لماذا العراق أخطر بلد في العالم؟ شريف عبد العزيز
مازن النجاشي-عضو الفريق العلمي
1431/07/19 - 2010/07/01 18:21PM
لماذا العراق أخطر بلد في العالم؟
شريف عبد العزيز
هذا ما خلصت إليه الدراسة المستفيضة التي أجراها معهد الاقتصاد والسلام العالمي ومقره في سيدني باستراليا ، وهو المعهد الدولي المختص بقياس السلام والاستقرار في دول العالم بأسره ، وقد وضع 23 معيارا لتحديد درجة استقرار الدولة المناط تقييم درجة استقرارها داخليا وخارجيا ، وبالطبع هذه الدراسة لم يشرف علي إعدادها عربي ولا مسلم واحد حتى لا يبادر أذناب إيران وأمريكا في العراق برفع عقيرتهم بأن الدراسة منحازة وتستهدف تشويه الانجازات العراقية في فترة ما بعد صدام ، فالدراسة محض غربية ، ولها طابع الدولية ولم تكن مختصة بالعراق وحده بل شملت مائة وخمسين دولة ، تربعت فيها نيوزيلندا قائمة الدول الأكثر استقرارا ، في حين تذيلت العراق القائمة كأخطر بقعة علي وجه الأرض وأكثرها اضطراباً .
طبعا ناهبو العراق من تحالف الطائفيين والشعوبيين والإيرانيين والأمريكان وغيرهم لم يعجبه وصف العراق الجديد بهذه الأوصاف التي تهيل التراب علي الدعايات الإعلامية الكاذبة عن تحسن الأوضاع الأمنية في العراق ونجاح النظم الديمقراطية فيه وتحسن الأحوال المعيشية بعد رحيل عصر صدام ، هذا هو المدعو عبد الحليم الرهيمي الناطق الرسمي باسم لجان المصالحة الوطنية في مجلس الوزراء العراق يضف التقرير بالمنحاز والمفتقر للدقة والمصداقية ـ عجيب يستخدم نفس عبارات الناطق باسم البيت الأبيض عند تبريره لأي جريمة أمريكية علي أرض عربية أو إسلامية ــ ويتهم المعهد الدولي بالعمل ضد العراق إلي آخر الاتهامات المعروفة سلفا ضد أي تقرير أو دراسة تكشف جزء من واقع العراق الجديد المليء بالرعب والفزع والخراب
التقرير بالطبع قد اعتمد فيما توصل إليه من نتائج علي العديد من المعايير والمؤشرات والتي أجابت بمنتهي الحيادية عن سر كون العراق أخطر بلاد العالم
فلماذا العراق أخطر بلاد العالم ؟؟
أمن مفقود وقتلي وجرحي بالملايين
هذا وهو حصاد سبع سنوات من الاحتلال الأمريكي والتدخل الإيراني ، نعم لقد ضرب العراق الأرقام القياسية كلها في عدد القتلى و الجرحى ، وبلغ عدد من سقط في العام الأول وحده قرابة المليون عراقي من جراء العمليات الحربية ، علي الرغم من أن التحالف الصليبي الذي يقوده الأمريكان قد جاء لاحتلال العراق تحت مسميات براقة مثل تحرير البلاد ، وإزالة أسلحة الدمار الشامل ، ونشر الديمقراطية ، ووقف التوتر في المنطقة ، وتحقيق السلام والأمان للعراقيين وجيرانهم من خطر التهديدات الصدامية ، ورغم كل هذه الأباطيل والدعايات الكاذبة والتي أخذت الأيام تكشف عن زورها وضلالها ،رغم ذلك كله فإن أكثر ما فقده العراق بعد الاحتلال هو الأمن والاستقرار ، فالعراقي لا يأمن علي نفسه أن يخرج إلي شئونه اليومية العادية ، فقد يقنصه أمريكي مخمور لعبا ولهوا ، أو تنسفه قنبلة موقوتة وضعت لتصفية حسابات ، أو تحتجزه دورية وهمية من لصوص الداخلية أو قتلة المالكي لتأخذ ما معه من أموال ومتاع ، وتقتله دون أن يطرف لهم جفن ، أو تفترسه ذئاب المليشيات الطائفية التي تجوب الشوارع العراقية بحثا عن ضحاياها الذين تقتلهم علي الهوية والانتماء الديني .
ففي عراق اليوم الجديد ، الأمن منعدم تماما للمواطن العراقي ، فالأمن والسلامة قاصر علي الأمريكان ومن والهم ، والإيرانيون ومن دار معهم ، فقد قال دانييال أندريس ممثل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون النازحين عن بلادهم " على الحكومة في العراق العمل على تطبيق معايير حقوق الإنسان واتخاذ خطوات أكثر نحو تنفيذ سيادة القانون، وبغير هذه المعايير فنحن الآن لا نشجع العودة غير الطوعية للنازحين".
