ماذا بعد المطر

فهد السعيد
1447/06/29 - 2025/12/20 02:18AM

ماذا بعد المطر! 
 
الحمد لله الرحيم الرحمن، الكريم المنان، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار التائبين، ونسأله من فضله العظيم، فهو الجواد الكريم البر الرحيم، وَصَلَ بِرُّه لعباده بلا سؤالٍ منهم فكيف لو سألوه! وكَفَلَ أرْزَاقهم ومعايشهم وهم يَعْصونه، فكيف لو أطاعوه! فسبحانه من إلهٍ عظيمٍ الشأن قوي السلطان. 
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، دائمَ الصِّلةِ بِربه، مُلِّحَاً عليه بِقُربه، أَجْدَبَتِ الأرضُ وأمْسَكتِ السماء فَفَزِعَ إليه، فأنزلَ الغيثَ المبارك سَحَّاً غَدَقاً، مُجَلِّلاً نافعاً لأمته، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وصحبه. 
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، أطيعوا ربكم، واستعينوا به على نوائب دَهْركم، وتعرفوا إليه في رخائكم يعرفكم في شدتكم (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا). 
عباد الله من أجل العبادات وأعظم القربات: الشكرُ لِله في كل حَالٍ وعلى أي حال  
 الحمد لله كم بالفضلِ أكرمنا      وفوق كُلّ الذي نرجوه أعطانا 
ولنتأمل في أنفسنا وفيما حولنا من الخيرات والبركات، والعطايا والهبات، فهل نستطيع حصرها وعدها! 
ولو عَدَدْنَاها فهل نستطيع القيامَ بشكرها والثناءِ على الله بها 
أَجواءٌ عليلةٌ، وبلادٌ آمنةٌ، وعِيشةٌ رَغِيدةٌ، وشَمْلٌ مُجتمعٌ، وصلواتٌ تٌقام، وآذانٌ يَصْدَح، ودِينٌ قائم، ودُنيا طيبة، فلله الحمدُ وله الشكر وله الثناء الحسن، له الشكر ذِكراً وله الشكر شَفعاً وَوِتْراً، وله الشكر صُبْحاً وعَصْراً وليلاً وفجراً، وله الشكرُ عند المنام وله الشكرُ عند القيام. 
كَمْ نِعمةٍ أنعم بها علينا قَلَّ له عندها شكرنُا فلم يحرمنا، وكم بليةٍ ابتلانا بها قلَّ له عندها صبرها فلم يخذلنا. 
أيها المسلمون: تتابعت أفضالُ الله علينا، فأغاث أرضنا وأَرْوَى سَهْلَها وشِعابها، فأخرجتِ الأرض خيراتِها، وبَدَتْ خُضْرتُها، ورَاقَ رَحيقُها واشْتَعَلَتْ خُضْرتُها، فاجْتَمَعَت بركةُ السماء مع بركة الأرض. 
عباد الله: ونحن نعيش هذه الأيامَ الجميلةَ والأجواءَ العليلة، والسماءَ الصافية، والأرضَ المبتلةَ المُلَبدةَ، والناس فرحين مستبشرين وبفضل الله مؤملين، فجميل أنْ نَقْرِن ذلك بالحمد لربنا والشكر لخالقنا المنعمِ علينا، فعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِد رضي الله عنه  قَالَ: صلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَةِ في إِثْرِ سَمَاءٍ كَانتْ مِنَ اللَّيْل، فَلَمَّا انْصرَفَ أَقْبَلَ عَلى النَّاسِ فَقَال: هَلْ تَدْرُون مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ، قَالَ: قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فأَمَّا مَنْ قالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمتِهِ، فَذلِكَ مُؤمِنٌ بي، كَافِرٌ بالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قالَ: مُطِرْنا بِنَوْءِ كَذا وَكذا، فَذلكَ كَافِرٌ بِي، مُؤمِنٌ بالْكَوْكَبِ. متفقٌ عليه.  
وفي هذه الأيام تهفوا القلوب وتتشوق النفوس إلى التنزه في البراري وحولَ الأوديةِ، والتقلبِ بين السهول والأراضي المُعشبة. 
ولقد مَنَّ الله علينا في هذه البلاد وفي غيرها من بلاد المسلمين بأمطارٍ وخيرات تَدَفَّقت منها الأوديةُ وسالت شعابٌ كانت يابسةً منذ سنوات، واسْتبشرَ الناسُ بفضل الله، وأَنْبَتَت الأرضُ بعد طُولِ انْحباسٍ حتى كادت النفوس تقنط، فما هو إلا أنْ انهمرت سَحائبُ الخيرات محملةً بالبركات. 
