لغة القرآن والحفاظ على الهوية

ahmed-muhamed ahmed-muhamed
1443/05/11 - 2021/12/15 04:59AM

الحمد لله، فتقَ ألسِنةَ عباده بالبيان، وأجراها باللغة في كلِّ آنٍ وشانٍ، يصِلون بلُغاتهم إلى قِمَم الإبداع، وذروة الإفهام والإقناع، أحمدُه -سبحانه- ترادفَت نعماؤه وتوالَت نعمُه وآلاؤه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده الملكُ والملكوت، وله الأسماءُ الحُسنى وجلالُ النُّعوت.

وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله طُبِع على رائقِ الكلام، وبديعِ اللفظِ والنظام، تنهالُ المعاني على فُؤادِه انهِيالاً، وتنثالُ المُفرداتُ على لسانه انثِيالاً، فحديثُه العذبُ المُصفَّى والشهدُ المُوفَّى، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه صلاةً:

تندَى عبيرًا ومِسكًا سُحبُها دِيَمًا *** تُمنَى بها للمُنى غاياتُها شُكرًا

تُضاحِكُ الزهرَ مسرورًا أسِرَّتُها *** مُعرَّفًا عَرفُها الآصالَ والبُكَرَ

العناصر

أولًا: أهمية اللغة العربية                                            ثانيًا: حال السلف الصالح مع اللغة العربية

ثالثًا: حال الأعداء مع اللغة العربية                               رابعًا: حال الدول مع لغاتها

خامسًا: واجبنا نحو لغتنا (لغة القرآن)

الموضوع

أولًا: أهمية اللغة العربية

لغة القرآن: قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 2]، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [طه: 113]، وقال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِين * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء: 193-195]، وقال تعالى: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت: 3]، وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف: 3]. وقال تعالى: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[الزمر: 27- 28].

لغة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد ﷺ فهي أغنى اللغات بالمفردات والمترادفات؛ لها عذوبة في اللفظ ونغم في النطق وجمال في الحديث؛ يقول الشافعي -رحمه الله-: “أوسعُ الألسِنة مذهبًا، وأكثرُها ألفاظًا، ولها مكانتُها العُظمى في هذا الدين”.

تُزيد المروءة والعقل والدين: قال سيدنا عمر: "تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة. وتعلموا العربية فإنها من الدين.

وقال أحد العلماء: "إن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلغاً عنه الكتاب والحكمة بلسان عربي، ولم يكن من سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان، فصارت معرفته من الدين".

وقال شعبة: "تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل".

تعلم اللغة العربية فرض واجب: كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: "أما بعد: فتفقهوا في السنَّة، وتفقهوا في اللغة العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي".

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: اللغةُ العربيةُ من الدين، ومعرفتُها فرضٌ واجبٌ؛ فإن فهمَ الكتاب والسنة فرضٌ، ولا يُفهمُ إلا بفهم اللغةِ العربية، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ”، ويقول -رحمه الله-: “ومعلومٌ أن تعلُّمَ العربية وتعليمَها فرضٌ على الكفاية.

وقد عبَّر الشاطبيُّ -رحمه الله- عن هذا المعنى بقوله: “إن الشريعةَ عربيةٌّ، وإذا كانت عربيَّةً؛ فلا يفهمُها حقَّ الفهمِ، إلا من فهِمَ اللغةَ العربيَّةَ حقَّ الفهمِ؛ فإذا فرضنا مُبتدِئًا في فهم العربية؛ فهو مُبتدِئٌ في فهم الشريعة، أو متوسِّطًا؛ فهو متوسِّطٌ في فهم الشريعة؛ فإن انتهى إلى درجة الغايةِ في العربية كان كذلك في الشريعة”.

لكن التبحر في اللغة، والتعمق، والتفرغ، هذا فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الكل، نحن مأمورون أمر إيجاب، أو أمر استحباب، أن نحفظ قواعد اللغة العربية، وأن نصلح الألسنة المائلة، فيحفظ بهذه اللغة لنا فهم الكتاب، والسنة، والاقتداء بالعرب الفصحاء في خطابهم.

لا غناء لعلم من علوم الشريعة عنها: يقول الإمام الزمخشري في بيان فضل العربية وأنه لا غناء لعلم من علوم الشريعة عنها، ذلك أنهم لا يجدون علماً من العلوم الإسلامية فقهها وكلامها، وعِلْمَي تفسيرها وأخبارها إلا وافتقاره إلى العربية بيّن لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع.

