما على الله عز وجل، وأيام البيض من كل شهر عربي وعاشوراء ويوم عرفة وعشر ذي الحجة، وصيام ست من شوال، حيث أخرج مسلم في صحيحه عن أبي أيوب الأنصاري –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر).

فحري بنا أن لا نتقاعس عن صيام هذه الأيام الستة لا سيما أننا لا نزال قريبي عهد بالصيام.

واعلم أنك إذا صمت إضافة إلى ست من شوال؛ أيام البيض من كل شهر عربي، يكتب الله لك ثواب صيام دهر آخر، فكأنك صمت دهرين خلال سنة واحدة، حيث روى جرير بن عبد الله –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر) رواه النسائي.

ومن العبادات التي مارسناها في مدرسة الصوم: الإقلال من الكلام الفارغ معوضين عن ذلك بكثرة الذكر وتلاوة القرآن والتخلص من خلطة السوء ومشاهدة مسلسلات السوء التي لا يسلم الصوم معها من اللغو والرفث والفسوق العصيان.

فهذه بعض العبادات الجليلة التي مارسناها في رمضان، فحري بنا أن نستمر عليها ونعمل بها سائر العام لأنها لا تخص رمضان.
لقد مضى رمضان وتجلى للعيان من استفاد منه ومن رجع بالخسران.
أما من صامه إيمانا واحتسابا فهؤلاء نبتت شجرة التقوى في قلوبهم وترعرعت؛ فحصدوا استقامة وعزيمة على الاستمرار على طاعة الله وعدم تفويت سنة أو فضيلة من الفضائل التي تربوا عليها طوال الشهر، وفريق آخر امتنعوا عن الطعام والشراب فحسب، فلم تنبت شجرة التقوى في قلوبهم ولذلك انتكس أكثرهم بعد رمضان، وعادوا إلى حالتهم الأولى.

اللهم أعنا إذا استقمنا وقومنا إذا اعوججنا وكن لنا ولا تكن علينا.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها الا أنت. اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم إنا نسألك الجنة ما قرب إليها من قول أو عمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح أحوال المسلمين، وأرخص أسعارهم، وآمنهم في أوطانهم، واقض ديونهم، وعاف مرضاهم، وثبتهم على ملة رسولك r، وانصرهم على عدوك وعدوهم، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولأرحامنا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين, ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على نبيا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المشاهدات 829 | التعليقات 0