أيها المسلمون: ما أجمل أن نعلق رجاءنا بربنا، وقد رأينا وسمعنا في الأيام الماضية تناقضاً واختلافاً بين محللي الطقوس والمشتغلين بالأرصاد الجوية، مع واقع الحال، كما اختلفوا من قبلُ في مجيء البرد وشدته، وكلُّها تخمين وتوقعاتٌ، كعادتهم في كل عام، فتصدق توقعاتهم حينا وتخطيئ أحياناً كثيرة، ولا يزالون مختلفين، ويبقى العلم الحقيقي والخبر الصادق في طيات الغيب الذي لا يعلمه إلا الله (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث) 
وهذه التوقعات من الاجتهاد البشري الذي لا يُرد جملةً ولا يُقبلُ جُملةً، ويُؤخذ به في أَخذِ الحيطة والحذر، أما أنْ يُعتمد عليه، وتُنشرُ هذه التوقعات وكأنها واقعٌ لا محالة فهذا من الخَرْصِ والكذب على الله وادِّعاء الغيب الذي استأثر الله به. 
أيها المسلمون المتفائلون بفضل الله ورحمته: لا بأس بالاسترواح والنزهة في هذه الأماكن. 
فعن شُريحٍ الحارثي، قال: "قلت لعائشة رضي الله عنها: هل كان النبي يَبْدُو؟ قالت: نعم، كان يبدو إلى هذه التلاع". رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان. 
قال ابن رجب: "أما الخروج إلى البادية أحياناً للنزهة ونحوه في أوقات الربيع وما أشبهه، فقد ورد فيه رخصة". 
وقد جاء عن بعض أصحاب رسول الله، وعن سلفنا الصالحين الترغيبُ في الاستجمام. 
قال على رضي الله عنه: " أَجِمُّوا هذه القلوب، وابْتَغوا لها طرائفَ الحكمة، فإنها تَمَلُّ كما تَمَلُّ الأبدان". 
لا يُصلِح النفسَ إذا كانت مُدْبرةً           إلا التَنَقلَ من حالٍ إلى حال 
فالترويحُ عن النفس ودَفعُ الملل والسآمة، من أهم مقاصد الرحلات البرية، وهو مقصدٌ مباح في الجملة ما دام في حدود الآداب الشرعية، ومالم يَخْرج إلى ما حرم الله. 
أيها المسلمون: من أهم أهدافِ هذه الرحلات، وأكثرِها نَفعاً وأَعْظمها عند الله قَدْرَاً، وأكبرِها نَفعاً للقلب وتزكيةً له: التفكرُ في مَخلوقاتِ اللهِ العَجيبة، والوقوفِ على آياته في الكون، والقيامِ بعبادة التفكر التي تَتَجَلَّى في هذه الأماكن حيث الهدوءُ والانتقالُ عن صخب المُدن، واتساعُ الأفق (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) وقال تعالى: (إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) وقال ربنا داعيا عباده إلى التفكر الذي ينفع صاحبه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ ۖ أَفَلَا يُبْصِرُونَ) وقال: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ( 
وكتب عمرُ بن الخطاب إلى أمراءِ الأمصار: "مُرُوا الناسَ أَنْ يَخْرجوا إلى الصحاري أيامَ الربيعِ، فينظروا إلى آثارِ رَحمةِ اللهِ كيف يُحيي الأرضَ بعد موتها". 
 ففي البر الفسيح يُتاحُ للإنسان أنْ يَتأمل الكون الذي يتجلى فيه كمالُ قُدرةِ اللهِ وعظمته، وإتقانُ صُنْعه وبديعُ خَلقه، فيزدادَ المؤمنُ إيماناً. 
ففي مَنظرِ التلال الرملية آية، وفي الجبال الصخرية آية أخرى، وفي نزول المطر آية، وفي أثرِ المطر عبرة وآية، وفي غروب الشمس آية، وفي نهاية النهار ودخول الليل آية (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون*والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم *) إلى أن قال: (لا الشمسُ ينبغي لها أنْ تُدرك القمرَ ولا الليلُ سابقُ النهار وكلٌّ في فَلَكٍ يسبحون)  
 
 
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة 
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم. 
 
