ماذا بعد رمضان؟ "أوَّلُ جمعةٍ بعدَ رمضان"2 / 10

عبدالمحسن بن محمد العامر
1442/09/29 - 2021/05/11 22:15PM

الحمدُ للهِ الذي امتنَّ على عبادِه بالأعمالِ الصالحةِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، أعظمُ من تعبّدت له القلوبُ السائحةُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسولُه، جاءَ بالشريعةِ الوضحةِ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحابته وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ القيامةِ الفاضحةِ.. أما بعد

فيا عبادَ الله: اتقوا الله وعظِّموه، واجعلوا من التقوى شعاراً تتقلدونه، ووساماً تَشْرُفُونَ به، ودثاراً تَسْتَتَرِونَ به (ولباسُ التقوى ذلك خيرٌ ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون)

معاشر المؤمنين: سبحانَ ذي الملكوتِ والجبروتِ؛ ما أعجلَ الأيامَ! وما أسرعَ الزمانَ! تصرَّمت أيامُ وليالي رمضانَ وكأنها لحظاتٌ عابرة، فيَالَها من أيامٍ ما ألذها، ويَالَها من ليالٍ ما أطيبَها، رقّتْ فيها القلوبُ، وسُكِبَتْ فيها الدموعُ، وَخَشَعَتْ فيها الجلودُ، وذلّتْ فيها النفوسُ لِبارئها الحقِّ جلّ جلالُه.

إنّ شهرَ رمضانَ ذو أثارٍ وثمارٍ، وذو نتائجَ ومكتسباتٍ، وله فوائدُ وعوائدُ، فصيامُ النهارِ، وقيامُ الليلِ، وبذلُ الصدقاتِ، والعطفُ على المساكين، والرحمةُ بالضعفاءِ والمنكسرين، وروحانيّةُ القلوبِ والنفوسِ، وغيرُ ذلكَ كثيرٌ وكثيٌر؛ ينبغي أنْ يكونَ له وَاقِعُهُ الملموسُ، وشَاهِدُه الحيُّ، وأثرُه الحقيقيُّ بعْدَ رمضانَ، فلا أبْأسَ ولا أتْعسَ من عبدٍ تَمُرُّ عليه مواسمُ التربيةِ والإعدادِ، وصَقْلِ القلوبِ، ورياضةِ الأبدانِ؛ ثمَّ يَتَنَكّرُ لها بعدَ انقضائها، إنَّ ثمارَ وآثارَ رمضانَ؛ يجبُ أنْ تدومَ طيلةَ أيامِ العامِ؛ فلا تَكاسُلَ، عن الصلاةِ، ولا تضييعَ لها، ولا تخلّفَ عن الجماعةِ في المساجدِ، ولا نومَ عن صلاةِ الفجرِ، ولا هُجرانَ لتلاوةِ القرآن وقيامِ الليلِ، ولا قطعَ للصدقةِ، ولا نسيانَ للرحمةِ والعطفِ.

وينبغي أنْ نجعلَ تهذيبَ الصيامِ لنفوسِنا فُرْصَة لِسَلِّ سَخائمِ قلوبِنَا، ونزْعِ البغْضَاءِ والعداواتِ والغلِّ منها، وأنْ نبدأ صفحةً جديدةً مع كلِّ إخواننا المسلمين؛ مِلْؤها الأخوةُ والأُلفَةُ، والصفاءُ، والوفاءُ، والطهارةُ، والنقاءُ.