وأوضح أندريس أن" مجموع العائدين إلى العراق من المهجرين بلغ 340 ألف نازح ، من مجموع أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون مهجر ".
وبين أن" العراق يعد الدولة الأخطر من بين دول العالم للعاملين في مجال المساعدة الإنسانية "
ففي العراق الجديد لقوات الأمن والدرك الوطني والداخلية أهداف ومهام أبعد ما تكون عن الحفاظ علي أمن المواطن العراقي ، وقد يكون هذا طبيعيا ومبررا في ظل الاحتلال الذي يحرص علي بقاء قوات الأمن موالية له وتحقق أغراضه ، ولكن الذي قد لا نفهمه هذا الانحراف والفساد واسع النطاق الذي تعج به قوات الأمن ، والذي أصبحت رائحته تزكم الأنوف ، وأكبر من أن تخطئها عين رجل الشارع العادي ، مما جعل مراكز تجنيد قوات الشرطة هدفا مفضلا ومستديما لعمليات هجوم تفجيرية انتقامية من الجرائم المروعة التي تقوم بها قوات الشرطة والحرس الوطني .
فساد بأرقام قياسية
الفساد مشكلة تعاني منها دول المنطقة كلها وبنسب متفاوتة، بل هي مشكلة المشاكل التي كانت من أهم أسباب تخلف المنطقة وضعف أدائها الاقتصادي ، ولكن الوضع في العراق يختلف كثيرا ، فالفساد العراقي متفرد في نوعه ، فساد ليس له نظير في العالم بأسره ، فالنظام العراقي من أعلاه لأدناه ينخر فيه الفساد ، فالمنظمة العالمية للشفافية ولخمسة أعوام علي التوالي، صنفت العراق ضمن الدول الثلاث الأكثر فسادا من بين حوالي 180 دولة، وقال ديفيد نوسبوم، المدير التنفيذي لـ "منظمة الشفافية الدولية" إن التقارير تشير إلي أن الفساد في العراق متفاقم بصورة غير معقولة .
وعندما ينهار الأمن تنهار معه أشياء كثيرة ، مثل المراقبة والمحاسبة والتوازنات، وتطبيق القانون، وعمل المؤسسات، مثل السلطة القضائية والتشريعية ، إذ أن الجميع يتعرضون للضغط، ويتضرر النظام بدوره الذي يفترض فيه أنه يعمل علي منع الفساد، فبعد أكثر من ست سنوات علي جريمة غزو العراق، وتنصيب حكومات تتصف بكل الصفات إلا صفة (العراقية) والعمل لصالح الوطن ، فحكام العراق مستعجلون بجني المغانم والمكاسب قبل فوات الأوان، وبهذا انتشر الفساد ودب في جميع مفاصل الدولة، وشجع عليه احتلال فاسد باشر الفساد حتى قبل أن يبدأ باحتلال العراق من خلال العقود الخيالية التي نالتها شركات أمريكية محددة (هاليبورن مثلا!) لقاء عقود إعادة إعمار العراق وقبل البدء بتدمير العراق!! ثم جاءت سلطة الائتلاف البريمرية التي حكمت العراق حوالي العامين بكل مفاسدها من الرأس حتى الذيل، حتى بلغ مجموع الاختلاسات المنسوبة لبول بريمر وسلطته سيئة الصيت (الثمانية مليارات دولار)، وانتشرت جرائم النهب والسلب والاحتيال والرشاوى ، وانتهاك القوانين وإفساد الذمم واستباحة المال العام وتوزيع الأسلاب علي الأقارب والأصدقاء، بشكل لم تشهد المنطقة والعالم مثيلاً له ، القاضي موسي فرج نائب رئيس هيئة النزاهة كشف مؤخرا بأن خسائر العراق منذ الغزو؛ نتيجة الفساد الإداري والمالي بلغت 250 بليون دولار .واعتُبر الأمانة العامة لمجلس الوزراء هي "البؤرة الأخطر للفساد"، وقال أن العراق خسر خلال هذه الفترة 45 بليون دولار من تهريب النفط الخام الذي تسيطر عليه أحزاب طائفية في الجنوب، ولفت إلي أن السنوات الخمس الماضية لم تشهد تشييد مصفاة واحدة، علي رغم العروض المغرية التي قدمتها شركات عالمية لإنشاء مثل هذه المشاريع ولمدد تتراوح بين السنة والستة أشهر. وتابع أن ما بقي من الـ250 بليون دولار، أهدرها الفساد في الوزارات والمؤسسات الأخرى .