لم يبقى منها إلا القليل

عنان عنان
1436/10/14 - 2015/07/30 23:03PM
" الخطبة الأولى "

معاشر المؤمنين: إن الله-عز وجل-خلق هذه الحياةَ الدنيا وجعلها دارَ العجل والممر إلى دار اللآجلة والمقر
قال الله-جلَّ وعلا-: " هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوَكم أيكم أحسن عملاً ".

حكم المنية في البريةِ جارِ***ما هذه الدنيا بدارِ قرارِ
بينا يُرى الإنسانُ فيها مُخبراً***حتى يُرى خبراً من الأخبارِ.

يقول علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-: " إن هذه الدنيا قد ولَّت مدبرةً والآخرةَ جاءت مُقبلةً ولكلِّ واحدٍ منها بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل لا حساب وغداً حسابٌ لا عمل ".
وصدق الله القائلَ إذ يقولُ في كتابه الكريم " وقلِ اعملوا فسيرى الله عملكم ورسولُه والمؤمنون وستردون إلى عالمِ الغيبِ والشهادةِ فينبئكم بما كنتم تعملون ".

أما واللهِ لو علم الأنامُ***لما خُلقوا لَما غفلوا وناموا
لقد خُلقوا ليومٍ لو رأته***عيونُ قلوبهم ساحوا وهاموا
مماتٌ ثم حشرٌ ثم نشرٌ***وتوبيخٌ وأهوالٌ عِظامُ
ليومِ الحشرِ قد عملت أناسٌ***فصلوا من مخافته وصاموا
ونحن إذا أمرنا أو نُهينا***كأهلِ الكهفِ أيقاظٌ نيامُ

معاشر المؤمنين: لقد أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم-بأن هذه الدنيا دارُ ممر ولا يبقى منها إلا القليل فإذا كان هو القائل-صلى الله عليه وسلم-: " بُعثت أنا والساعة كهاتين ثم يُشير بالسبابةِ والوسطى ".
وهذا الخبر يقوله: قبل ألفٍ وأربعِ مائةِ عام فما الذي بقي من هذه الدنيا يا معاشر المؤمنين؟ فإنه لم يبقَ منها إلا المكدرات والمنغصات عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: " إن الله لم يجعلْ هذه الدنيا إلا قليلاً ولا يبقى منها إلا القليل كالثغبِ شُرب صفوه وبقي كدرُه " [حسنه الشيخ الألباني-رحمه الله-].
والثغب هو الماء المليئ بالحوض يأتي عليه الناس والدواب فيشربون منه فيشربون صفوته ويبقى كدره وهو الماء المخلوط بالطين لا ينتفع منه الإنسان ولا الحيوان فهكذا الدنيا لن ينتفع منها العبد إلا ما قدم وعمل من خير يلقاه بين يدي الله-سبحانه وتعالى-.

قال الله-جلَّ وعلا-لقد خلقنا الإنسان في كبد ".
طُبعت على كدرٍ وأنت تريدها***صفواً من الأقذار والأكدارِ
ومكلفُ الأيامِ ضدَّ طباعِها***متطلبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ.

ولهذا أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم-أن صفاءَها قد ذهب لم يبقَ منها إلا كدرُها وهي البلايا والرزايا والفتن
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " لم يبقَ من هذه الدنيا إلا بلاءٌ وفتنة والموت خير للمؤمن الصالح من الفتنة " [رواه ابن ماجه باسناد حسن].

نعم يا عباد الله: ما الذي ينتظره العباد من هذه الدنيا القليلة؟ ولو كانت الدنيا تُساوي عند الله جناحَ بعوضة ما سقى منها كافراً شربَةَ ماء ألا فلا ترغب في هذه الدنيا وارغب بما هو خير لك وابقى

معاشر المؤمنين: روى مسلم في صحيحه عن خالدٍ بنِ عُميرٍ العدوي قال: خطبنا عُتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه
ثم قال: أما بعد: فإن الدنيا قد آذنت بصرمٍ وولت حذَّاءَ-أي مسرعة- ولم يبقى منها إلا صُبابةٌ كصُبابةِ الإناء-وهي القطرات الآخيرة التي تكون في الإناء- يتصابُّها صاحبُها وإنكم منتقلون إلى دارٍ لا زوالَ لها فانتقلوا بخيرٍ ما بحضرتِكم
فإنه قد ذُكِرَ لنا: (أن الحجرَ يُلقى من شفةِ جهنم فيهوي فيها سبعينَ عاماً لا يُدركُ لها قعراً والله لتُملأَنَّ أفعجبتم ولقد ذُكر لنا أن: أن ما بين المِصراعين من مصاريعِ الجنة مسيرةُ أربعينَ سنةً ولياتينَّ عليها يومٌ وهو كظيظٌ من الزِّحام ".

معاشر المؤمنين: الله لم يخلق هذه الدنيا بما فيها من الليل والنهار إلا لتكون مستودعاً لإعمالنا شاهدةً علينا يومَ مآلِنا
ويومَ ورودِنا إلى الله-عز وجل مولانا- قال سبحانه: " هو الذي جعل الليلَ والنَّهارَ خِلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شُكوراً ". فأياك والتسويف فيها من عمرك ولا تغتر بشبابك وصغر سنك فإن الموت يأتي فجأةً وابن آدم كالزرع قد يموت صِغره قبل كبره لكنَّ العبد الفظن من يعمل لآخرته ويستعد لها استعداداً تاماً وذلك بأن لا يفرطَ ولا يسوفَ ولا يؤخرَ عملَ اليوم إلى اليومِ الآخرِ بالتسويفِ والإهمال.

