ماذا بعد الحج؟

عنان عنان
1435/12/20 - 2014/10/14 09:29AM
اما بعد: ما أسرعَ الايامَ والليالي وإنقضاءَ الساعاتِ والاعوام قبلَ أيامِ يسيرةٍ كنا نترقبُ قدومَ شهرِ ذي الحجةِ ينتظروه الحُجاج بفارغِ الصبرِ ليقضوا فريضةَ الحجِّ
ينتظره جميعُ المسلمين ليعمروه بطاعةِ اللهِ يترقبوا أفضلَ أيامِ الدنيا ينتظروا يومَ عرفةَ ينتظروا يومَ النحر ينتظروا العِتقَ مِنَ النارِ ينتظروا المغفرةَ مِنَ الاثام
فجاءت أيامُ الحجِّ فقضى الحجاجُ عبادةً مِنْ أعظمِ العباداتِ وقُربةً مِنْ أعظم القُرباتِ تجردوا للهِ مِنَ المخيطِ عند الميقاتِ وهلت دموعُ التوبةِ في صعيدِ عرفات
خجلاً مِنَ الهفواتِ والعثراتِ وضجت بالافتقارِ إلى اللهِ بكلِّ الاصواتِ وأزدلفتْ الارواحُ إلى مزدلفةَ بالمباتِ وزحفت الجموعُ إلى رمي الجمراتِ
والطوافُ بالكعبةِ المشرفةِ والسعيُ بينَ الصفا والمروةَ في رحلةٍ مِنْ أروع الرحلاتِ وسياحةٍ مِنْ أجملِ السياحاتِ فعادوا فرحين بما أتاهم اللهُ مِنْ فضلهِ
(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ) يونس: 58
فهنيئاً للحجاجِ بحجهم وهنيئاً للعباد بعبادتهم وإجتهادهم هنيئاً لهم قولُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فيما يَرويهِ عَنْ ربِّهِ
(إذا تقرب العبد إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة){صحيح البخاري}
هنيئاً لكم يا مَنْ نِلتتم الرحماتِ وارتدتم الارضَ الطيباتِ المباركاتِ

أيها المسلمون: لقد علمنا أن الحج من أفضل الأعمال فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) رواه البخاري ومسلم.

وفي الحديث الآخر عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله: نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: (لكن أفضل من الجهاد: حج مبرور). رواه البخاري ومسلم.

هنيئا لكم ايها الحجاج فلقد تساقطت ذنوبُكم كما تتساقط الورقةُ اليابسةُ مِنَ الشجرةِ اليابسةِ في يومٍ ريحٍ عاصفٍ
عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه). رواه البخاري ومسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). رواه البخاري ومسلم.

أيها الحاج: ينبغي عليك أن تشكرَ اللهَ تعالى على هذه النعمةِ العظيمةِ بعد أنْ منحكَ اللهُ إياها ووفقك لإداها
قال تعالى:{فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. البقرة:200
وقال تعالى:وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ

قال علي بن أبي طالب رضيَ الله عنه: إنَّ النعمةَ موصولةٌ بالشكرِ وإنَّ الشكرَ مُتعلقٌ بالمزيدِ وهما مقرونانِ بهما ولا ينقطعُ المزيدُ مِنَ اللهِ حتى ينقطعَ الشكرُ مِنَ العبدِ.

عَنْ مُعَاذٍ ، قَالَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِي يَوْمًا ، ثُمَّ قَالَ : " يَا مُعَاذُ ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ " ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ ، فَقَالَ : " أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ ، لا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ أَنْ تَقُولَ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ " رواه ابو داود

أيها الحاج: إياك والعجبَ في طاعتك فإنَّ العجب مِنَ المهلكاتِ التي تُهلكُ العبدَ في الدنيا والاخرة
قال صلى الله عليه وسلم: ثلاثةٌ مِنَ المهلكاتِ إعجابُ المرءِ بنفسهِ وشحٌ مطاعٌ وهوى مُتبعٌ. مسند البزار

أيها الحاج: كن حريصاً على الخوفِ مِنِ عدمِ قبول الطاعةِ فلقد كان الصحابةُ والسلف من أشدِّ الحرصِ والخوفِ مِنْ عدمٍ قَبولِ الطاعةِ
ولقد وصفهم الله تعالى بكتابه في قولهِ تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ( 57 ) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( 58 ) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ( 59 ) )

( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ( 60 ) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ( 61 ) )
قال الامامُ احمدَ عَنْ عائشةَ رضيَ الله عنها قالت: والذين يؤتون ما آتوْا وقلوبُهم وَجلةٌ هو الذي يسرقُ ويزني ويشربُ الخمرَ ويخافُ اللهَ عزَّ وجلَّ قال: لا يا بنتَ الصديقِ ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخافُ اللهَ عزَّ وجلَّ. تفسير ابن كثير

