لمن أراد أن يذكر .

الخطبة الأولى: لمن أراد أن يذكر

الحمدُ للَّـهِ يقلِّبُ الليلَ والنَّهارَ، وجعل ذلك عبرةً لأولي الأبصارِ، وأشهدُ أن لَّا إله إلَّا اللَّـهُ وحدَّهُ لا شريكَ له ، جعل الليلَ والنهارَ خِلْفَةً لمَن أراد أن يَذَّكَّرَ أو أرادَ شُكُورًا، وصلى اللَّـهُ وسلَّمَ على مَن أرسلَه اللَّـهُ بين يَدَيِ الساعةِ مُبَشِّرًا ونذيرًا، وعلى آلِه وصحبِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.         أَمَّا بعدُ:

فأوصيكم ونفسي...

عن عائشةَ t قَالَتْ: لَـمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي، قَالَ رسولُ اللـهِ r «يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي» قُلْتُ: وَاللَّـهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّـهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟، قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ...) إلى قوله (فقنا عذابَ النار) رواه ابنُ حبانَ وغيرُه بألفاظٍ أخرى .

معاشرَ المُؤمنين: إِنَّ الأَعوامَ تتصرَّمُ والأيامَ تنقضي، وهكذا عُمُرُ ابنِ آدَمَ، سَنَةٌ تتبعُها سَنَةٌ؛ حتى ينقضيَ عُمُرُهُ، قال أَبو الدَّرداءِ t «ابنَ آدمَ: إِنَّما أَنت أَيامٌ، إِذا ذهبَ يومٌ ذهبَ بعضُك، ابنَ آدمَ: إِنَّك لم تَزَلْ في هَدْمِ عُمُرِكَ منذُ يومِ ولدَتكَ أَمُّكَ». 

إِنَّا لَنَفْرَحُ بالأيامِ نَقْطَعُها         

 وكلُّ يومٍ مضى يُدْنِي من الأَجَلِ

إخوة الإيمان: لقد ضربَ سلَفُنا الصالحُ أَسْمَى الأَمْثِلَةِ في اغتنامِ أَوقاتِهم في طاعةِ اللَّـهِ، وأَخبارُهم في هذا متوافرةٌ، وقَصَصُهم فيه متكاثِرةٌ،

فعنِ ابنِ مسعودٍ t أَنَّه قال: «ما ندِمتُ على شيءٍ نَدَمي على يومٍ غربت شمسُه، نقصَ فيه أَجلي، ولم يَزِدْ فيه عملي».

وقال الحسنُ البَصْريُّ: «أَدركتُ أَقوامًا كان أَحدُهُم أَشَحَّ على عُمُرِه منه على دَراهمِه ودَنانِيرِه».

وقال الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ «أَدركتُ أَقوامًا يستحون من اللَّـهِ في سوادِ الليلِ من طُولِ الهَجْعَةِ، إِنَّما هو على الجنبِ، فإِذا تحرَّك قال: ليس هذا لكِ، قومي خذي حظَّكِ من الآخرةِ».

 

وقال حمَّادُ بنُ سَلَمَةَ: «ما أَتينا سليمانَ التَّيْميَّ في ساعةٍ يُطاعُ اللَّـهُ فيها إِلَّا وجدناه مطيعًا: إِن كان في ساعةِ صلاةٍ وجدناه مُصَلِّيًا، وإِن لم تكن ساعةَ صلاةٍ وجدناه إِمَّا مُتَوَضِّئًا، أَو عائدًا مريضًا، أَو مُشَيِّعًا لجنازةٍ، أَو قاعدًا في المَسجدِ» أ.هـ .

قال أَبو عَوَانَةَ الوَضَّاحُ: «صحبتُ يَزِيدَ بنَ زُرَيْعٍ أَربعينَ سَنَةً، يَزدادُ في كلِّ سَنَةٍ خيرًا».

أيها المسلمون: إِنَّكم في الغدِّ تودِّعون عامًا ماضيًا شهيدًا، وتستقبلون عامًا مُقْبِلًا جديدًا ، ذهب عامُكم شاهدًا لكم أو عليكُم،

فيا ليتَ شِعْري! ماذا أَودعتم في عامِكمُ المَاضي؟ وما ذا تستقبلونَ بهِ العامَ الجديدَ؟ فاحتقِبوا زادًا كافيًا، وأعِدّوا جوابًا شافيًا، واستكثِروا في أعمارِكم من الحسناتِ، وتدارَكوا ما مضَى من الهفَواتِ، وبادروا فرصةَ الأوقاتِ، فإِنَّ العاقلَ هو الذي تزيدُ طاعتُه بمرورِ الأَيَّامِ، ويزدادُ من الخيرِ على كَرِّ الأَعوامِ، ومن كان يومُه كأَمسِه فهو مغبونٌ.