أثرى اللغات التي تنبعث التراكيب المختلفة للكلمات من الأفعال نفسها بثراء منقطع النظير وقوة عجيبة؛ فهيَ لغة لها صلة وثيقة بالطبيعة  والبيئة التي نشأت وتكونت منها؛ فمن تلك البيئة وأصواتها الطبيعية نشأتِ الكثير من الأسماء والأفعال، حتى كأن الإنسان وهو يتحدث بهذه اللغة الجميلة يشعر أنه جزء مِن هذه البيئة، ويربط هذه اللغة ترابط محكم بالمجتمعِ الذي تطورت فيه؛ لأن المجتمع العربي الذي سادت فيه اللغة العربية، له نمط شجريّ وفيه اتساع وترابط وانحدار؛ فهو مجتمع يختلف عن المجتمعات الأخرى، فيهِ تفاصيل كثيرة؛ فهو قبائل وأنساب وبطون وأفخاذ، وأسر ومجتمعات، وعلى صورة هذا المجتمع الرحب انبرى الكلام، وجرى اللسان، ونَمت ألفاظ لغة الضاد في وسط فسيح، وبيئة ثرية تنبت الألفاظ، ويتقارع أهلها بنوادر الكلم وفصيح اللسان، والشعر والنثر الذي لا يزال محفوظاً حتى اليوم، حفظه كماله، وحسنه وجماله.

قدَّم الله البيان على كثير من خلقه: قال ابن فارس في قوله تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ): فقدم الله -عز وجل- ذكر البيان على جميع ما توحد بخلقه، وتفرد بإنشائه، من شمس، وقمر، ونجم، وشجر، وغير ذَلِكَ من الخلائق المحْكمة: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن: 1-3] ، فمن فضل الله علينا أن الله علمنا البيان، فلمّا خص -جل ثناؤه- اللسانَ العربي بالبيانِ عُلم أن سائر اللغات قاصِرَةٌ عنه.

تعين على فهم القرآن والتأثُر به: يقول الأصمعي: خرجت ذات ليلة، وفيما أنا سائر إذ بصرت بطفلة لم تتعد التاسعة من عمرها تنشد هذه الأبيات:

أستغفرُ اللهَ لذنبي كُلِّهِ *** قتلتُ إنسانا بغَيْر حِلِّهِ

مثل غزالٍ ناعم في دَلِّهِ *** وانتصف الليلُ ولم أُصَلِّهِ

فقلت لها: يا هذه، قاتلك الله! ما أبلغك على صغرك! فأجابت: ويحك! أبعد هذا فصاحة بجانب قول الله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص:7]؛ فقد جمع فيها -سبحانه- بين أمرين، ونهيين، وبشارتين، في آية واحدة!.

كل كلمة في القرآن لها مدلول ومعنى محدد وُضعت له لا يفهمه حقا إلا من فهم العربية حقا ويدل على ذلك هذين المثالين:

لقول الله (عزّ وجلّ) في سياق قصة نوح (عليه السلام) وإغراق قومه: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[هود:44]، فقد آثر التعبير القرآني لفظ (استوت) على غيره فلم يقل: (رست) أو (استقرت)؛ لأن الاستواء يدل على معنى لا يدل عليه واحدٌ من اللفظين الأخرين، فالاستواء يدل على الاستقرار و الرسو المطمئن مع اعتدال الوضع.

أما الرسو والاستقرار فقد يكونان على غير وضع الاعتدال والاطمئنان، كأن ترسو السفينة أو تستقر وهي منكسة مثلًا، أو مائلة، والاستقرار المعتدل الوضع الخالي من الأخطار هو المعنى المطلوب في جانب نجاة المؤمنين من الهلاك وسلامتهم من الطوفان، ونفي التنكس مطلوب في مكان عمّ الطوفان فيه وجه الأرض، وغمر الماء النازل من السماء كل سهل ووعر.

فاختار التعبير القرآني كلمة (استوت) بدلا من (رست) أو (استقرت) لئلا يقع في الظن أن تكون السفينة قد تعرضت لشيء من الأخطار، خاصة وأن الله تعالى قال: {ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}[هود:42]. فهذا أنسب لمقتضى الحال حتى يعلم المخاطبون عناية الله بعباده المؤمنين.

