لمحات من سيرة الإمام البخاري (3)

[align=justify]لمحات من سيرة الإمام البخاري (3)
نعْمةٌ كبيرةٌ، ومِنَّةٌ عظيمةٌ أن يُذْكرَ الإنسان بالخير بين الناس، فلا يُذْكر اسمه إلا وتُذْكر محاسنه، والإمام البخاري -رحمه الله-، ممن تمتع بهذه النعمة في حياته، وبعد مماته، فقد مَنَّ اللهُ عليه بأن أعلى ذكره بين الناس، وحفظ الله به سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أيها المؤمنون، تنوعت عبارات العلماء في الثناء على الإمام البخاري، وتعددت كلماتهم في ذكر محاسنه، ومن جملة ما قيل في حقِّه، ما قاله الإمامُ الحافظُ الحُجَّةُ الحسينُ بنُ حُرَيْث -رحمه الله-: "لا أعلمُ أَنِّي رأيتُ مِثْلَ محمد بن إسماعيل، كأَنَّهُ لم يُخْلق إلا للحديث"([1]). الله أكبر! عبارة لها وزنها وثقلها، وخاصة أنها صدرت من شيخ من شيوخ الإمام البخاري([2])، فلا نعجب حين يصدر الثناء من تلميذ من تلاميذ الإمام البخاري، أو ممن يأتي بعدهم، ولكن العجب حين يأتي الثناء من الشيوخ! ولا أظن أنَّ الإمامَ الحسينَ بنَ حُريثٍ -فيما يظهر- قال عبارته عَبَثًا حين قالها، ولا مبالغةً حين صدع بها، بل قالها لنعلم وتعلم الأمة مكانة هذا الإمام، فهو بحق أمير المؤمنين في الحديث، ودرة الفقهاء في عصره.
إخوة الإيمان، لقد شغل العلم قلب وفكر الإمام البخاري، فهو يعيش مع الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة في ليله ونهاره، يَتَعَلَّم، ويُعَلِّم، ويقرأ، ويُحَقِّق، ويُنَقِّح، ومن هنا ندرك معنى (لم يُخْلق إلا للحديث)، وهذه سيرته العطرة خير شاهد على ما قاله شيخه الحسين، قال محمد بن يوسف البخاري: "كنتُ مع محمدِ بنِ إسماعيلَ بمنزله ذاتَ ليلةٍ، فأحصيتُ عليه أَنَّهُ قام وأَسْرج يَسْتذكرُ أشياءَ يُعَلِّقُهَا في ليلةٍ ثمانِ عَشْرةَ مرةَ"([3]). سبحان الله! الإنسان إذا فرغ من شغله يبحث عن فراشه ليرتاح، والإمام البخاري راحته في تحقيق العلم وتقييده. وهكذا يا عباد الله كان حاله في سفره الذي هو مظنة التعب والنصب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ، وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ)، متفق عليه([4])، ومعلوم أن سفر الأمس ليس كاليوم، فرغم عناء السفر كان الإمام البخاري لا يترك تقييد العلم، وقصة محمد بن أبي حاتمٍ الوَرَّاق مع الإمام البخاري تكشف لنا هذا المعنى، حيث سافر مع الإمام البخاري، وحكى عنه ما شهده فقال: "فكنت أراه يقوم في ليلةٍ واحدةٍ خمسَ عَشْرَةَ مرة إلى عشرين مرة، في كل ذلك يأخذُ القَدَّاحة، فيُوري نارًا، ويُسْرج، ثم يُخْرج أحاديثَ، فَيُعَلِّم عليها"([5]). أرأيتم همته، وإقباله على العلم! إن هذا الحرص، وهذه العناية لا يدرك أهميتها، ولا يعرف قيمتها إلا من وجد لذة العلم، وشعر بقيمته وأثره في حياته، فخير سهر الإنسان في تعلم العلم، وتقييده، وتحقيقه، لا بالاشتغال فيما لا نفع فيه، وخاصة في هذا العصر الذي انفتح فيه العالم انفتاحًا رهيبًا.
سَهَري لتنقيح العلوم ألذُّ لي .. من وَصْلِ غانيةٍ وطِيب عِنَاقِ
(لم يخلق إلا للحديث)، جملة تكشف للناس عناية الإمام البخاري بوحي السنة، فهو من المتخصصين البارعين في هذا المجال بلا نزاع، ولا أدل على هذا من سرعة إجاباته، ودقة عباراته، فهذا أحمد بن حمدون يقص خبر الإمام البخاري حين رآه في جنازة سعيد بن مروان، ومحمد بن يحيى الذُهْلي يسأله عن الأسامي والكنى لرواة الحديث النبوي الشريف وما في أخبارهم من العلل، والإمام البخاري يجيب عن أسئلته جواب العالم بلا تردد، ولا تلعثم، ويمر على أسئلته كالسهم كأنه يقرأ (قل هو الله أحد)([6]). فيا لله! أي موسوعية تحلى بها هذا الإمام! أيعقل أن هذه المتانة العلمية الشرعية جاءت في ليلة وضحاها! كلا والله، بل هو حصاد عمر، نتاج بذل، ولولا فضل الله على الإمام البخاري، وهمته، وحرصه، وجلده على التعلم، ما وصل إلى ما وصل إليه.
إخوة الإيمان، (لم يخلق إلا للحديث)، نعرف معناها، وندرك قيمتها حين قال الإمام البخاري -رحمه الله- كاشفًا عن سعة علمه، وقوة حفظه: "أَحْفَظُ مائةَ ألف حديث صحيح، وأحفظُ مائتي ألف حديث غير صحيح"([7]). ولا نفهم أنه يقصد من كلامه حفظ المتون فقط، بل كان يحفظ المتون بأسانيدها إلى النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويعرف حال رواتها بالتفصيل، وما اشتملت عليه أخبارهم من العلل، وهذه المعرفة القوية ظهرت من تسليم شيوخه له في هذا المجال، ودونكم طرفًا منها: قال إبراهيم بن محمد بن سلام: "كان الرتوت([8]) من أصحاب الحديث مثل: سعيد بن أبي مريم، وحَجَّاج بن مِنْهَال، وإسماعيل بن أبي أُوَيْس, والحُمَيْدي، ونُعَيْم بن حَمَّاد، والعَدَني، يعني: محمد بن يحيى بن أبي عمر، والخَلَّال، يعني: الحسن بن علي الحُلْواني، ومحمد بن ميمون، هو: الخَيَّاط، وإبراهيم بن المنذر، وأبي كُرَيْبٍ محمد بن العلاء، وأبي سعيد عبد الله بن سعيد الأَشَجِّ، وإبراهيم بن موسى، هو: الفَرَّاء، كلهم كانوا يهابون محمد بن إسماعيل، ويقضون له على أنفسهم في النظر والمعرفة"([9]). فهؤلاء العلماء الكبار يسلمون للإمام البخاري. وهذا شيخه الإمام الجليل طبيب الحديث في علله علي ابن المديني، والذي قال عنه البخاري: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي ابن المديني ..."