هذا عامٌ مِن أعمارِكم قد تصَرَّمَت أيّامُه، وقُوِّضَت خِيامُه، وغابتْ شمسُه، واضمحلَّ هلالُه، إيذانًا بأنَّ هذه الدنيا ليست بدارِ قرارٍ،

 وأن ما بعدَها دارٌ إلا الجنّةَ أو النارَ، فاحذروا الدنيا ومكائِدَهَا، فكم غرَّت من مُخلِدٍ فيها، وصرعتْ من مكِبّ عليها، فعن ابنِ عمرَ t قال: أخَذَ رسولُ اللـهِ r   بمَنكبي فقال: (كُن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ)

إنَّ الشهورَ والأعوامَ واللياليَ والأيامَ مواقيتُ الأعمالِ، ومقاديرُ الآجالِ، تنقضِي جميعًا، وتمضِي سريعًا، واللّيلُ والنهارُ يتَعاقبانِ لا يفتُرانِ، ومَطيَّتانِ تُقرِّبانِ كلَّ بعيدٍ، وتُدنِيانِ كلَّ جديدٍ، وتجيئَانِ بكلِّ موعودٍ إلى يومِ القيامةِ،

 والسعيدُ لا يركَنُ إلى الخُدَعِ، ولا يغتَرُّ بالطمعِ، فكم من مستقبِلٍ يومًا لا يستكمِلُه، وكم مِن مؤَمِّلٍ لغدٍ لا يدْرِكُه (وَلَن يُؤَخّرَ ٱللَّـهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَٱللَّـهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

فيا من قد بَقِي من عُمُرِهِ القليلُ، ولا يدرِي متى يقَعُ الرّحيلُ، يا مَن تُعَدُّ عليه أنفاسُه! استدرِكها. يا من ستفوتُ أيامُه! أدرِكها، نفسُك أعزُّ ما عليكَ فلا تُهلِكْها (كلُّ النّاسِ يغدو، فبائعٌ نفسَهُ فمُعتِقُها أو موبقُها ).

 

يا من أقعدَه الحِرمانُ! كم ضيّعتَ من أيامٍ، وقضيتَها في اللّهوِ والمنامِ، كم أغلقتَ بابًا على قبيحٍ، كم أعرضتَ عن قولِ النصيحِ، كم صَلاةٍ تركتَها، ونظرةٍ أصبتَها، وحقوقٍ أضعتَها، ومناهِي أتيتَها، وشرورٍ نشَرتَها.

يا من تمرُّ عليه سنَةٌ بعد سنةٍ وهو في نومِ الغفلةِ والسِنةِ، يا من يأتي عليه عامٌ بعد عامٍ وقد غَرِقَ في بحرِ الخطايا وهامَ، قل لي بربِّك: لأيِّ يومٍ أخَّرتَ توبتَكَ؟ ولأيِّ عامٍ ادَّخرتَ أوبتَك؟ إلى عامٍ قابِلٍ وحولٍ حائلٍ؟ فما إليكَ مَدَّةُ الأعمارِ ولا معرفةُ المقدارِ، فبادِر التوبةَ واحذرِ التسويفَ، وأصلح من قلبِكَ ما فسَدَ، وكنْ من أجلِكَ على رصَدٍ، وتعاهَدْ عُمْرَكَ بتحصيلِ العِددِ، فقد أَزِفَ الرحيلُ وقرُبَ التحويلُ، والعُمرُ أمانَةٌ، سَيُسألُ عنه المرءُ يومَ القيامةِ (اقرأَ كتابكَ كفى بنفسِكَ اليومَ عليكَ حسيباً)

ألا فاتقوا اللـهَ عبادَ اللـهِ وحاسبوا أنفسَكُم قبلَ أن تُحاسبوا وزنوا أعمالَكم قبلَ أن تُوزنوا (يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَـٰقِيهِ  فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ  فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا  وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا 

وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ  فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا  وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا  إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُورًا  إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ  بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا )

 بارك الله لي..