مضى أمسك الماضي شهيداً مُعدَّلاً***وأصبحتَ في يومٍ عليكَ شهيدُ
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءةً***فثنِّ بإحسانٍ وأنت حميدُ
ولا ترجِ فعل الخير يوماً إلى غدٍ***لعلَّ غداً يأتي وأنتَ فقيدُ
فيومك وإن عاتبته عاد نفعه***عليك وماضي الأمسِ ليس يعودُ.

جاء رجل إلى أحد السلف وهو يذكر الله ويتلو كتابه فقال: يا هذا أريد أن أحدثك قليلاً وأجادلكَ في الكلام
فقال له: تريد كم ساعةً حتى تتوقف؟ فإن كنتَ تسري وتسري معها ساعةَ النهار فإني لا أضيع شيئاً منها أدخره ليوم القيامة-الله أكبر-.
" فمن كان يرجو لقاء ربِّه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشركْ بعبادةِ ربِّه أحداً ".
قال الله-جلَّ وعلا-: " وتزودوا فإنَّ خيرَ الزادِ التقوى واتقونِ يا أولي الألباب ".

تزود من معاشك للمعادِ***وقمْ لله واعملْ خيرَ زادِ
ولا تجمعْ من الدنيا كثيراً***فإنَّ المالَ يُجمعُ للنفادِ
أترضى أن تكونَ رفيقَ قومٍ***لهم زادٌ وأنتَ بغير زادِ.

" الخطبة الثانية "

يا عبد الله: بعد أن تَرمي الترابَ فوقَ من تحب بعد أن يغادرَ الحياةَ ستدرك حينها أن الدنيا تافهةٌ جداً
والبقاءَ فيها لن يستمرَ طويلاً رحم اللهُ كُلَّ من فقدناهم فنحن نعلم علمَ اليقين
أن إنقضاء الأيام من عمرنا حتماً لن يعود لذا اجعل لنفسك ورداً من القرءان ولا تتركه مهما كان
واجعل لك تسبيحاتٍ دائماتٍ في كُلِّ يومٍ (سبح واستغفر وهلل وصلِّ على النبي-صلى الله عليه وسلم)
ودع لنفسك ولوالديك وذريتك وأحبابك وتذكر أن أهل الجنة لم يتحسروا على شيء
كحسرتهم على ساعةٍ لم يذكروا الله-عز وجل-فيها.
[الشيخ علي الطنطاوي-رحمه الله-].

معاشر المؤمنين: كل يوم على يوم تزداد غفلة الناس عن الآخرة وبعدهم عن الله وعن دين الله وعن سنة رسول الله
انغمست الناس في ماديات الحياة وضعف اليقين عندها وزادتِ الغفلة عندها
قال الله-جلَّ في علاه-: " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلةٍ معرضون ما يأتيهم من ذكرٍ من ربهمٍ محدثٍ إلا استمعوه وهم يعلبون لاهيةً قلوبُهم ".

ولهذا يا عباد الله حذر النبي-صلى الله عليه وسلم-أمته للإستعداد لهذا اليومِ العظيم الذي فيه سنفارق الإخوان
ونرد على الله بأعمالنا إن خيراً فخير وإن شراً فشرٌّ
جاء رسول الله إلى قومٍ يحفرون قبراً فجلس النبي على رُكبتيه قال البراء: لأستقبلنَّ رسولَ الله من قِبَلِ وجهه فأنظر ماذا يصنع
قال: فإذا به-صلى الله عليه وسلم-قد بكى حتى بلَّ لحيتَه وبلَّ الثرى وهو يشير إلى القبر ويقول: يا إخواني لمثل هذا فاعدوا يا إخواني لمثل هذا فأعدوا.

كان النبي-صلى الله عليه وسلم-إذا راى السائل عن يومِ القيامة يسأله ما الذي أعده لها
عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: أن رجلاً من الأعراب جاء يسأل رسول الله وهو في المسجد وهو يقول يا رسول الله متى الساعة؟ والرسول يُعرِضُ عنه ثم يقول: متى الساعة؟ والرسول يُعرِض عنه ثم يقول: متى الساعة؟ والرسول يُعرِضُ عنه
قال أنس: حتى ظننا أنه كره هذا السؤال قال: فقعد النبي قليلاً ثم قال: من السائل عن الساعة؟ قال: أنا يا رسول الله قال: ما الذي أعددته لها؟ قال: والله ما أعددت لها كثير عمل سوى إني أحب الله ورسوله قال-صلى الله عليه وسلم-: " المرء مع من أحب يومَ القيامة " قال أنس: ففرحت في هذا الحديث فرحاً عظيماً ثم قلت: اللهم إني أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر.

معاشر المؤمنين: تزودوا من العمل الصالح واحرصوا عليه قيل: لبعض الحكماء من أبر الأصحاب؟قال: " العمل الصالح ". هل تعلم لماذا هو أبر الأصحاب؟ لأن كل أصدقاءك البارين والمخلصين لك في الدنيا سيفارقوك رغم أنوفُهم إلا هذا الصاحب يرافقك بعد موتك لهذا كان أبرَّ الأصحاب قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " إذا مات ابن آدم ذهب معه أهله وماله وعمله فيرجع الأهل والمال ويبقى العمل ".

[وصلِّ اللهمَّ وباركْ على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين].
المشاهدات 3255 | التعليقات 0