لمحات من سيرة الإمام البخاري (2)

[align=justify]لمحات من سيرة الإمام البخاري (2)
سبق الحديث في الجمعة الماضية عن الإمام البخاري، فعرَّفْتُ به، وذكرت طرفًا من سيرة والديه، وكيف كان شغفه بتعلم العلم، وحرصه عليه. وهاهو الحديث يتواصل لعرض صفحات سيرته النيرة، وبيان مناقبه الخيرة في لمحات يسيرة، وإشارات سريعة، نتعلم منها، وننتفع بها في حياتنا العملية.
إخوة الإيمان، لقد كان الإمام البخاري -رحمه الله- شيخًا نحيف الجسم، ليس بالقصير ولا بالطويل، وكان -رحمه الله تعالى- ممن فتح الله عليهم فتحًا عظيمًا في التعبد لله جلَّ جلاله، فقد رويت عنه أخبار عظيمة أعجب والله من حالها، ويحار فكري في وصفها، وتعجز حروفي في نظم روعتها، ودونكم يا عباد الله حاله مع القرآن، وخاصة في شهر رمضان حيث كان يختم في نهاره ختمة، وإذا أرخى الليل سدوله قام يصلى تراويحه وقيامه فما تمر عليه ثلاث ليال إلا وقد ختم فيها!
هذه همة من أدرك قيمة الأوقات، وعزيمة من استشعر أهمية الطاعات، وخاصة في مواسم الخيرات، فهاهو الإمام البخاري يعيش مع القرآن في ليله ونهاره وكأنه يقول لنا: اغتنموا الأيام في صحتكم وقوتكم، ولا تتركوا الأوقات تضيع هدرًا فتندموا عليها، فاليوم إذا مضى، مضى وهو شاهد عليكم بأعمالكم، وغدًا تحصدوا ما جنيتم.
مضى أمسُكَ الماضي شهيدًا مُعَدَّلًا .. وأعقبَهُ يومٌ عليك جديدُ
فإن كنت اقترفتَ بالأمسِ إساءةً .. فَثَنِّ بإحسانٍ وأنت حميــــدُ
فيومُكَ إنْ أَغْنَيْتَهُ عادَ نَفْعُهُ ..عليكَ، وماضي الأمسِ ليسَ يعودُ
وهاهو الإمام البخاري يضرب لنا صورة رائعة، ومشهدًا جليلًا في خشوعه لربه، وإليكم خبره حين دُعي -رحمه الله- إلى بستان بعض أصحابه، فلما صلى بالقوم الظهر، قام يتطوع لله تبارك وتعالى، فلما فرغ من صلاته، رفع ذيل قميصه، فقال لبعض من معه: انظر، هل ترى تحت قميصي شيئًا؟ فإذا زنبورٌ قد أَبَرَهُ في ستةَ عشرَ أو سبعةَ عشرَ موضعًا، وقد تورم من ذلك جسدُهُ. فقال له بعض القوم: كيف لم تخرج من الصلاة أول ما أَبَرَكَ؟! قال: كنت في سورة فأحببت أن أُتمها.
أرأيتم خشوعه! وحسن تطوعه لربه! لقد هان عليه الأذى للذة ما وجد من طاعة ربه، فهو متصل بخالقه، متلذذ بمناجاته، وما أحب أن يقطع هذه المناجاة حتى يتمها، فأي همة هذه؟! أي قلب يحمل؟! هنيئًا لك يا ابن إسماعيل خشوعك لربك، هنيئًا لك ما مُتعت به، فهذا والله هو الفلاح، (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون:1، 2]، هنيئًا لك هذا الحضور لقلبك حين جعلت الصلاة قرة عينك اقتداء بنبيك صلى الله عليه وسلم، روى أنس رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ).
أيها المؤمنون: ومن لمحات سيرته العطرة، ما جاء عن كرمه، وسخائه، فقد كان الإمام البخاري كريمًا سخيًا، يتصدق بالكثير؛ لعلمه أنه مخلوف عليه، فقد روى في صحيحه بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا). فكان -رحمه الله- إذا جاءه صاحب الحاجة ليأخذ بيده، لا يرده إلا بحاجته، يقوم -رحمه الله- بهذا العمل سرًا لا يعلم به أحد، ولا يرجو بفعله إلا الواحد الأحد، أعطى -رحمه الله- رجلًا ثلاث مائة درهم، فأراد الرجلُ أنْ يدعوَ، فقال له الإمامُ البخاريُّ: ارفق، واشتغل بحديث آخر كيلا يعلمَ بذلك أحدٌ.
يحرص على الخفاء تطبيقًا لما علمه من كتاب ربنا حيث قال: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [البقرة:271]، واستجابةً لتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم، ورغبةً في ظل عرش الرحمن يوم القيامة، فقد روى -رحمه الله- في صحيحه بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ).
هكذا يا عباد الله ينبغي أن يكون الإنسان في ماله، ينفقه في وجوه الخير، فلا يبخل، ولا يمسك بماله؛ لظنه أن المال له، وليس كذلك بل المال لك يوم تنفقه، ورحم الله القائل:
جَمَعْتَ مالًا، فقلْ لي: هل جَمَعَتَ .. له يا غافلَ اللُّبِّ أيَّامًا تُفَرِّقُهْ؟!