([10])، ومع هذا فقد كان شيخه ابن المديني يهابه في مجلس الحديث إذا حدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فتح بن نوح النَّيْسَابوري: "أتيت علي ابن المديني، فرأيتُ محمد بن إسماعيل جالسًا عن يمينه، وكان إذا حَدَّثَ التفت إليه كأنَّه يهابَهُ"([11]). وقال الإمام البخاري: "كان علي ابن المديني يسألني عن شيوخ خُرَاسان، فكنت أذكر له محمد بن سلام فلا يعرفه إلى أن قال لي يومًا: يا أبا عبد الله، كل من أثنيت عليه فهو عندنا الرِّضى"([12]).
والله لا أدري ما أذكر وما أدع من الدلائل الدالة على براعة هذا الإمام في علم الحديث، وصدق من قال: (كأَنَّهُ لم يُخْلق إلا للحديث)؟! ماذا أقول بعد هذه المواقف؟! وقد سمعنا طرفًا من ثناء شيوخه الدال على علو كعب الإمام البخاري في علم الحديث النبوي الشريف، ولو أخذت في عرض ثناء العلماء عليه من المتقدمين، والمتأخرين لانتهت الأوراق، وما انتهى الثناء عليه، وما أحسن ما قاله الحاكم أبو أحمد عنه: "كان أحد الأئمة في معرفة الحديث وجمعه، ولو قلت أني لم أر تصنيفَ أحدٍ يُشْبِه تصنيفه في الحُسْن والمبالغة لفعلت، ولو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفَنِيَ القِرْطاس، ونَفَدت الأنفاس، فذاك بَحْرٌ لا ساحل له"([13]). فرحم الله الإمام البخاري، وأعلى درجته، وأجزل مثوبته.
عباد الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، وقد أفلح المستغفرون.
الخطبة الثانية:
لقد بلغ حب الناس للإمام البخاري مبلغًا كبيرًا؛ لدرجة أنهم يخشون عليه من الموت، ويتمنى أحدهم أن يمنحه من عمره؛ كي يمنح العلم للناس كما قال يحيى بن جعفر: "لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من عمري لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموته ذهاب العلم".
وصدق، فقد روى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ؛ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)، متفق عليه([14]). ومما يدل على خشية الناس على الإمام البخاري، ما كتبه له أهل بغداد قائلين:
"الـمُسْلِمُونُ بـِخَيْرٍ مَا بَقِيتَ لَهُم .. وليسَ بَعْدكَ خَيْرٌ حِينَ تُفْتَقَدُ"([15]).
ولقد رُزئت الأمة بموته، وفُجعت بفقده، ومات -رحمه الله- بعد حياة طويلة من البذل، والعطاء، والعلم، وكانت وفاته -رحمه الله وتغمده بواسع رحمته- في ليلة عيد الفطر سنة ستٍّ وخمسين ومائتين، ليلة السبت عند صلاة العشاء بـِخَرْتَنْك([16])، ودفن بها، وفاح من قبره رائحة أطيب من ريح المسك، ودام أيامًا، فرحمه الله رحمة واسعة.
مضى الإمام البخاري، وانتقل إلى الدار الآخرة بعدما ترك بصمته في الحياة، مات الإمام البخاري بعد عمر طويل قضاه في خدمة الدين، وحفظ السنة، مات الإمام البخاري وقد ترك للأمة تراثًا عظيمًا حافلًا، ومن أهم ما ترك، وأنفس ما نشر، كتابه الجامع الصحيح الذي حُقَّ أن يُكْتبَ بماء الذهب، فقد اجتهد في تصنيفه اجتهادًا عظيمًا، وانتقى أحاديثه من بين ست مائة ألف حديث، وما ترك من الصحاح أكثر، فمن كل هذا الكم كان -رحمه الله- ينتقي، ويدون ما ينتقيه في كتابه، وذلك في مدة غير يسيرة، حيث مكث يجمع كتابه في ست عشرة سنة، وجعله حجة فيما بينه وبين الله، فما وضع حديثًا في كتابه إلا بعد الاغتسال، والاستخارة بصلاة ركعتين، وقد اتفق العلماء على أنَّ أصحَّ الكتب بعد كتاب الله: صحيح الإمام البخاري([17]).
(صَحِيْحُ البُخَـــارِيِّ) لَو أَنْصَفُوهُ .. لَمَا خُطَّ إِلاَّ بمَاءِ الذَّهَــــــبْ
هُوَ الفَرقُ بَينَ الهُدَى وَالعمَى .. هُوَ السَّدُّ بَينَ الفَتَى وَالعَطَــــبْ
أَسَانِيـــــدُ مِثْـــــلُ نُجُــــومِ السَّمَـــــاءِ .. أَمَــــــامَ مُتُوْنٍ كَمِثْـلِ الشُّهُبْ
بِهِ قَـــــــــــامَ مِيزَانُ دِينِ الرَّسُـــــــــولِ .. وَدَانَ بِهِ العُجْــمُ بَعْدَ العَرَبْ
هذه يا عباد الله لمحات يسيرات، وإشارات سريعات من لطيف أخباره وسيرته العطرة، وما تركته من أخباره أكثر، فرحمه الله تعالى، وجمعنا به في جناته جنات النعيم.
عباد الله، صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). [الأحزاب:56].



