ليلةٌ أفضل من ثلاثين ألف ليلة
محمد بن عبدالله التميمي
الحَمْدُ لله، تَابَعَ عَلَى عِبَادِ مَوَاسِمَ الخَيْرِ ومُضَاعَفَةَ الأُجورِ، فاختصَّ رَمضانَ بأنْ فضَّلهُ على سَائِرِ الشُّهُور، كمَا اختصَّ آخرَه بأنَّ فيها ليلةُ القَدْرِ التي هي خيرٌ من أَلْفٍ من الشهور، وَوَفَّقَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِه للتَّوْبَةِ الصَّالِحَةِ فالذَّنْبُ مَغْفُور، أَحْمَدُه سُبْحَانَه وأَشْكُرُه وَهُوَ الحَمِيْدُ الشَّكُوْر، أَشْهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له.. يُدبِّرُ الأمور، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُ اللهِ وخليلُه أفضلُ رسول، وعَدَ أمته من مضاعفة الأُجُوْرِ ما يُدركون به من سِنِيَّ عمل الأمم طَوِيْلِيْ الأَعمارِ والدُّهُور، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصَحبهِ المسارعينَ في الخيرِ والعملِ الصالحِ المبرور، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم النُّشور، أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله بفعل الأوامر واجتناب المنهيَّات، واغتنام فسحة أَعمارِكُم وقوةَ أبدانِكُم في الإِقْبَالِ على الخيرات، وهذا شهرُ رمضان قد مضى أكْثَرُه، فمَنْ كان أحسن فيه فلْيَزْدَد، ومَنْ كان أساء فليُمسك عنه ولا يَعُد، وفي صالح العمل يَجْتَهِد، فإنَّ أيَّامَكُم خزائنُ أعمالِكُم، وما أُودع فيها أُخْرِجَ للجزاء في الآخرة؛ فانْظُرُوا ما تُوْدِعون؛ فإنَّكم لِدُنْيَاكُم موَدِّعون.
عباد الله.. إنَّ مِمَّا خَصَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الأوقات بِمَزِيْدِ تَفْضِيْلِه وَوَافِرِ تَكْرِيْمِه: شهرَ رمضان، وخصَّ العشرَ الأواخرَ مِن لياليه فَفَضَّلَها على سائرِ ليالي العام، إذْ فيها ليلةُ القدر التي لِمَزِيْدِ فَضْلِهَا عند الله وعَظِيْمِ مكانتها: فخَّم أمْرَهَا وأعلى شأنَها، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، وقال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}. فَلِلَّه ما أعظمَها مِنْ لَيلة، وما أجلَّها وأكرمَها، وما أوفرَ بركتَها، في هذه الليلة الكريمة المباركة يَكْثُرُ تَنَزُّلُ الملائكةِ لِكَثْرَةِ بَرَكَتِهَا، وهي سلامٌ وخيرٌ كلُّها ليس فيها شرٌّ إلى مَطْلَع الفَجْر، وفي هذه الليلةِ الكريمةِ المبارَكَةِ يُفْرَقُ كلُّ أمرٍ حكيم -أي: يُقدَّرُ فيها ما يَكونُ في تلك السنةِ بإذن الله العزيز الحكيم-، وقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في فضل ليلةِ القَدْرِ أنَّه قال: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).
- ليلةٌ واحدةٌ خيرٌ مِنْ أَلفِ شَهْر!! ومعنى ذلك أنها خيرٌ من نحوِ ثَلاثِيْنَ ألفَ ليلةٍ، وإنَّ ألفَ شهرٍ تزيد على ثلاثة وثمانين عاماً فهو عمرٌ طويلٌ ولو قَضَاهُ المسلمُ في طاعة الله عز وجل فإنَّ ليلة القدر وهي ليلة واحدة خيرٌ منه! وهذا فضل عظيم.
تدبَّر عبدَ الله إنه ليس ثوابُ ليلةٍ، ولا عَشَرةَ أضعاف، ولا مِئَةَ ضِعف، ولا أَلْفَ ضِعف، بل نحو ثلاثين ألف ضعف، فهل بعد هذا يَتَخَيَّرُ المسلمُ ليلةً من الليالي المعدودات، فيكونُ في احتمالٍ كبيرٍ من الفوات؟!