في 18/ 12/ 2008 نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تحقيقاً واسعاً، عن الفساد في العراق، نقلا عن نائب رئيس النزاهة قال فيه: إن العراق يغرق في الفساد والرشوة، وأن كل شيء تقريباً تشتريه الدولة أو تبيعه، من أدوية ومستلزمات حكومية، يمكن الحصول عليه من السوق السوداء. وإن وزارة الدفاع احتلت المرتبة المتقدمة في الفساد المالي والإداري، خصوصاً في عقود التسليح بما فيها شراء طائرات عمودية قديمة غير صالحة للعمل، وبنادق قديمة مصبوغة رفضتها اللجنة العراقية وفرضتها الشركة الأمريكية المصنعة، واستيراد آليات من دول أوروبا الشرقية بنوعيات رديئة". وأضاف أن الأدهى من كل ذلك سعي الوزارة إلي الاحتماء وفرض السرية علي ملفاتها، والامتناع عن تسليمها إلي هيئة النزاهة"، بعدما حظيت بموافقة رئيس الوزراء بمنع محققي الهيئة من الحصول علي نسخ الملفات ذات العلاقة بالفساد أو تصوير أية وثائق تخص الوزارة، علي رغم وجود أوامر قضائية بالإطلاع عليها ، وفي صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية يوم 8/ 5/ 2009 نشرت تقريرا عن الفساد المنتشر بشكل كبير في العراق والذي أضحي عائقا كبيرا أمام الاستقرار والتقدم في البلاد نقلا عن مسئولين في لجنة النزاهة العراقية أن من المعوقات التي تواجههم هي السلطات التي يتمتع فيها الوزراء بالعفو عن الفاعلين، إضافة للتدخلات الحزبية والطائفية والتدخل والضغوط والاحتراب الداخلي والانتقام والابتزاز والتهديدات بالقتل. ونقلت الصحيفة عن المفوض العام للجنة النزاهة العامة رحيم العقيلي أن سبب الفساد الفظيع في العراق هو اعتقاد الفاسدين إنهم محصنون من المحاكمة من خلال الحماية التي توفرها لهم أحزابهم السياسية والطوائف ، وما قيل عن وزارة الدفاع يسري علي باقي الوزارات دون استثناء .
طائفية بطعم العرقية والفدرالية والدم
في العراق أصبح كل شيء ، وأي شيء مطعم بالنكهة الطائفية ، فلا صوت يعلو فوق صوت الطائفية ، وجني الطائفية الذي ظل محبوسا في قمقمه طوال حكم صدام حسين ، وجد طريقه للخروج مرة آخري مع قدوم العدو الأمريكي الذي كان من أهم أدواته للسيطرة والهيمنة علي بلاد العراق ، هو جني الطائفية الذي كان له صولات وجولات لا تنسي عبر التاريخ في بلاد العراق ، والتي كانت مسرحا عالميا للصراعات بين قطبي رحى الطائفية ــ السنة والشيعة ــ منذ مطلع التاريخ الإسلامي ، وحتى وقتنا الحاضر ،فقد خلصت دراسة نشرتها مجلة "نيو إنجلاند جورنال أوف ميدسين" الطبية إلى أن السبب الرئيسي في موت المدنيين العراقيين هو أعمال القتل "الطائفية"، وليس بسبب التفجيرات والهجمات التي تستأثر باهتمام وسائل الإعلام ، وتطرقت الدراسة التي نشرتها المجلة إلى الطابع الطائفي للنزاع في العراق، إذ إن فرق الموت المنتمية إلى طوائف الشيعة تطوف الشوارع بحثا عن أعضاء من الطائفة السنية
ورغم أن مؤلفي الدراسة يسلمون بأن البيانات المتاحة غير شاملة، فإنها تقدم مؤشرا يمكن الاعتماد عليه لقياس كيفية موت العراقيين خلال السنوات الست الماضية منذ احتلال بلادهم.