معاشر المؤمنين: حالُ الاستمرارِ على الطاعةِ والعبادة؛ حالُ نبينا صلواتُ ربي وسلامُه عليه، وهو سلوكُ العابدين، وديدنُ الصالحين، وسبيلُ المؤمنين المُتَّبِعينَ لسنَّتِه عليه الصلاةُ والسلامُ، فَعَنْ أمِّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: (كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا عَمِلَ عَمَلاً أثبتَه، وكانَ إذا نامَ من الليلِ أو مرضَ؛ صلّى من النهارِ ثنتي عشرةَ ركعةً) رواه مسلم، وعنها رضي الله عنها قالت: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم)سدِّدوا، وقارِبوا، وأبشروا، فإنَّه لن يُدْخِلَ الجنَّةَ أحداً عمَلُه) قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: (ولا أنا؛ إلا أنْ يَتَغَمَّدني اللهُ مِنْهُ برحمةٍ، واعلموا أنَّ أحبَّ العملِ إلى اللهِ أدوَمُه وإنْ قلَّ) رواه مسلم

نعم ــ عبادَ اللهِ ــ فضائلُ الاستمرارِ على العملِ الصالحِ جليلةٌ، وثِمَارُهُ جزيلةٌ، ويكفي في ذلك؛ مَحَبَّةُ اللهِ لذلك وإنْ كانَ العملُ قليلاً يسيراً.

ومن فضائلِ الاستمرارِ على العملِ الصالحِ؛ أنَّ من عُرِفَ بعملٍ صالحٍ؛ امتازَ به، وصارَ عنواناً يختصُّ به يومَ القيامةِ، فعن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ يقولُ: (مَنْ أنفقَ زوجينِ في سبيلِ اللهِ دُعيَ مِنْ أبوابِ الجنَّة: يا عبدَ الله هذا خيرٌ، فمَنْ كان مِنْ أهلِ الصلاةِ؛ دُعيَ مِنْ بابِ الصلاةِ، ومَنْ كان مِنْ أهلِ الجهادِ دُعيَ مِنْ بابِ الجهادِ، ومَنْ كان مِنْ أهلِ الصدقةِ؛ دُعيَ مِنْ بابِ الصدقةِ، ومَنْ كان مِنْ أهلِ الصيامِ دُعيَ مِنْ بابِ الريانِ) رواه البخاريُّ ومسلمٌ. قالَ أهلُ العلمِ: إنَّ المرءَ لا يكونُ مِنْ أهلِ الشيءِ؛ إلا إذا أكثرَ منه وعُرِفَ به، وهذا في العباداتِ لا يتحققُ إلا فيمن يُكثِرُ نوافلَها وسنَنَها وتطوعَها.

بارك الله لي ولكم بالكتاب والسنةِ، ونفعنا بما صرف فيهما من الآيات والحكمة.

أقولُ قولي وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ على مَا شَرَعَ ويَسَّرَ، والشُّكرُ لَهُ على ما قَضَى وقَدَّرَ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لهُ المعبودُ بالمظهرِ والمخبرِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولهُ؛ صاحبُ الجبينِ الأَزهَرِ، والقلبِ الأَطهرِ، صلى اللهُ وسلَّمَ عليهِ كُلَّما نشأَ سحابٌ وأمطرَ، وعلى آلهِ وصحابتهِ خيرِ القرونِ وأشهَرَ، وعلى التَّابِعين ومَنْ تبِعَهُم إلى يومِ البعثِ والمحشرِ.

أما بعد: فيا عبادَ الله: اتقوا اللهَ حقَّ التقوى وكونوا من أهلِ الطاعاتِ المتواصلةِ، والقُرُبَاتِ المتعاقبةِ، عسى ربُّكُم أنْ يرحَمَكُم ويغفرَ لكم.

عبادَ الله: لقد انقضى موسمُ الصيامِ المَفروضِ والركنِ المطلوب؛ إلا أنَّ الصيامَ المَسنُونَ له مواسمُ مُتعددةٌ مستمرةٌ طيلةَ العام، يجدُ الأولياءُ الصالحون بها بُغيَتَهُمْ؛ فيتقرَّبُونَ إلى ربِّهم، فهناكَ صيامُ ثلاثةِ أيامٍ مِنْ كلِّ شهرٍ، وصيامُ الأيامِ البيضِ، وصيامُ يومِ عرفةَ، ويومِ عاشوراء، ويومٍ قَبْلَه أو بعده، وصيامُ عشرِ ذي الحجةِ، وصومِ الإثنينِ والخميسِ، وصيامُ شهرِ اللهِ المحرَّمِ، أو صيامُ داوودَ عليهِ السلام يصومُ يومًا ويفطرُ يومًا.