([1]) هدي الساري، لابن حجر 484.

([2]) ينظر: تقريب التهذيب، لابن حجر 166، رقم (1314).

([3]) سير أعلام النبلاء، للذهبي 12/404.

([4]) صحيح البخاري، رقم (1804)، صحيح مسلم (1927)، وهذا لفظ البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([5]) سير أعلام النبلاء، للذهبي 12/404.

([6]) ينظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي 12/432.

([7]) سير أعلام النبلاء، للذهبي 12/415.

([8]) قال ابن حجر في هدي الساري: "قلت: الرتوت: بالراء المهملة، والتاء المثناة من فوق، وبعد الواو مثناة أخرى، هم: الرؤساء".

([9]) هدي الساري، ابن حجر ص482.

([10]) تاريخ بغداد، الخطيب ج2/ص337، هدي الساري، ابن حجر ص483.

([11]) تاريخ بغداد، الخطيب ج2/ص338، هدي الساري، ابن حجر ص483.

([12]) تاريخ بغداد، الخطيب ج2/ص337، هدي الساري، ابن حجر ص483.

([13]) هدي الساري، ابن حجر ص482.

([14]) صحيح البخاري (100)، وصحيح مسلم رقم (2673)، وهذا لفظ البخاري.

([15]) تاريخ بغداد، الخطيب ج2/ص343.

([16]) قال الحموي في معجم البلدان ج2/ص356: "بفتح أوله، وتسكين ثانيه، وفتح التاء المثناة من فوق، ونون ساكنة، وكاف، قرية بينها وبين سمرقند ثلاثة فراسخ"، وتقع اليوم في دولة أوزبكستان.

([17]) ينظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، النووي، ج1/ص14، هدي الساري، ابن حجر ص10، ص489.[/align]
المرفقات

لمحات من سيرة الإمام البخاري3.docx

لمحات من سيرة الإمام البخاري3.docx

المشاهدات 1304 | التعليقات 0