وتقدم الدراسة أدلة إضافية على عمليات التطهير الطائفي الوحشية وما تبعها من أعمال عنف انتقامي وقد دفعت العراق إلى حافة الحرب الأهلية،
وأكد أحد مؤلفي الدراسة، ويدعى "مايكل سباجات" ، أن العديد من عمليات القتل "الطائفية" يسبقها التعذيب، في محاولة لإجلاء السكان من منازلهم في الأحياء المحسوبة على طائفة معينة على أمل بث الرعب في القلوب ، وتغطي الدراسة الفترة الممتدة من 20 مارس 2003 إلى 19 مارس 2008، وذكرت الدراسة أن 91 ألفا و 358 عراقيا قتلوا حسب منظمة إحصاء القتلى في العراق ، ورغم أن الدراسة لم تحمّل جهة معينة مسؤولية القتل، فإن الأدلة تشير إلى أن فرق الموت التابعة للميليشيات الشيعية المدعومة من حكومة المالكي الطائفية ومن إيران تقف وراء معظم عمليات القتل التي يشكل العرب السنة أغلبية ضحاياها، حتى إن أحياء بالكامل في بغداد كانت تغص بهم أصبحت شيعية خالصة أو خلت تماما من سكانها الأصليين ، ويبقي الإشارة إلي حقيقة مروعة في هذه الدراسة الجدية وهي أن واضعي الدراسة قالوا : إن من الوارد أن يكون عدد الذين قتلوا على طريقة الإعدامات أعلى من الأرقام المتوافرة لأنها لا تشمل الأرقام التي توفرها مشارح العراق.
ولم تشمل الدراسة إحصائيات المشارح لأنها -أي الدراسة- لم تستطع تحديد الطرق المتبعة في قتل بعض الأشخاص ، كما أن الدراسة لم تشمل عدد القتلى في صفوف المفقودين.
وإن كان العدوان الأمريكي قد أوقع في العام الأول من الحرب علي العراق مئات الآلاف من العراقيين الأبرياء ، فإن من أوقعتهم سواطير ومناشير ومثاقيب جيش المهدي أو فيلق بدر أو مليشيات الجعفري ثم المالكي أضعاف هذا العدد وبطريقة أشد بشاعة وفظاعة .
الطائفية هي أسوأ كوابيس استقرار وأمن أي دولة ، وأساس خراب وتشرذم أي مجتمع ، وما حدث في بروندي ورواندا في تسعينيات القرن الماضي خير شاهد علي عواقب الطائفية بعد أن سقط قرابة الخمسة ملايين صرعي القتال الطائفي بين عرقية الهوتو والتوتسي ، كما أن الطائفية هي إفشال مستمر ومزمن لجهود الإنقاذ ، فالطائفية الآن تقف حجر عثرة علي طريق تشكيل حكومة عراقية وطنية ومخلصة تعمل من أجل العراق ، والساسة العراقيون منغمسون في الطائفية ، فهي عقلهم وقلبهم وقطب أفكارهم ، ودينهم الذي يدينون به ، الطائفية الآن قد جعلت من العراق أخطر بقعة علي وجه الأرض ، فالعراقي الآن يقتل علي الهوية بلا جريرة أو ذنب ، قد يقتل لأن اسمه عمر أو عثمان أو طلحة أو غير ذلك ، أو يقتل لأنه يسكن في حي سني أو ينتسب لعشيرة سنية .
والتاريخ يشهد علي حقيقة في غاية الأهمية ، وهي أن جني الطائفية لا يظهر في بلاد العراق إلا وقت قدوم الاحتلال وسيطرة قوي خارجية علي مقدرات الشعب العراقي ، والأمريكان أيقنوا ذلك منذ الوهلة الأولي فتحالفوا مع الشيعة ضد السنة ، والآن تريد أمريكا بعث مشروع الهلال أو القوس الشيعي ، وليس ذلك قطعاً لمصلحة الشيعة، بل لاستخدامهم لمصلحتها، وخاصة للقضاء على المقاومة العراقية التي تصنفها أمريكا بأنها سنية،وإن إصرار المحتل منذ الأيام الأولى على إبراز مصطلحات لم تكن معروفة مثل المثلث السني أو المقاومة السنية دليل على استهداف أهل السنة بالعداوة .
الطائفية الآن تدفع بالعراق إلي حافة الانتحار الوطني ، حيث تتعالي مطالب الشيعة نحو تقسيم العرق إلي ثلاث كيانات علي أساس طائفي عرقي ديني ، واحد للشيعة في الجنوب والوسط ، وثاني للسنة في الوسط ، وثالث للأكراد في الشمال ، ويصبح العراق الكبير ، ثلاث دويلات مثل حال الأندلس عندما سقطت الدولة الأموية فيه سنة 422 هجرية ، وحلت مكانها اثني وعشرون دويلة علي أساس طائفي أيضا ، بين العرب والبربر والصقالبة ، وفكان عصر ملوك الطوائف وهو العصر الأسوأ في تاريخ الأندلس المجيد .
وفي الدراسة أسباب آخري كثيرة تعرضت لها الدراسة ولكن الذي نريد أن نقوله ، أن هذا البلد كان آمنا مطمئنا فترة طويلة من الزمان ، ولكنه اليوم ربما يكون أخطر مما وصفته الدراسة ، لأن القنبلة العراقية التي علي وشك انفجار ستتطاير شظاياها مصيبة ليس العراقيين فحسب ولكن المنطقة بأسرها .
