للَّهُ أَرْحَمُ بِعِبادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا

عبدالرحمن المهيدب
1443/09/13 - 2022/04/14 14:58PM

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

 أما بعد فيا أيها الكرام؛ تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "جَاءَتنِي مِسْكِينَة تَحمِل ابنَتَين لها، فَأَطْعَمْتُها ثَلاثَ تَمَرَات، فَأَعْطَت كُلَّ وَاحِدَة مِنْهُما تَمْرَة وَرَفَعت إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأكُلَها، فَاسْتَطْعَمَتْها ابْنَتَاهَا، فَشَقَّت التَّمْرَة التي كانت تريد أن تَأْكُلَها بينهما، تقول أم المؤمنين فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرت الذي صَنَعَتْ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «إِنَّ الله قَدْ أَوجَبَ لَهَا بِهَا الجَنَّة، أَو أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّار" رواه مسلم.

تأملوا يا كرام هذا المشهد: امرأة مسكينة تسأل, وما خرجت تسأل إلا وقد بلغت الحاجة مبلغها, فتُطعَم بثلاث تمرات فتعطي ابنتيها تمرتين وتبقي لها واحدة, ولما استطعمتها ابنتاها شقت التمرة بينهما دون أن يكون لها نصيب منها, في مشهدٍ يتدفق رحمةً وشفقةً وإيثارًا.

إنها رحمة الأم التي مهما حاولنا أن نصفها سنظل عاجزين، فأي عبارةٍ تصف تلك الرحمة؟ وأي كلام سيجسد تلك الشفقة؟ تلك الأم التي لا يمكن أن تتذوق النوم وابنها مريض أو مكروب, أو تتلذذ بطعام وابنها جائع أو محروم!

 تلك الرحمة التي لا يمكن أن توصف إلا بقولنا: إنها رحمة الأم وكفى!

إلا أن حديثنا اليوم ليس عن تلك الرحمة الفياضة, بل حديثنا عن رحمة هي أعظم من هذه الرحمة العظيمة التي لولا أن الوحي جاء بها لما كان للعقل أن يدركها.

 اسمع معي أيها الصائم الكريم لهذا المشهد العظيم؛

 يقول عمرُ بنُ الخطاب –رضي الله عنه-: قَدِمَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ بِسَبْيٍ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْي تَسْعَى، إِذْ وَجَدَتْ صَبِيًّا في السَّبْي أَخَذَتْهُ فَأَلْزَقَتْهُ بِبَطْنِها، فَأَرْضَعَتْهُ، (الصحابة ينظرون إلى هذا المشهد الذي شد انتباههم) فَقَالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: أَتُرَوْنَ هَذِهِ المَرْأَةَ طارِحَةً وَلَدَهَا في النَّارِ؟ قُلْنَا: لا وَاللَّهِ، فَقَالَ: للَّهُ أَرْحَمُ بِعِبادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا" متفقٌ عليه.

تأمل أيها المبارك: أمٌّ حنون تفقد ابنها الرضيع في الحرب فلا تدري أحي هو أو ميت، وإذ بها تجده بعد بحث حثيث وجهد شاق, فتنسى نفسها من هول الموقف لتضم ابنها لصدرها, ثم تلقمه ثديها متناسية الناس مِن حولِها, وبعد هذا المشهد الذي يتفتق رحمة وشفقة, يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه: "أَتُرَوْنَ هَذِهِ المَرْأَةَ طارِحَةً وَلَدَهَا في النَّارِ؟" ليأتي بتلك البشارة الإلهية والحقيقة الربانية: "للَّهُ أَرْحَمُ بِعِبادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا" للَّهُ أَرْحَمُ بِعِبادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا .. ضع الضمائر لك حتى تتصور تلك البشارة: لله أرحم بك أنت يا غالي من أمك وأبيك, بل أرحم بك من نفسك, فهل عقلت هذه العبارة؟ وهل امتلأ قلبك بها؟ يقول حماد بن سلمة -رحمه الله- : والله لو خُيِّرتُ بين محاسبة الله إياي يوم القيامة وبين محاسبة أبوَيّ لاخترت محاسبة الله". يختار محاسبة الله لأن قلبه ممتلئ بأن الله أرحم به من والديه.

أيها المبارك؛ تعرف عظم رحمة الله حين تسمع حديث أبي هريرة المتفق: "جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مئَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وتِسْعِينَ، وَأَنْزَلَ في الأَرْضِ جُزْءًا واحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَراحمُ الخَلائِقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ ولَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ" . فكل مشاهد الرحمة التي نراها هي جزء من مئة جزء من رحمة الرحيم سبحانه.

فيا أيها المريض ويا أيها المكروب؛ اعلم أن من قدر عليك ذلك هو أرحمُ بكَ من أمك وأبيك والناس أجمعين.ويا أيها المذنب المقصر؛ اعلم أنك تعصي الرب الرحيم الذي يتودد إليك بالنعم لتعود إليه وتؤوب, وهو الغني عنك سبحانه.

الخطبة الثانية :

الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين .. وبعد

أخي الصائم: حينما تسمع حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- المروي في الصحيح تعرف رحمة الله, حين قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يقولُ: إنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ يوم القيامة، فَيَضَعُ عليه كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ، فيَقولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حتَّى إذَا قَرَّرَهُ بذُنُوبِهِ، ورَأَى في نَفْسِهِ أنَّه هَلَكَ، قالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا(برحمته وكرمه)، وأَنَا أغْفِرُهَا لكَ اليَومَ(بفضله وإحسانه)، فيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وأَمَّا الكَافِرُ والمُنَافِقُونَ، فيَقولُ الأشْهَادُ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ".

تعرف رحمة الله حين تسمع قول الله تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الله جل في علاه ينادي المسرفين من عباده وهو الغني عنهم وعن عبادتهم, ويدعوهم  أن لا يقنطوا من رحمة الله ليخبرهم أنه يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم.

تعرف رحمة الله حين تسمع حديث أبي هريرة المتفق على صحته أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِ فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟" ينزل الغني الجبار المتكبر لعباده الفقراء الضعفاء المذنبون كل ليلة فيقول مَن يَدْعُونِي فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟

أي رحمة أعظم من هذه الرحمة؟

وهانحن في هذا الشهر الكريم الذي تتنزل فيه الرحمات وتقسم فيه الهبات. فاستجلب رحمة الله وتذكّر قول الله تعالى (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) استجلبوا رحمة الله برحمة عباده, فالراحمون يرحمهم الرحمن,  وتذكروا أن الله أدخل بغي الجنة لكلب سقته رحمة به وشفقة, استحضروا رحمة الله في جميع شؤونكم، فوالله ما سكنت رحمة الله في قلب إلا رضي وسَعِد وتذكروا قول الله (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم) فلا تنسيكم رحمته عذابه, ولا إنعامه عقابه .

فاللهم املأ قلوبنا إيمانا برحمتك ويقينا بكرمك وفضلك

اللهم يا رحمن يا رحيم أنزل علينا رحمة من عندك تغنينا عن رحمة من سواك وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

المشاهدات 1298 | التعليقات 0