وقال الله تعالى على لسان إخوة يوسف (عليه السلام): {يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}[يوسف:17].

قد يقول قائل: لم عبر سبحانه وتعالى بالأكل على لسان إخوة يوسف (عليه السلام) فقال: (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) مع أن الأكل عام لا يختص به نوعٌ من الحيوان دون نوع، وكان من الأنسب أن يعبر بلفظ (الافتراس) وهو الأفصح المختار مع السباع.

والجواب: أن الافتراس هو القتل وحسب، مأخوذ من (الفرس) الذى هو دق العنق، وإخوة يوسف (عليه السلام) خوفًا من أن يطالبهم أبوهم يعقوب (عليه السلام) بأثر باق من يوسف (عليه السلام) يشهد بصحة دعواهم، ادعوا على الذئب أنه أكله أكلًا كاملًا، وأتى على جميع أعضائه وأجزائه فلم يترك فيه مفصلًا ولا عظما، فعبروا (بالأكل) ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة بأثر من جسد يوسف ولو عبروا عنه (بالافتراس) لما أدى هذا المعنى، على أن استعمال لفظ الأكل مع الذئب وغيره من السباع ذائع ومشهور.

وصدق الله إذ يقول: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء:82]، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود:1]، وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:24].

الخطأ في قراءة القرءان قد يبطل الصلاة: ألا يكفي الإنسان إذا قرأ قوله تعالى على هذا الشكل: إنما يخشى اللهُ من عباده العلماء، أي أن الله هو الذي يخشى العلماء؟! بطلت صلاته بحركة واحدة: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]، فأحياناً حركة واحدة قد تفسد صلاتك كما قال تعالى: (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) [التوبة: 40]، فلو قرأ الإنسان في الصلاة: (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى) "وَكَلِمَةَ" معطوفة، إذا قرأ "وَكَلِمَةَ الله هي العليا"، أي جعلها عليا بعد أن كانت سفلى، وهذا خرق لعظمة القرآن الكريم: (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى) وقف استئناف، (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) دائماً، لو عطفها على الاسم الذي قبلها لفسد المعنى، وإذا فسد المعنى فساداً فاحشاً بطلت الصلاة، إذاً تعلموا العربية فإنها من الدين.

هي السراج الوهاج: لا ريب أن اللغة العربية شهادة الأجيال الناطقة، وإشراقة الدنيا الصادقة وزهرة التاريخ العابقة، ومزنة النور الوادقة؛ إنها السراج الوهاج الذي يضيء المجتمعات العاشية والينبوع الذي ترتوي منه العقول الصادية.

لغةٌ إذا وقعَت على أسماعنا *** كانت لنا بردًا على الأكبادِ

ستـظلُّ رابطةً تُؤلِّفُ بيننا *** فهي الـرجاءُ لناطقٍ بالضادِ

وإذا طلبتَ من العلومِ أجلَّها ***فأجلُّها منها مُقيمُ الألسُنِ

يتحدث بها الملايين من سكان الأرض: أصحبت اللغة العربية ملءُ الأسماع وملءُ القلوب، يتحدث بها مئات الملايين منْ سكان هذه الأرض، وتهوي إليها قلوب آلاف الملايين منَ المسلمين؛ لأنَّها لغة القرآن، قال تعالى: (لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 10].

تملك أوسع مدرج صوتي عرفته اللغات: حيث تتوزع مخارج الحروف بين الشفتين إلى أقصى الحلق. وقد تجد في لغات أخرى غير العربية حروف أكثر عدداً ولكن مخارجها محصورة في نطاق أضيق ومدرج أقصر، كأن تكون مجتمعة متكاثرة في الشفتين وما والاهما من الفم أو الخيشوم في اللغات الكثيرة الغنة (الفرنسية مثلاً)، أو تجدها متزاحمة من جهة الحلق.

الإيجــاز: هو صفة واضحة في اللغة العربية، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ ")) ([1])

 (أعطيت جوامع الكلم) قال الهروي يعني به القرآن جمع الله تعالى في الألفاظ اليسيرة منه المعاني الكثيرة وكلامه ﷺ كان بالجوامع قليل اللفظ كثير المعاني.

ويقول العرب (( البلاغة الإيجاز )) و (( خير الكلام ما قلّ ودلّ )).