المصدر: مفكرة الإسلام
شريف عبد العزيز
هذا ما خلصت إليه الدراسة المستفيضة التي أجراها معهد الاقتصاد والسلام العالمي ومقره في سيدني باستراليا ، وهو المعهد الدولي المختص بقياس السلام والاستقرار في دول العالم بأسره ، وقد وضع 23 معيارا لتحديد درجة استقرار الدولة المناط تقييم درجة استقرارها داخليا وخارجيا ، وبالطبع هذه الدراسة لم يشرف علي إعدادها عربي ولا مسلم واحد حتى لا يبادر أذناب إيران وأمريكا في العراق برفع عقيرتهم بأن الدراسة منحازة وتستهدف تشويه الانجازات العراقية في فترة ما بعد صدام ، فالدراسة محض غربية ، ولها طابع الدولية ولم تكن مختصة بالعراق وحده بل شملت مائة وخمسين دولة ، تربعت فيها نيوزيلندا قائمة الدول الأكثر استقرارا ، في حين تذيلت العراق القائمة كأخطر بقعة علي وجه الأرض وأكثرها اضطراباً .
طبعا ناهبو العراق من تحالف الطائفيين والشعوبيين والإيرانيين والأمريكان وغيرهم لم يعجبه وصف العراق الجديد بهذه الأوصاف التي تهيل التراب علي الدعايات الإعلامية الكاذبة عن تحسن الأوضاع الأمنية في العراق ونجاح النظم الديمقراطية فيه وتحسن الأحوال المعيشية بعد رحيل عصر صدام ، هذا هو المدعو عبد الحليم الرهيمي الناطق الرسمي باسم لجان المصالحة الوطنية في مجلس الوزراء العراق يضف التقرير بالمنحاز والمفتقر للدقة والمصداقية ـ عجيب يستخدم نفس عبارات الناطق باسم البيت الأبيض عند تبريره لأي جريمة أمريكية علي أرض عربية أو إسلامية ــ ويتهم المعهد الدولي بالعمل ضد العراق إلي آخر الاتهامات المعروفة سلفا ضد أي تقرير أو دراسة تكشف جزء من واقع العراق الجديد المليء بالرعب والفزع والخراب
التقرير بالطبع قد اعتمد فيما توصل إليه من نتائج علي العديد من المعايير والمؤشرات والتي أجابت بمنتهي الحيادية عن سر كون العراق أخطر بلاد العالم
فلماذا العراق أخطر بلاد العالم ؟؟
أمن مفقود وقتلي وجرحي بالملايين
هذا وهو حصاد سبع سنوات من الاحتلال الأمريكي والتدخل الإيراني ، نعم لقد ضرب العراق الأرقام القياسية كلها في عدد القتلى و الجرحى ، وبلغ عدد من سقط في العام الأول وحده قرابة المليون عراقي من جراء العمليات الحربية ، علي الرغم من أن التحالف الصليبي الذي يقوده الأمريكان قد جاء لاحتلال العراق تحت مسميات براقة مثل تحرير البلاد ، وإزالة أسلحة الدمار الشامل ، ونشر الديمقراطية ، ووقف التوتر في المنطقة ، وتحقيق السلام والأمان للعراقيين وجيرانهم من خطر التهديدات الصدامية ، ورغم كل هذه الأباطيل والدعايات الكاذبة والتي أخذت الأيام تكشف عن زورها وضلالها ،رغم ذلك كله فإن أكثر ما فقده العراق بعد الاحتلال هو الأمن والاستقرار ، فالعراقي لا يأمن علي نفسه أن يخرج إلي شئونه اليومية العادية ، فقد يقنصه أمريكي مخمور لعبا ولهوا ، أو تنسفه قنبلة موقوتة وضعت لتصفية حسابات ، أو تحتجزه دورية وهمية من لصوص الداخلية أو قتلة المالكي لتأخذ ما معه من أموال ومتاع ، وتقتله دون أن يطرف لهم جفن ، أو تفترسه ذئاب المليشيات الطائفية التي تجوب الشوارع العراقية بحثا عن ضحاياها الذين تقتلهم علي الهوية والانتماء الديني .
ففي عراق اليوم الجديد ، الأمن منعدم تماما للمواطن العراقي ، فالأمن والسلامة قاصر علي الأمريكان ومن والهم ، والإيرانيون ومن دار معهم ، فقد قال دانييال أندريس ممثل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون النازحين عن بلادهم " على الحكومة في العراق العمل على تطبيق معايير حقوق الإنسان واتخاذ خطوات أكثر نحو تنفيذ سيادة القانون، وبغير هذه المعايير فنحن الآن لا نشجع العودة غير الطوعية للنازحين".