الحمد لله مُتمُّ نورِه، قَضى بأمرِه، وعَمَّ بخيرِه 
والصلاةُ والسلامُ على نبينا محمدٍ خَيرِ خَلْقه، وعلى آله وأصحابه الطاهرين خيرِ مَنْ مَشَى على أثَرِه. 
أيها المسلمون: ومن الآداب، بل من الواجبات لمُرتادي البراريِ وغيرها: المحافظةُ على المفروضات بأوقاتها، وعدم التساهل فيها، ومُراعاةُ شُروطها وواجباتها من الطهارة والاستعداد لها باللباس النظيف، وتَحري القبلة، وعدمِ تأخير الصلاة إلا لمن يُشرع لهم الجمعُ وهم المسافرون، خاصة صلاة الجمعة؛ فإنها واجبة ما داموا غير مسافرين، أو كانوا مسافرين ولكنهم يسمعون النداء لها، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ) 
ومن فوائد هذه الرحلات إذا اسْتُغِلت الاستغلالَ الأمثلَ تَوثيقُ روابط المحبة والأُلفة بين أفراد الأسرة حين يتنزهون سوياً، فيشيعُ جَوٌّ من التآلف وبناءِ المهارات وتوزيع المهام بين البنين والبنات، وفي الحديث: (خيرُكم خيرُكم لأهله) فاجْعلوا لأهلكم من وقتكم ومُتعتكم نصيباً. 
أيها المسلمون: لِنَتَنَزَّه باعتدال ولنَفْرَح بتوسط، فما أحَلَّ اللهُ لنا أكثرُ مما حَرَّمَ علينا، فالأغاني التي تَصْدح ليس من شكر النعمة بل هي من عمل البطرين الأشرين الذين بدلوا نعمة الله كفراً، والالتزامُ بالسِتر والصيانة والحشمة عند الأُسر مطلب شرعي، وعلامة على حسن التربية. 
ومما يعكر صفو هذه الرحلات ما نشاهده من اختلاط مشين وتلاصق بين المركبات بين الرجال والنساء في منظر محزن ومخيف. 
وأشد منه ما ابْتُلي به بعض الآباء من مَوت الغيرةِ وضعف الديانة، وذلك بغِشْيان تجمعاتِ الشباب والمستهترين بأرواحهم في الكثبان الرملية، فاتقوا الله معاشر الآباء فإنكم مؤتمنون على بناتكم وأزواجكم. 
ومن جميل الوصايا ومما يدل على الرُّقي والتحضر: إعطاءُ تلك الأماكنِ حَقَّها، بالمحافظة على نظافتها وجَمَالها ورَوْنقها، وأن تظل جميلة نظيفة. 
وفي الحديث: "إِيَّاكُم وَالْجُلُوسَ في الطُّرُقاتِ، فقَالُوا: يَا رسَولَ اللَّه، مَا لَنَا مِنْ مَجالِسنَا بُدٌّ، نَتحدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِس فَأَعْطُوا الطَّريقَ حَقَّهُ، قالوا: ومَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رسولَ اللَّه؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَر، وكَفُّ الأَذَى، ورَدُّ السَّلامِ، وَالأَمْرُ بالْمَعْروفِ، والنَّهْيُ عنِ الْمُنْكَرِ) متفقٌ عَلَيهِ. 
 
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين 
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الرضى والغضب، ونسألك حبك وحب العمل الصالح الذي يقربنا إلى حبك 
اللهم وفقنا لتقواك واجعلنا نخشاك كأنا نراك 
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين 
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين 
اللهم الطف بالمسلمين، ارحم ضعيفهم، وأطعم جائعهم. 

المشاهدات 87 | التعليقات 0