المــالُ عِنْــدكَ مَخْـزونٌ لوارثـِـــهِ .. مــا المالُ مالُكَ إلا يــومَ تُنْفِقُهْ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بسنة سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، وقد أفلح المستغفرون.
الخطبة الثانية:
أما بعد: هاهي السيرة الحافلة لهذا الإمام الجبل تنتقل بنا إلى جانب لطيف من جوانب حياته، حيث تنقل لنا عفة لسانه، وإمساكه عن كل ما لا فائدة منه، وهذا والله من ورعه، وعلمه بربه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتعالوا لنلقي الضوء على كلامه في الغيبة، وما أدراكم ما الغيبة، جامعة كل مصيبة، لعلَّ القلوب تتحرك، والأغلال تفكك، يقول -رحمه الله-: "ما اغتبتُ أحدًا قَطُّ مُنْذُ علمتُ أنَّ الغيبةَ تضرُ أهلَهَا".
إنه الوقوف عند حدود الله، إنها الخشية من الله، وهكذا هم العلماء، يقفون عند حدود الله فيما أمر، ولا يأتون ما نهى الله عنه وزجر، (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر:28].
وهذا الكلام الذي ذكره الإمام البخاري نتعلم منه أن نُطَبِّقَ ما نَتَعَلَّم، وما نُعَلِّم، وهكذا كان -رحمه الله- يُطَبِّقُ ما تعلم، وما يُعَلِّمه وينشره بين الناس، فلا تخالف بين كلامه، وفعله، ويدل عليه ما ذكر في جامعه الصحيح: "باب عذاب القبر من الغِيبة والبول"، وقال في موضع آخر من كتابه الصحيح: "باب الغِيبة"، وساق بعدها الآية الكريمة، (وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات: 12]، ثم أورد الحديث بسنده عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَالَ: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا هَذَا: فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَأَمَّا هَذَا: فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ)، ثُمَّ دَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ بِاثْنَيْنِ، فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا، وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا، ثُمَّ قَالَ: (لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا).
ولكثرة انشغال الإمام البخاري بعلم الحديث النبوي الشريف، وتفنيده الصحيح من الضعيف، وكلامه في علل الحديث، والرجال الذين نقلوا لنا السنة، خشي -رحمه الله- أن يُحاسبَهُ اللهُ تعالى على كلامه في الرجال بقصد الدفاع عن سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد كان -رحمه الله- يحتاط احتياطًا شديدًا، ويتورع تورعًا كبيرًا في انتقاء ألفاظه، وعباراته في الجرح والتعديل؛ ولشدة توقيه، وصفه علماء الحديث بأنه من الأئمة المعتدلين في الجرح والتعديل، قال -رحمه الله-: "أرجو أنْ ألقى اللهَ ولا يحاسبني أنِّي اغتبتُ أحدًا".
قال الإمام الذهبي معلقًا تعليقًا نفيسًا على كلامه: "قلت: صدق -رحمه الله- ومن نَظَرَ فى كلامه في الجرح والتعديل، عَلِمَ ورعَهُ في الكلام في الناس، وإنصافَهُ فيمن يُضَعِّفُهُ، فإنَّهُ أكثرَ ما يقولُ: مُنْكَرُ الحديث، سَكَتوا عنه، فيه نَظَرٌ، ونحو هذا. وقَلَّ أن يقول: فُلانٌ كَذَّابٌ، أو كان يضعُ الحديث؛ حتى إنه قال: إذا قلت: فُلانٌ في حديثه نَظَرٌ، فهو مُتَّهَمٌ واهٍ، وهذا معنى قولِهِ: لا يُحاسِبُنِي اللهُ أني اغتبتُ أحدًا، وهذا هو واللهِ غايةُ الورع". أ.ه.
رَحِمَ اللهُ الإمامَ البخاريَّ، وأَجْزَلَ له المثوبة، ورفعَ قدرَهُ في الدارين، وللحديث بقية تأتي في الخطبة القادمة -إن شاء الله- إن أمدَّ اللهُ في العمر، وفَسَحَ في الأجل.
عباد الله، صلوا وسلموا على السراج المنير، والهادي البشير كما أمركم ربكم فقال عزَّ من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].[/align]
المرفقات

لمحات من سيرة الإمام البخاري2.docx

لمحات من سيرة الإمام البخاري2.docx

المشاهدات 1045 | التعليقات 0