وأوضح أندريس أن" مجموع العائدين إلى العراق من المهجرين بلغ 340 ألف نازح ، من مجموع أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون مهجر ".
وبين أن" العراق يعد الدولة الأخطر من بين دول العالم للعاملين في مجال المساعدة الإنسانية "
ففي العراق الجديد لقوات الأمن والدرك الوطني والداخلية أهداف ومهام أبعد ما تكون عن الحفاظ علي أمن المواطن العراقي ، وقد يكون هذا طبيعيا ومبررا في ظل الاحتلال الذي يحرص علي بقاء قوات الأمن موالية له وتحقق أغراضه ، ولكن الذي قد لا نفهمه هذا الانحراف والفساد واسع النطاق الذي تعج به قوات الأمن ، والذي أصبحت رائحته تزكم الأنوف ، وأكبر من أن تخطئها عين رجل الشارع العادي ، مما جعل مراكز تجنيد قوات الشرطة هدفا مفضلا ومستديما لعمليات هجوم تفجيرية انتقامية من الجرائم المروعة التي تقوم بها قوات الشرطة والحرس الوطني .
فساد بأرقام قياسية
الفساد مشكلة تعاني منها دول المنطقة كلها وبنسب متفاوتة، بل هي مشكلة المشاكل التي كانت من أهم أسباب تخلف المنطقة وضعف أدائها الاقتصادي ، ولكن الوضع في العراق يختلف كثيرا ، فالفساد العراقي متفرد في نوعه ، فساد ليس له نظير في العالم بأسره ، فالنظام العراقي من أعلاه لأدناه ينخر فيه الفساد ، فالمنظمة العالمية للشفافية ولخمسة أعوام علي التوالي، صنفت العراق ضمن الدول الثلاث الأكثر فسادا من بين حوالي 180 دولة، وقال ديفيد نوسبوم، المدير التنفيذي لـ "منظمة الشفافية الدولية" إن التقارير تشير إلي أن الفساد في العراق متفاقم بصورة غير معقولة .
وعندما ينهار الأمن تنهار معه أشياء كثيرة ، مثل المراقبة والمحاسبة والتوازنات، وتطبيق القانون، وعمل المؤسسات، مثل السلطة القضائية والتشريعية ، إذ أن الجميع يتعرضون للضغط، ويتضرر النظام بدوره الذي يفترض فيه أنه يعمل علي منع الفساد، فبعد أكثر من ست سنوات علي جريمة غزو العراق، وتنصيب حكومات تتصف بكل الصفات إلا صفة (العراقية) والعمل لصالح الوطن ، فحكام العراق مستعجلون بجني المغانم والمكاسب قبل فوات الأوان، وبهذا انتشر الفساد ودب في جميع مفاصل الدولة، وشجع عليه احتلال فاسد باشر الفساد حتى قبل أن يبدأ باحتلال العراق من خلال العقود الخيالية التي نالتها شركات أمريكية محددة (هاليبورن مثلا!) لقاء عقود إعادة إعمار العراق وقبل البدء بتدمير العراق!! ثم جاءت سلطة الائتلاف البريمرية التي حكمت العراق حوالي العامين بكل مفاسدها من الرأس حتى الذيل، حتى بلغ مجموع الاختلاسات المنسوبة لبول بريمر وسلطته سيئة الصيت (الثمانية مليارات دولار)، وانتشرت جرائم النهب والسلب والاحتيال والرشاوى ، وانتهاك القوانين وإفساد الذمم واستباحة المال العام وتوزيع الأسلاب علي الأقارب والأصدقاء، بشكل لم تشهد المنطقة والعالم مثيلاً له ، القاضي موسي فرج نائب رئيس هيئة النزاهة كشف مؤخرا بأن خسائر العراق منذ الغزو؛ نتيجة الفساد الإداري والمالي بلغت 250 بليون دولار .واعتُبر الأمانة العامة لمجلس الوزراء هي "البؤرة الأخطر للفساد"، وقال أن العراق خسر خلال هذه الفترة 45 بليون دولار من تهريب النفط الخام الذي تسيطر عليه أحزاب طائفية في الجنوب، ولفت إلي أن السنوات الخمس الماضية لم تشهد تشييد مصفاة واحدة، علي رغم العروض المغرية التي قدمتها شركات عالمية لإنشاء مثل هذه المشاريع ولمدد تتراوح بين السنة والستة أشهر. وتابع أن ما بقي من الـ250 بليون دولار، أهدرها الفساد في الوزارات والمؤسسات الأخرى .