ومِنْ الصيامِ المسنونِ صيامُ السِّتِ من شوَّال بعدَ صيامِ رمضان؛ فعن أبي أيوبَ الأنصاريِّ ــ رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: (من صامَ رمضانَ ثُمَّ أتبَعَهُ ستًّا مِنْ شوَّالٍ؛ كانَ كصيامِ الدهر) رواه مسلمٌ.

وعن ثوبانَ -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلمَ قالَ: (صيامُ رمضانَ بعشرةِ أشهرٍ وصيامُ الستّةِ أيامٍ بشهرين؛ فذلك صيامُ السَّنةِ) وفي روايةٍ: (مَنْ صامَ ستةَ أيامٍ بعدَ الفطرِ كانَ تمامُ السَّنة) (من جاءَ بالحسنةِ فَلَهُ عشرُ أمثالِها) رواه أحمد وبن ماجة.

هذهِ الأحاديثُ تدلُّ على فضيلةِ صيامِ الستِّ من شوَّالٍ وأنَّ مَنْ واظبَ على صيامِها مع رمضان فكأنَّهُ صامَ عُمُرَهَ كلَّه، وهذا فضلٌ عظيمٌ وعملٌ كبيرٌ، فما أعظمَها مِنْ رحمةٍ إلهيةٍ ويا لَهُ مِنْ كرمٍ ربانيٍّ جزيلٍ إذْ يُجازي على الأعمالِ القليلةِ كثيراً مِنْ الثوابِ والأجور.

ويُستحبُ للمسلمِ المُبادَرَةُ بصيامِ السِّتِّ للأمرِ بالمسابقةِ في الخيرات، ولِئلَّا يَفُوتَ عليهِ صيامُها، أو يَشغَلَهُ عنها شَاغِلٌ، ويجوزُ للمسلمِ أن يصومَها في أوَّلِ الشهْرِ، أو وَسْطِهِ، أو آخره؛ متتابِعَةً أو متفرقةً؛ فكلُّ ذلك مشروعٌ، ويَستَحِقُّ الأجرَ المُرَتَّبَ عليها إن قَبِلَ اللهُ منه، ومَنْ كانَ عليهِ قضاءٌ من رمضانَ قدَّمَ القضاءَ على السِّتِّ ثم صامَها بعدَ ذلِك لظاهرِ الحديث؛ فإنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ قالَ: "مَنْ صامَ رمضان" يعني كاملًا ومن بَقِيَ عليهِ أيَّامٌ من رمضان فلا يَصدُقُ عليه أنَّهُ صامَ رمضانَ حتى يقضيَ تلكَ الأيامِ التي عليه منه، ولأنَّ إبراءَ الذِّمَّةِ مِن الواجبِ أولى مِنْ فعلِ المندوبِ.

وهذهِ النَّوافلُ تُكمِّلُ النَّقصَ الحاصلَ في الفرائضِ، ولا يخلو المكلَّفُ مِن ارتكابِ ما يُنقِصُ أجرَ صيامِهِ ويُخَرِّقُهُ مِنْ فضولِ كلامٍ ونظرٍ وطعامٍ وغيرِ ذلك.

ألا ما أجملَ الطاعةَ بعدَ الطاعة، وما أعظمَ أجرَ الحسنةِ بعدَ الحسنة، وما أصدقَ إيمانَ من تقرَّبَ إلى اللهِ بالعبادةِ، وما أحظَّ من طَلَبَ القُربَ مِن اللهِ بالعَمَلِ الصالح.

 هذا وصلوا وسلموا على رسول الله حيث أمركم بذلك الله إذْ يقول: (إنَّ الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)

المشاهدات 1638 | التعليقات 0