تعداد مفرداتها 12 مليون مقارنة بغيرها: قد لا يخطر على بال المرء أن يتساءل عن عدد مفردات لغته، لكن مجرد التفكير يبعث على الفضول، والبحث عن عدد كلمات اللغة العربية التي تتكون من أحرفها الأبجدية الـ28، للوهلة الأولى يبدو إحصاء مفردات لغة تشتهر بثراء مفرداتها وتنوعها أمراً مستحيلاً، بيدَ أن ذلك حدث فعلا، وكانت النتيجة مفاجأة مقارنة بعدد كلمات اللغات الأخرى.

وبينما لا يتجاوز عدد مفردات اللغة الفرنسية 150 ألفا، والروسية 130 ألفا، والإنجليزية الأكثر انتشاراً عالمياً 600 ألف، وصل عدد مفردات اللغة العربية دون تكرار إلى ما يزيد على 12 مليون كلمة، ما يعني 25 ضعف عدد مفردات اللغة الإنجليزية.

ضياع اللغة ضياع لأهلها: يقول الرافعي رحمه الله-رحمه الله تعالى-: ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المستعمر لغته فرضاً على الأمّة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحِقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عملٍ واحدٍ: أمّا الأول: فحَبْس لغتهم في لغته سجناً مؤبّداً، وأمّا الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً، وأمّا الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَعٌ.

والرافعي-رحمه الله تعالى- حين يكتب هذا الكلام فإنه قد عاصر الاستعمار في بلاد المسلمين، ورأى ما يفعل الغزاة من طمس ٍللغة من يستعمرهم وإحلال لغته مكانها.

وما تأخرتْ الأمةُ الإسلاميةُ إلا يومَ أنْ تخلتْ عن هويتِهَا الإسلاميةِ ولسانِها العربيِّ، أمةُ الهاديِ تستحي أنْ تقولَ: إنّها مسلمةٌ، ولا تُمانعُ مِن حذفِ لسانِها العربيِّ في المحافلِ الدوليةِ، مستبدلةً إياهُ بما عجمَ وارطنَ، وصدقَ ربُّنَا إذ يقولُ ((أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [البقرة: 6   و يقولُ عمرُ بنُ الخطابِ -رضي اللهُ عنه-: "نحنُ قومٌ أعزَّنَا اللهُ بالإسلامِ ، فإنْ ابتغينَا العزةَ بغيرِه أذلنَا اللهُ، أمةٌ راحتْ تلهثُ وراءَ الشرقِ والغربِ وتركتْ هويتَهَا  لذا أدركَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- هذه الحقيقةَ، وحذرَ منها غايةَ التحذيرِ كما في البخاريِ ومسلمٍ من حديثِ  أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ ...) هل هذه هي أمةٌ دستورُها القرآنُ ..، ونبيُّهَا المصطفي العدنانُ .. ولغتُهَا أغنى اللغاتِ !!!

 ما الذي غيَّرَهَا وما الذي بدَّلَها؟ ما الذي حدثَ؟ وما الذي جرى ؟

أمةٌ  ذُلتْ بعدَ عزةٍ..!!وضعفتْ بعدَ قوةٍ..!!وجَهلتْ بعدَ علمٍ ..!!.

ثانيًا: حال السلف الصالح مع اللغة العربية

روي أن كاتباً كتب إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- خطابا لعمر فبدأه بقوله: “من (أبو) موسى”؛ فكتبَ إليه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “أن اضرِبه سَوطًا، واستبدله بغيره”.

كان الحسنُ البصريُّ -رحمه الله- يقول: “ربما دعوتُ فلَحَنتُ؛ فأخافُ أن لا يُستجابَ لي”.

سمع الأعمش؛ رجلا يلحن في كلامه؛ فقال: “من الذي يتكلَّم وقلبي منه يتألَّم”.

كان أيوبُ السِّختيانيُّ -رحمه الله- إذا لحَنَ استغفرَ اللهَ.

سمِعَ الخليفةُ المأمونُ بعضَ ولده يلحَنُ؛ فقال: “ما على أحدِكم أن يتعلَّم العربيةَ، يُصلِحُ بها لسانَه، ويفُوقُ أقرانَه، ويُقيمُ أوَدَه، ويُزيِّنُ مشهَدَه، ويُقِلُّ حُجَجَ خصمِه بمُسكِتات حِكَمه”.