في 18/ 12/ 2008 نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تحقيقاً واسعاً، عن الفساد في العراق، نقلا عن نائب رئيس النزاهة قال فيه: إن العراق يغرق في الفساد والرشوة، وأن كل شيء تقريباً تشتريه الدولة أو تبيعه، من أدوية ومستلزمات حكومية، يمكن الحصول عليه من السوق السوداء. وإن وزارة الدفاع احتلت المرتبة المتقدمة في الفساد المالي والإداري، خصوصاً في عقود التسليح بما فيها شراء طائرات عمودية قديمة غير صالحة للعمل، وبنادق قديمة مصبوغة رفضتها اللجنة العراقية وفرضتها الشركة الأمريكية المصنعة، واستيراد آليات من دول أوروبا الشرقية بنوعيات رديئة". وأضاف أن الأدهى من كل ذلك سعي الوزارة إلي الاحتماء وفرض السرية علي ملفاتها، والامتناع عن تسليمها إلي هيئة النزاهة"، بعدما حظيت بموافقة رئيس الوزراء بمنع محققي الهيئة من الحصول علي نسخ الملفات ذات العلاقة بالفساد أو تصوير أية وثائق تخص الوزارة، علي رغم وجود أوامر قضائية بالإطلاع عليها ، وفي صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية يوم 8/ 5/ 2009 نشرت تقريرا عن الفساد المنتشر بشكل كبير في العراق والذي أضحي عائقا كبيرا أمام الاستقرار والتقدم في البلاد نقلا عن مسئولين في لجنة النزاهة العراقية أن من المعوقات التي تواجههم هي السلطات التي يتمتع فيها الوزراء بالعفو عن الفاعلين، إضافة للتدخلات الحزبية والطائفية والتدخل والضغوط والاحتراب الداخلي والانتقام والابتزاز والتهديدات بالقتل. ونقلت الصحيفة عن المفوض العام للجنة النزاهة العامة رحيم العقيلي أن سبب الفساد الفظيع في العراق هو اعتقاد الفاسدين إنهم محصنون من المحاكمة من خلال الحماية التي توفرها لهم أحزابهم السياسية والطوائف ، وما قيل عن وزارة الدفاع يسري علي باقي الوزارات دون استثناء .
طائفية بطعم العرقية والفدرالية والدم
في العراق أصبح كل شيء ، وأي شيء مطعم بالنكهة الطائفية ، فلا صوت يعلو فوق صوت الطائفية ، وجني الطائفية الذي ظل محبوسا في قمقمه طوال حكم صدام حسين ، وجد طريقه للخروج مرة آخري مع قدوم العدو الأمريكي الذي كان من أهم أدواته للسيطرة والهيمنة علي بلاد العراق ، هو جني الطائفية الذي كان له صولات وجولات لا تنسي عبر التاريخ في بلاد العراق ، والتي كانت مسرحا عالميا للصراعات بين قطبي رحى الطائفية ــ السنة والشيعة ــ منذ مطلع التاريخ الإسلامي ، وحتى وقتنا الحاضر ،فقد خلصت دراسة نشرتها مجلة "نيو إنجلاند جورنال أوف ميدسين" الطبية إلى أن السبب الرئيسي في موت المدنيين العراقيين هو أعمال القتل "الطائفية"، وليس بسبب التفجيرات والهجمات التي تستأثر باهتمام وسائل الإعلام ، وتطرقت الدراسة التي نشرتها المجلة إلى الطابع الطائفي للنزاع في العراق، إذ إن فرق الموت المنتمية إلى طوائف الشيعة تطوف الشوارع بحثا عن أعضاء من الطائفة السنية
ورغم أن مؤلفي الدراسة يسلمون بأن البيانات المتاحة غير شاملة، فإنها تقدم مؤشرا يمكن الاعتماد عليه لقياس كيفية موت العراقيين خلال السنوات الست الماضية منذ احتلال بلادهم.
وتقدم الدراسة أدلة إضافية على عمليات التطهير الطائفي الوحشية وما تبعها من أعمال عنف انتقامي وقد دفعت العراق إلى حافة الحرب الأهلية،
وأكد أحد مؤلفي الدراسة، ويدعى "مايكل سباجات" ، أن العديد من عمليات القتل "الطائفية" يسبقها التعذيب، في محاولة لإجلاء السكان من منازلهم في الأحياء المحسوبة على طائفة معينة على أمل بث الرعب في القلوب ، وتغطي الدراسة الفترة الممتدة من 20 مارس 2003 إلى 19 مارس 2008، وذكرت الدراسة أن 91 ألفا و 358 عراقيا قتلوا حسب منظمة إحصاء القتلى في العراق ، ورغم أن الدراسة لم تحمّل جهة معينة مسؤولية القتل، فإن الأدلة تشير إلى أن فرق الموت التابعة للميليشيات الشيعية المدعومة من حكومة المالكي الطائفية ومن إيران تقف وراء معظم عمليات القتل التي يشكل العرب السنة أغلبية ضحاياها، حتى إن أحياء بالكامل في بغداد كانت تغص بهم أصبحت شيعية خالصة أو خلت تماما من سكانها الأصليين ، ويبقي الإشارة إلي حقيقة مروعة في هذه الدراسة الجدية وهي أن واضعي الدراسة قالوا : إن من الوارد أن يكون عدد الذين قتلوا على طريقة الإعدامات أعلى من الأرقام المتوافرة لأنها لا تشمل الأرقام التي توفرها مشارح العراق.