فليلةُ القَدر في العشر الأواخر، وفي الأوتار أحرى، وقد تكون في الأشفاع، فهي متنقِّلة، فقد وافقت مرةً ليلة إحدى وعشرين -كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد-، ووافقت ليلة ثلاثٍ وعشرين -كما في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن أُنيس-، وجاء عن جماعة تَأكُّدِها في ليلة سبع وعشرين، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه ليلة خمسٍ وعشرين، وقد تكون في ليالي الشفع كما قد تكون في ليالي الوتر، وذلك بحسب نقصان الشهر وتمامه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «التَمِسُوها فِي العَشْرِ الأواخِرِ، فِي تاسِعَةٍ تَبْقى، أوْ خامِسَةٍ تَبْقى، أوْ سابِعَةٍ تَبْقى»، وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه.
وأضرب لكم مثالًا .. لو أنَّ موظَّفًا يعمل بخمسة آلاف ريال في الشهر، فقال له صاحب العمل إنه في هذا الشهر يومٌ لو وافق أنك تعمل فيه باجتهاد فإن لك مئة ضعف الراتب يعني: خمسمئة ألف ريال وهو واحد فقط، فهل تُرَوْنَ هذا سيفكر أيُّ يومٍ يكون هل هو في أول الشهر أو آخره، أو سيعمل الشهر كلَّه ليَضمَنَ المكافأة الكبيرة؟
إنه بلا شك ولا تردد سيداوم الشهر كلَّه.
لحظتم هذا وهو فقط مئة ضعف، فكيف لو كان ألف ضعف، فكيف لو كان ثلاثين أو ضعف؟!
عبادَ الله.. إن الواجب علينا جميعًا أن نحرِصَ على الاجتهاد في العَشْرِ كلِّها لندرك هذه الليلة المباركة فنفوزَ بثوابها، ونَغْنَمَ خيرَها، ونُحَصِّلَ أجورَها؛ فإنَّ المحرومَ من حُرِمَ الثواب، ومن تَـمُرُّ عليه مواسم المغفرة ويبقى محملاً بالذنوب مُعرِّضًا نَفْسَهُ لِأَلِيمِ العقاب، فويلٌ لمن طُرِدَ عن الأبواب، وأُغلِقَ دونَه الحجاب، وطُوبَى لِمَنْ نَالَ فيها سَبْقَ الفائزين، وسَلَكَ فيها بالقيام وحُسن العَمَلِ سبيلَ الصالحين، قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ))، ركِابُ السابقين إلى الله في رمضان يَحدُوهَا قولُه عليه الصلاة والسلام: ((رغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ عليه رمضان ثم انسلَخَ قبل أنْ يُغفَرَ له)).
وإنَّه لا حول لأحدنا ولا قوَّةَ له على حُسْنِ العَمَلِ؛ إلا بتوفيق الله عزَّ وجَل، فاللَّهمَّ أعنَّا على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك.
المنادي ينادي: رمضان يمضي، فأدركوا ما بقي من التِّجارة مع الله: حسناتٌ متقبَّلة، وسيئاتٌ مكفَّرة، ورحمةٌ من الله ومغفرة، فجِدُّوا قبل ارتحاله، وأصيبوا من البركات قبل انتقاله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين أجمعين برحمته وهو أرحم الراحمين.
***
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد ان محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأقبلوا عليه، وتضرعوا له، وانكسروا بين يدي مناجاته، طمعًا في مرضاته، وخوفا من الطرد من رحمته وقطع الطريق دون جنته {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ (٥٥) ولا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها وادْعُوهُ خَوْفًا وطَمَعًا إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ}. إن دعاءَ الموقنين وأنينَ التَّائبين وبكاءَ المنكسرين أصواتٌ تطرق أبواب السَّماء، وتَستجلب رحمة أرحم الرَّاحمين، فلا تضعفوا عن الدُّعاء؛ فإنَّ أعجز النَّاسِ من عجز عنه، كم مِن دعوةٍ فَرَّجت همًّا، وكَشفت غمًّا، وجَلَتْ أحزانًا، وهَدَتْ إنسانًا، وحَفِظَتْ موجودًا، وردَّت مفقودًا، فضلًا من الله ونعمةً.
إنه يستحب للمسلم أن يكثر في هذه الليالي من الدعاء؛ فإنه مستجاب، وليتخير من الدعاء أجمعه، ومن تحري الدعاء به ما كان من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة، ثم ذكر أحد جوامع الدعاء، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ((يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو ؟ قَالَ : تَقُولِينَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي))،
اللهم وفِّقْنَا لقيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، واعف عنا إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ.
عبادَ الله.. صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم في محكمِ تنزيلِه، فقال وهو الصادقُ في قِيلِه: ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ .
المرفقات
1742477563_ليلةٌ أفضل من ثلاثين ألف ليلة.docx
1742477564_ليلةٌ أفضل من ثلاثين ألف ليلة.pdf