 

 

 

 

 

 

الخطبةُ الأُخرى

الحمدُ للـهِ ربِّ العالمِين ...أَمَّا بعدُ: فيا عبادَ اللـهِ:

لقد ذكرَ أهلُ العلمِ خصائصَ للزمانِ لا تكون إلا فيهِ دون غيرِه ، فمن خصائصِ الأوقاتِ والأعمارِ والأزمانِ: أنَّه يمضي سريعاً .

والوقتُ أنفسُ ما عنيتُ بحفظِه

وتراهُ أسهلَ ما عليكَ يَضيعُ

عن أنسٍ t قال: جاءَ ملَكُ الموتِ إلى نوحٍ عليه السلامِ ، فقال: يا أطولَ النبيينَ عُمُراً! كيف وجدتَ الدنيا ولذَّتِها ؟

 قال:" كرجلٍ دخلَ بيتاً له بابان فقامَ في وسط البيتِ هُنيهةً ، ثم خرجَ من البابِ الآخَرِ " رواه ابنُ أبي الدنيا في الزهد .

ومن خصائص الأزمانِ والأعمارِ: أنَّه لا يمكنُ أن يُزادَ في عُمرِكَ ألا أن تكونَ نبياً، وذاكَ محالٌ بعدَ رسولِ اللـهِ r ، ففي الحديثِ: (أُرْسِلَ مَلَكُ المَوْتِ إلى مُوسَى عليهما السَّلَامُ، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ- ففقأَ عينَهُ - فَرَجَعَ إلى رَبِّهِ، فَقَالَ: أرْسَلْتَنِي إلى عَبْدٍ لا يُرِيدُ المَوْتَ، فَرَدَّ اللَّـهُ عليه عَيْنَهُ وقَالَ: ارْجِعْ، فَقُلْ له: يَضَعُ يَدَهُ علَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بكُلِّ ما غَطَّتْ به يَدُهُ بكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ: أيْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ المَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ، فَسَأَلَ اللَّـهَ أنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بحَجَرٍ، قَالَ: قَالَ رَسولُ اللَّـهِ r فلوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ، إلى جَانِبِ الطَّرِيقِ، عِنْدَ الكَثِيبِ الأحْمَرِ)خ .م

ومن خصائص الأوقاتِ والأعمارِ: أنَّ ما مضى منه لا يمكنُ أن يعودَ (ويومَ القيامةِ نخرجُ له كتاباً يلقاهُ منشوراً).

قال الحسنُ البصريُّ "ما من يومٍ ينشقُّ فجرُه إلا ويُنادي: يا ابنَ آدمَ أنا خلقٌ جديدٌ، وعلى عملِكَ شهيدٌ، فتزوّد منِّي فإنِّي لا أعود "

قال بلالُ بنُ سعدٍ : «عبادَ الرحمنِ: يُقالُ لأَحدِنا تحبُّ أَن تموتَ؟ فيقولُ: لا، فيُقالُ: لِمَ؟ فيقولُ: حتى أَعملَ، فيُقالُ له: اعمل، فيقولُ: سوفَ، فلا يُحبُّ أَن يموتَ، ولا يُحبُّ أَن يعملَ! وأَحَبُّ شيءٍ إِليه أَن يُؤخِّرَ عملَ اللَّـهِ ، ولا يُحبُّ أَن يُؤَخَّرَ عنه عَرَضُ دنياه» أ.هـ .

فيا يا عبدَ اللـهِ، استدرِكْ من العمُرِ ذاهبًا، ودع اللهوَ جانبًا، وقم في الدُّجى نادِبًا، وقف على البابِ تائبًا

(وتوبوا إلى اللـهِ جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) فأحسِن فيما بقي يُغفَر لك ما مضى، فإن أسأتَ فيما بقِي أُخِذت بما مضَى وبما بقي.

أيها المؤمنون: الصومُ في شهرِ اللـهِ المحرَّمِ عبادةٌ جليلةٌ وقربةٌ وفضيلةٌ، فعن أبي هريرةَ t أنَّ رسولَ اللـه r قال: أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ الصَّلَاةُ في جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللـهِ المُحَرَّمِ".م. فاستكثروا من الطاعاتِ ، وبادروا قبلَ الفواتِ .

اللهم اختم بالصالحاتِ أعمالنا وبالسعادةِ آجالنا ...اللهم اجعل خير أعمارِنا أخرها ...وخير أعمالِنا خواتمها.. وخيرَ أيامِنا يومَ نلقاكَ فيه.. ثم صلوا ...

المرفقات

1720644671_لمن أراد أن يذكر.pdf

1720644672_لمن أراد أن يذكر.docx

المشاهدات 713 | التعليقات 0