ولم تشمل الدراسة إحصائيات المشارح لأنها -أي الدراسة- لم تستطع تحديد الطرق المتبعة في قتل بعض الأشخاص ، كما أن الدراسة لم تشمل عدد القتلى في صفوف المفقودين.
وإن كان العدوان الأمريكي قد أوقع في العام الأول من الحرب علي العراق مئات الآلاف من العراقيين الأبرياء ، فإن من أوقعتهم سواطير ومناشير ومثاقيب جيش المهدي أو فيلق بدر أو مليشيات الجعفري ثم المالكي أضعاف هذا العدد وبطريقة أشد بشاعة وفظاعة .
الطائفية هي أسوأ كوابيس استقرار وأمن أي دولة ، وأساس خراب وتشرذم أي مجتمع ، وما حدث في بروندي ورواندا في تسعينيات القرن الماضي خير شاهد علي عواقب الطائفية بعد أن سقط قرابة الخمسة ملايين صرعي القتال الطائفي بين عرقية الهوتو والتوتسي ، كما أن الطائفية هي إفشال مستمر ومزمن لجهود الإنقاذ ، فالطائفية الآن تقف حجر عثرة علي طريق تشكيل حكومة عراقية وطنية ومخلصة تعمل من أجل العراق ، والساسة العراقيون منغمسون في الطائفية ، فهي عقلهم وقلبهم وقطب أفكارهم ، ودينهم الذي يدينون به ، الطائفية الآن قد جعلت من العراق أخطر بقعة علي وجه الأرض ، فالعراقي الآن يقتل علي الهوية بلا جريرة أو ذنب ، قد يقتل لأن اسمه عمر أو عثمان أو طلحة أو غير ذلك ، أو يقتل لأنه يسكن في حي سني أو ينتسب لعشيرة سنية .
والتاريخ يشهد علي حقيقة في غاية الأهمية ، وهي أن جني الطائفية لا يظهر في بلاد العراق إلا وقت قدوم الاحتلال وسيطرة قوي خارجية علي مقدرات الشعب العراقي ، والأمريكان أيقنوا ذلك منذ الوهلة الأولي فتحالفوا مع الشيعة ضد السنة ، والآن تريد أمريكا بعث مشروع الهلال أو القوس الشيعي ، وليس ذلك قطعاً لمصلحة الشيعة، بل لاستخدامهم لمصلحتها، وخاصة للقضاء على المقاومة العراقية التي تصنفها أمريكا بأنها سنية،وإن إصرار المحتل منذ الأيام الأولى على إبراز مصطلحات لم تكن معروفة مثل المثلث السني أو المقاومة السنية دليل على استهداف أهل السنة بالعداوة .
الطائفية الآن تدفع بالعراق إلي حافة الانتحار الوطني ، حيث تتعالي مطالب الشيعة نحو تقسيم العرق إلي ثلاث كيانات علي أساس طائفي عرقي ديني ، واحد للشيعة في الجنوب والوسط ، وثاني للسنة في الوسط ، وثالث للأكراد في الشمال ، ويصبح العراق الكبير ، ثلاث دويلات مثل حال الأندلس عندما سقطت الدولة الأموية فيه سنة 422 هجرية ، وحلت مكانها اثني وعشرون دويلة علي أساس طائفي أيضا ، بين العرب والبربر والصقالبة ، وفكان عصر ملوك الطوائف وهو العصر الأسوأ في تاريخ الأندلس المجيد .
وفي الدراسة أسباب آخري كثيرة تعرضت لها الدراسة ولكن الذي نريد أن نقوله ، أن هذا البلد كان آمنا مطمئنا فترة طويلة من الزمان ، ولكنه اليوم ربما يكون أخطر مما وصفته الدراسة ، لأن القنبلة العراقية التي علي وشك انفجار ستتطاير شظاياها مصيبة ليس العراقيين فحسب ولكن المنطقة بأسرها .
المصدر: مفكرة الإسلام