ماذا بعد الخطأ؟
هلال الهاجري
الحَمدُ للهِ (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه القَائلُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ)، اللهمَّ صَلِ وَسَلَم وبَاركَ عَليهِ وعَلى آلِه وصَحبِه أَجمعينَ، أما بعد:
يا أهلَ الإيمانِ .. استجيبوا لنداءِ الرَّحمانِ حِينَ قَالَ لكم: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
كُلُّنا سَمِعنَا حَديثَ: (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ) أَيْ: كَثيرُ الخَطأ، ولَكِنْ السُّؤالُ المُهمُ: مَاذا بَعدَ الخَطَأ؟.
مِنَ النَّاسِ: مَنْ يَشعرُ بالفَرحِ بالمعصيةِ، والانتصارِ بتَحصيلِها، والنَّشوةِ بتَذَكُّرِها، وتَمني تِكرَارِها مرةً بعد مرةٍ، وهو مع ذلك يَتقلبُ في نِعَمِ اللهِ تَعالى، لا تَنفعُهُ مَوعظةُ النَّاصحينَ، ولا يَردَعُهُ هَلاكُ العَاصينَ، فَذَلِكَ يُذكرُّك بقولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لَهُ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ)، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ: ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلى الذُّنُوبِ وتَرتَجي ... فَوْزَ الجِنَانِ ونَيْلَ أَجْرِ العَابِدِ
ونَسِـيتَ أنَّ اللهَ أَخْـرجَ آدَمًا ... مِنْهَا إِلىَ الدُنْيَا بِذَنْبٍ واحِـدِ
ومِنَ الناسِ: مَنْ يَقعُ في المعصيةِ، ثم يَعقبُها نَدمٌ يُقطِّعُ القُلوبَ، ودُموعٌ تَحرقُ الجُفونَ، هَمٌ وقَلقٌ، سَهرٌ وأَرقٌ، يَذكرونَ نِعَمَ اللهِ عَليهم التي لا تُحصى، ويَذكرونَ مَقامَهم بَينِ يَدِّي خَالقِهم يَومَ القِيامَةِ لَو مَاتوا عَلى تِلكَ المَعاصي، فَيتُوبونَ ويَستَغفرونَ، وعَنْ جَميعِ الذُّنوبِ يُقلِعونَ، كَمَا وَصَفَهم تَعَالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
مِنهم عِبادُ الرَّحمانِ، الذينَ ليسَ للشَّيطانِ عَليهم سُلطانٌ، إنما هِيَ وَسوسةٌ بالمَعصيةِ وتَزيينٌ لها، شَبهَهَا اللهُ تَعَالى بالمَسِّ الذي لا تَمكينَ مَعَهُ، وبالطَّائفِ الذي لا حُلولَ له، وإنما هِيَ خَواطرُ ونَزغَاتٌ سِرعانَ مَا تَزولُ، عِندَمَا يَذكُرونَ رَبَّهم جَلَّ جَلالُه، فإذا بأبصَارِهم تَعودُ إليهم ليَعرِفوا حَقيقةَ البَاطلِ، وعَداوةَ الشَّيطانِ، فَيَمنعُهم مَا عِندَهم من التَّقوى عَن مَعصيةِ عَالمِ الجَهرِ ومَا يَخفَى، (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ).
