لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون
راكان المغربي
الخطبة الأولى:
أما بعد:
المالُ عصبُ الحياةِ، وقِوَامُ المعيشةِ.
ذلك المتاعُ المحبوبُ، الذي فطر اللهُ قلوبَ الناسِ على حبِّه، فبه يغتني المرءُ، ويترفعُ عن الذلِّ والسؤالِ، وبه تتوفرُ ضرورياتُ الحياةِ وحاجاتُها وكمالاتُها.
والمالُ هو كلُّ ما يُمكِنُ حيازتُه والانتفاعُ به من نقودٍ أو حيوانٍ أو نباتٍ أو مَسكنٍ أو غيرِ ذلك.
والمالُ مالُ الله، فاللهُ هو الذي رزقكَ إياه وأكرمكَ به، فالبيتُ الذي يظلُّك، والسيارةُ التي تقلُّك، والرصيدُ الذي في حسابِك، والطعامُ الذي يملأُ ثلاجتَك، كلُّ ذلك إنما هو رزقُ الرزاق، وكرمُ الكريم، ملَّكَكَ إياه فضلاً منه ونعمةً، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ). وقال سبحانه: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ).
وقد ابتلانا اللهُ سبحانه بهذا المال، ليعلمَ من يؤمنُ ويشكرُ، ممن يجحدُ ويكفرُ. وليعلمَ من يقدّمُ محبةَ الله ورضاه، على شهوتِه ودنياه.
يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (الصَّدقةُ بُرهانٌ) أي دليلُ صدقٍ على الإيمان، فالباذلُ للمالِ يعطي مما تشتهي نفسُه ويحبُّ قلبُه، ومع ذلك يضحّي به لأنه يؤمنُ أن اللهَ سبحانه سيثيبُه ويأجرُه، وسيجعلُ هذا المالَ ذخراً له في الدنيا والآخرة.
معاشر المسلمين
تعالَوْا بنا لنطلعَ على نماذجَ ممن ضحُّوا بأحبِّ محبوباتِهم من أجلِ الله، فكانت تضحياتُهم تلك أعظمَ برهانٍ على إيمانِهم وصدقِهم.
النموذجُ الأولُ يروي لنا قصته أنسُ بن مالكٍ رضي الله عنه فيقول:
"كانَ أبو طَلْحَةَ أكْثَرَ أنْصَارِيٍّ بالمَدِينَةِ مَالًا مِن نَخْلٍ، وكانَ أحَبُّ مَالِهِ إلَيْهِ بَيْرُحَاءَ -وهو بستانٌ ظليلٌ يُنبِتُ الشجرَ والثمرَ ويَنْبُعُ بالماءِ الطيّب-،
يكمل أنس فيقول: وكَانَتْ مُسْتَقْبِلَ المَسْجِدِ، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدْخُلُهَا ويَشْرَبُ مِن مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قالَ أنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا ممَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
قَامَ أبو طَلْحَةَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ يقولُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا ممَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وإنَّ أحَبَّ مَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وإنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أرْجُو برَّهَا وذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يا رَسولَ اللَّهِ حَيْثُ أرَاكَ اللَّهُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (بَخٍ، ذلكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذلكَ مَالٌ رَابِحٌ، وقدْ سَمِعْتُ ما قُلْتَ، وإنِّي أرَى أنْ تَجْعَلَهَا في الأقْرَبِينَ). فَقَالَ أبو طَلْحَةَ: أفْعَلُ يا رَسولَ اللَّهِ. فَقَسَمَهَا أبو طَلْحَةَ في أقَارِبِهِ وبَنِي عَمِّهِ".
هكذا كان الصحابةُ رضوان الله عليهم يتلقَّونَ آياتِ القرآن، كانوا يسمعونها فتتحولُ مباشرةً إلى واقعٍ عمليٍّ. فهذا أبو طلحةَ يسمعُ هذه الآية، ويدركُ أنّ البرَّ لا يُنالُ حتى ينفقَ الإنسانُ مما يحبّ، فيُجرِي مسحاً سريعاً لأموالِه ودرجاتِ محبّتِه لها، فيجدُ في أعلى القائمةِ ذلك البستانَ المثمرَ الظليلَ، فلا يرضى إلا أن يقدّمَ أعظمَ محابِّه، لينالَ أعلى درجاتِ البرِّ والرضوان.
وأبو طلحةَ لم يكن فريداً من نوعِه بين ذلك الجيلِ الطاهرِ، فهذا عمرُ رضي الله عنه، يتملَّكُ أرضاً نفيسةً بخيبر، لم يملِكْ قبلها مثلَها قطّ، فيا ترى كيف سيكونُ تفكيرُه في استثمار هذه الأرضِ الثمينةِ؟
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: " أصَبْتُ أرْضًا لَمْ أُصِبْ مالًا قَطُّ أنْفَسَ عندي منه، فَكيفَ تَأْمُرُنِي بهِ؟ قالَ: إنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أصْلَها وتَصَدَّقْتَ بها، فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أنَّه لا يُباعُ أصْلُها ولا يُوهَبُ ولا يُورَثُ، في الفُقَراءِ، والقُرْبَى والرِّقابِ وفي سَبيلِ اللَّهِ والضَّيْفِ وابْنِ السَّبِيلِ"
لقد كان بناءُ الآخرةِ هو الشغلُ الشاغلُ لتفكيرِهم، ففيها كانوا يضعون فرصَهم الاستثماريةَ، ومشاريعَهم المستقبليّةَ.