وعن علي رضيَ الله عنه قال: كونوا لِقبولِ العملِ اشدَّ إهتماماً منكم بالعمل الم تسمعوا قولَ الله عزَّ وجلَّ إنَّما يَتقبلُ اللهُ مِنَ المتقين. لطائف المعارف لابن رجب

ويقول علي رضيَ الله عنه: لو علمتُ أنَّ الله تعالى تقبلَ مني حسنةً واحدةً لتكئتُ عليها

فلا تغتر أيها الحاج بكثرةِ الطاعةِ فإنَّ اللهَ لا يَقبلُ إلّا ما كانَ خالصاً لِوجههِ الكريمِ

أيها الحاج: يا مَنْ أذرفتَ الدموعَ على عرفات يا من أنفقتَ مالَك ووقتَك للجنةِ طلباً للرحماتِ حافظ على حجك وعملك ولا تجعله يذهب سُدى فتهدمَ ما بنيتَ
حافظْ عليه بدوامِ الطاعةِ واجتنابِ معاصيه.

عباد الله: إنَّ الحجَّ الذي يقبله الله تعالى من العبدِ له علاماتٌ ومِنْ ذلك إنشراحُ الصدرِ وسرورٌ في القلبِ ونورٌ في الوجهِ وأنَّ صاحبَهُ مستمرٌ بالطاعةِ
واحبُّ الاعمالِ إلى اللهِ أدومُها وإن قل كما أخبر النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم بذلك.

ولقد نهانا الله تعالى عَنْ إنقطاعِ العملِ فقال: (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً) النحل92)
وهذا مثل لإمراة بمكةَ كانت تخيطُ الثوبَ حتى إذا قاربت الانتهاء فكت ذلك المخيط فذهب جهدها هباءً منثوراً، فكذلك الذي يحج ويتعب ويسافر ثم يعود إلى الذنوب فمثلُه كمثلِ المرأةِ في مكةَ ذهب جهدُها هباءً منثوراً.

وإن للمداومة آثاراً عظيمة من ذلك:
1. اتصال القلب بالله.
2. ترويض النفس على طاعة الله.
3. أنها سبب لمحبة الله وولايته. وفي البخاري: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها).
4. وكذلك من آثارها: النجاة من الشدائد، فقد روى أحمد من حديث ابن عباس قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).
والمداومة سبب لمحو الخطايا: ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة مرفوعاً: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم ثلاث مرات هل يبقى من درنه شيء؟) قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا).
ومن آثار المداومة حسن الخاتمة، قال –تعالى-: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة وفي الآخرة) إبراهيم27.

وهنا قد يسأل سائل ويقول: ما الأسباب التي تعين على المداومة والاستمرار في العمل؟
وأقول: الأسباب كثيرة من ذلك:
العزيمة الصادقة على طاعة الله، وكذلك القصد في العمل بمعنى التوسط، فلا إفراط ولا تفريط، وفي الحديث الذي في الصحيحين: (خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا)، وكذلك من الأسباب مجالسة أهل الخير والصلاح فإنهم ينبهون الغافل، ويذكرون الناسي، وفي الحديث الذي رواه أحمد: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل). ومن الأسباب العظيمة محاسبة النفس دائماً على التقصير في جنب الله، وقراءة سير السلف من الصحابة والتابعين في ذلك؛ فإن ذلك من أعظم الأسباب المعينة على طاعة الله -تعالى

اقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية:

عباد الله: إنَّ السعادةَ في الدارينِ الامتثالُ لإوامر اللهِ تعالى ورسولِهِ قال تعالى: ومن يطع اللهَ ورسولَه فقد فازَ فوزاً عظيماً
وإنَّ التعاسةَ والشقاءَ بمخالفةِ أوامرِ اللهِ تعالى ورسولِهِ قال تعالى: فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ أو يُصيبهم عذابٌ أليمٌ.

ما أجملَ أن يعودَ الحاجُ إلى أهلهِ ووطنهِ بالخُلقِ الاكملِ والعقلِ الارزنِ والوقارِ الارصنِ والشيمِ المرضيةِ والسجايا الكريمةِ فمن عاد بتلك الصفات فقد إستفاد مِنَ الحجِّ ودروسهِ وأسرارهِ
فالغايةُ مِنَ الحجِّ هيَ تقوى الله تعالى
وسُئلّ الحسنُ البصري ما الحجُّ المبرورُ؟ قال: أن ترجعَ زاهداً في الدنيا راغباً في الاخرةِ.

اخيراً أيها المسلمون لقد أنزلَ الله على نبيه صلى الله عليه وسلم سورةَ النصرِ في آخرِ حياتهِ وفيها الامرُ بالاستغفارِ
قال اهل العلم: يُشرعُ الاستغفارُ بعد نهايةِ كلِّ عملٍ لعلَّ الواحدَ منا يكونُ قصرَ في أدائهِ.

وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى أله وأصحابه وسلَّم."
المشاهدات 1520 | التعليقات 0