ومِنَ النَّاسِ: مَن قَد أَسرَهُ الشَّيطانُ، وَزَيَّنَ لَهُ العِصيانَ، فَتارةً يُقَنِّطُهُ مِن مَغفرةِ الرَّحمانِ، وتَارةً يُذكِّرُهُ بِطُولِ الزَّمانِ، ومَعَ ذَلكَ فإنَّ لَهُ نَفسٌ لَوَّامةٌ، تُعاتِبُه كَثيراً، ووَاعظُ اللهِ في قَلبِهِ يُنَاديه: يَا عبدَ اللهِ إلى أينَ تَذهبُ؟، ومِمَنْ تَفِرُ؟، أَتَعصي الذي سَوَّاكَ وخَلَقَكَ؟، أَلا تَستَحي ممن يَرى مَكانَكَ ويَسمعُ كَلامَكَ؟، أَلا تَسمَعُ أَرقَ دُعاءٍ، وأَجملَ نِداءٍ، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، فَهو في صِراعٌ نَفسيٌ، هَلْ يَختارُ مَا في الدُّنيا مِنْ لَذةِ الشَّهواتِ؟، أو يَختَارُ مَا أَعَدَّهُ اللهُ لمن أَطَاعَه من جَناتٍ؟، فتوبةُ هذا قريبةٌ، فَقَد تَكونُ كَلمةٌ أو آيةٌ أو مَوعظةٌ أو حَادثةٌ، يَفتَحُ اللهُ تَعالى بها أَقفالَ القُلوبِ، ويَنفضُ عَنها غُبارَ الذُّنوبِ، (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
كَانَ الفُضيلُ بنُ عِياضٍ يَقطَعُ الطَّريقَ، وكَانَ سَببُ تَوبتِهِ أَنَّهُ عَشِقَ جَاريةً، فَبينَمَا هو يَرتقي الجِدرانَ إليها، إذ سَمِعَ تَالياً يَتلو: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)، فَلمَّا سَمِعَها، قَالَ: بَلى يَا رَبِّ قَد آنَ، فَرجَعَ وقَد تَابَ ثُمَّ جَاورَ في المَسجدِ الحَرامِ بَقيةَ عُمُرِهِ.
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القُرآنِ العَظيمِ، أَقولُ قَولي هَذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم مِن كُلِّ ذَنبٍ فَاستغفروهُ إنَّهُ هُو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ الكَريمِ الوَهَّابِ، الغَفورِ التَّوَّابِ، أَجزلَ للطَّائعينَ الثَّوابَ، وَأَنذَرَ العَاصينَ العِقَابِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ له، وأَشهدُ أَنَّ نَبيَّنا مُحمَّدًا عَبدُه وَرَسولُه، صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِه وَصَحبِه خَيرَ آلٍ وأَكرمَ أَصحابٍ، أَمَّا بَعدُ:
يَا أَهلَ الإيمانِ .. مَاذا بَعدَ الخَطأ؟، يَقولُ تعالى: (مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا)، فَكَيفَ هُو شُعورُ مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللهَ تَعالى غَنيٌ عَن خَلقِهِ، لا تَضرُهُ مَعصيةُ العَاصينَ، ولا تَنفعُهُ طَاعةُ الطَّائعينَ، لَو أَنَّ أَولَ النَّاسِ وآخرَهُم، وإنسَهُم وجِنَّهُم، كَانوا عَلى أَتقى قَلبِ رَجلٍ مَا زَادَ ذَلكَ في مُلكِهِ شيئاً، ولو أَنَّ أَولَ النَّاسِ وآخرَهُم، وإنسَهُم وجِنَّهُم، كَانوا عَلى أَفجرِ قَلبِ رَجلٍ مَا نَقَصَ ذَلك مِن مُلكِهِ شَيئاً، فَالمعصيةُ لا تَضرُ إلا صَاحبَها، ومَعَ ذَلكَ فَإنَّهُ يَفرحُ بِتَوبةِ عَبدِهِ فَرَحَاً عَظيماً (إِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)، فَهَلْ رَأيتُم كَرَماً كَهَذا، وفَضلاً كَهَذا.
هَل تخيَّلتُم تِلكَ اليدَ المَبسوطةَ لَيلاً ونَهَاراً للتَّائبينَ؟، (إنَّ الله تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بالليلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها)، فمَنْ يمدُ يدَه معاهِداً للهِ تعالى بتوبةٍ صادقةٍ من قلبٍ نادمٍ.
هل تعلمونَ أن التائبَ لا يبدأُ حياتَه من جديدٍ؟، بل يبدأُ من حيثُ انتهى، فتلكَ الجبالُ السودُ من المعاصي يبدُلها اللهُ تعالى إلى جبالٍ بيضاءَ من الحسناتِ، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، فاغتنموا يا عبادَ اللهِ الأوقاتِ، وبدِّلوا سيائتِكم بحسناتٍ، وإياكُم وطولَ الأملِ، فإنكم لا تعلمونَ متى الأجلِ.
اللَّهُمَّ إِنِّنا ظَلمْنا أنفسَنا ظلْماً كَثِيراً، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوب إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لنا مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدَكَ، وَارْحَمْنا إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، اللهم صلِ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ.
المرفقات
1693382361_ماذا بعد الخطأ؟.docx
1693382465_ماذا بعد الخطأ؟.pdf