ونموذجٌ ثالثٌ من هذه النماذج، هو الابنُ البارّ للفاروقِ عمر، والتلميذُ النجيبُ في المدرسةِ النبويّةِ، إنه عبدُالله بن عمر رضي الله عنهما، فيقول:
" حَضَرَتْنِي هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ فذكرتُ مَا أَعْطَانِي اللَّهُ، فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أحبَّ إِلَيَّ مِنْ جَارِيَةٍ رُوميَّة، فقلتُ، هِيَ حُرَّة لِوَجْهِ اللَّهِ. فَلَوْ أنِّي أَعُودُ فِي شَيْءٍ جَعَلْتُهُ لِلَّهِ لنكَحْتُها".
إنها ذاتُ المواقفِ ولكنْ بصورٍ مختلفةٍ، جيلٌ تربى على القرآن، جيلٌ يسترخصُ كل شيءٍ من أجلِ نيلِ الجنانِ والرضوانِ.
قال سبحانه يعرّف لنا البر: (وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ) -فهم يحبون المال ولكن يعطونه لله إيمانا به وطلبا لثوابه-
(وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)
وقال سبحانه في وصف الأبرار: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا).
إنها درجةٌ عاليةٌ من وصل إليها، فقد وصل إلى أعلى درجاتِ البرِّ، وبرهنَ على إيمانِه بأعظمِ البرهان.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه:
جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قالَ:
(أَنْ تَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وتَأْمُلُ الغِنَى) فأعظمُ الصدقاتِ أجراً تلك التي تكون وقتَ شدةِ حرصِك وحبِّك للمال، ولكنك تدفعُ هذا المالَ لتشتري به الجنانَ والرضوانَ، فما أعظم السلعةَ وما أربحَ البيعة! (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ).
ذلك المالُ الذي تتصدقُ به، لن يذهب سدى ويُنْسى، بل هو قرضٌ مردودٌ، بفوائدَ ربانية، ومضاعفاتٍ إلهية (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
قال صلى الله عليه وسلم: (مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ).
ذلك المالُ الذي تنفقُه تشتري به ما عند الله، سترى أرباحَه في الدنيا قبل الآخرة، بركةً في الرزق، وخُلْفاً في المال (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
كيف لا وقد سخّرَ الله ملكين وظيفتُهما الدعاءُ اليوميُّ للمنفقين بالخَلَفِ، وللممسكين بالتَّلَف؟!
يقول صلى الله عليه وسلم: (ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)
فأنفقوا ما رزقكم الله، وءاتوا الناسَ من مال الله، وأيقنوا بجودِ الجواد، وكرمِ الكريم. قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللَّهَ قالَ لِي: أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ. وَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: يَمِينُ اللهِ مَلأَى لا يَغِيضُها نَفَقَةٌ، سَحّاءُ اللَّيْلَ والنَّهارَ، أرَأَيْتُمْ ما أنْفَقَ مُذْ خَلَقَ السَّماءَ والأرْضَ، فإنَّه لَمْ يَغِضْ ما في يَمِينِهِ)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
أما بعد:
شهرُ رمضانُ هو شهرُ الجودِ والإحسان، ففي هذا الشهر تتطهرُ القلوبُ بالقرآن، وتزكو النفوسُ بالصيامِ، وتُحِسُّ البطونُ بجوعِ الفقراءِ والمساكينِ، فتجودُ اليدُ بالخيرِ، وتسمحُ النفسُ بالعطاءِ.
وهكذا كان نبيُّ الكرمِ والجودِ والإحسانِ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كانَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجْوَدُ ما يَكونُ في رَمَضانَ حِينَ يَلْقاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ يَلْقاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضانَ فيُدارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ".
فدونكم أبوابُ الخيرِ وسبلُ الإحسان، من الزكاةِ الواجبةِ على أموالِكم، إلى الصدقةِ المستحبةِ من إطعامِ الجوعى، وقضاءِ حاجاتِ الضعفاء، وإيواءِ الفقراء، وإغاثةِ الملهوفين، وإنقاذِ المنكوبين.
وقد توفرت ولله الحمد في بلادِنا المباركةِ المعطاءِة، العديدُ من المنصّاتِ الرسمية، والجمعياتِ الخيريةِ المعتمدة، كمنصةِ إحسان الوطنية للعمل الخيري، والتي تتضمن العديد من البرامج والمشاريع الخيرية النافعة، التي يعود نفعها على المحتاجين والمستحقين، فجودوا جاد الله عليكم.
(وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)
اللهمَّ إنا نسألُكَ فِعْلَ الخيراتِ وتَرْكَ المنكراتِ وحُبَّ المساكينِ وأن تَغفرَ لنا وتَرحمَنا وإذا أردتَ فتنةً في قومٍ فتوفَّنا غيرَ مفتونين، اللهم إنا نسألُك حُبَّكَ وحُبَّ من يُحبُّكَ وحُبَّ عملٍ يُقرِبُ إلى حُبِّكَ
المرفقات
1710420241_لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون.docx
1710420242_لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون.pdf