كان عبد الملك بن مروان يقول: "أصلحوا ألسنتكم؛ فإن المرء تنوبه النائبة فيستعير الثوب والدابة ولا يمكنه أن يستعير اللسان، وجمال الرجل فصاحته".

قال الإمامُ ابنُ كثيرٍ -رحمه الله-: "أفصحُ اللُّغات، وأجلاها، وأحلاها، وأعلاها، وأبينُها، وأوسعُها، وأكثرُها تأدِيةً للمعاني التي تقومُ بالنفوس، فلهذا أُنزِل أشرفُ الكتبِ بأشرفِ اللُّغات".

قال الشاعر حافظ إبراهيم في اللغة العربية:

رجعت لنفسي فاتهمت حصـاتي *** وناديت قومي فاحتسبت حياتي

رموني بعقـم في الشبـاب وليتني *** عقمت فلم أجزع لقول عداتي

وسعـت كتـاب الله لفظًا وغاية *** وما ضقت عن آي به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة *** وتنسيـق أسمـاء لمختـرعات

أنا البحـر في أحشائه الدر كامن *** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

ويقولُ الفراءُ  -رحمهُ اللهُ-: « وجدنَا للغةِ العربِ فضلًا على لغاتِ جميعِ الأممِ اختصاصًا من اللهِ تعالى، وكرامةً أكرمَهُم بها، ومِن خصائِصِهَا أنّه يوجدُ فيها مِن الإيجازِ ما لا يوجدُ في غيرِهَا مِن اللغاتِ». (صبح الأعشى).

يقولُ الثعالبي –رحمهُ اللهُ-: " مَن أحبَّ اللهَ أحبَّ رسولَهُ صلى اللهُ عليه وسلم، ومَن أحبَّ النبيَّ العربيَّ أحبَّ العربَ، ومَن أحبَّ العربَ أحبَّ العربيةَ التي بها نزلَ أفضلُ الكتبِ على أفضلِ العجمِ والعربِ".(فقه اللغة وسر العربية).

يقولُ مصطفىَ صادق الرافعي – رحمه اللهُ - : " إنّ هذه العربيةَ بُنيتْ على أصلٍ سحريٍّ يجعلُ شبابَهَا خالدًا عليها فلا تهرمُ ولا تموتُ، لأنّهَا أُعدتْ من الأزلِ فَلكًا دائِرًا للنيِّرينِ الأرضيينِ العظيمينِ. كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -، ومِن ثَمَّ كانتْ فيها قوةٌ عجيبةٌ من الاستهواءِ كأنّها أخذةُ السحرِ ". ( تحت راية القرآن )

ويقولُ الفارابي –رحمه اللهُ-: " القرآنُ كلامُ اللهِ وتنزيلُهُ، فَصّلَ فيه مصالحَ العبادِ في معاشِهِم ومعادِهِم، مما يأتُونَ ويَذَرُون، ولا سبيلَ إلى علمِهِ وإدراكِ معانيهِ إلا بالتبحرِ في علمِ هذه اللغةِ".( المزهر في علوم اللغة- للسيوطي).

يقولُ ابنُ شبرمة: «إذا سرَّكَ أنْ تعظمَ في عينِ مَن كنتَ في عينه صغيرًا، أو يصغرَ في عينِكَ مَن كان فيها كبيرًا، فتعلمْ العربيةَ " (الآداب الشرعية لابن مفلح).

يقولُ الشاطبيُّ – رحمه اللهُ -: « على الناظرِ في الشريعةِ والمتكلمِ فيها أصولًا وفروعًا، أنْ لا يتكلمَ في شيءٍ من ذلك حتى يكونَ عربيًا أو كالعربيِّ في كونهِ عارفًا بلسانِ العربِ، بالغًا فيه مبالغَ العربِ » . (الاعتصام) .

ورويَ عن الأصمعيِّ قال: كنتُ أقرأُ سورةَ المائدةِ ومعي أعرابيٌّ، فقرأتُ هذه الآيةَ: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .(المائدة: 38) . فقلتُ: " واللهُ غفورٌ رحيمٌ " سهوًا، فقال الأعرابيُّ: كلامُ مَن هذا؟ فقلتُ: كلامُ اللهِ، قال: أعدْ، فأعدتُ: " واللهُ غفورٌ رحيمٌ "، ثم تنبهتُ، فقلتُ: (واللهُ عزيزٌ حكيمٌ) فقال: الآن أصبْتَ، فقلتُ: أتحفظُ المائدةَ؟ قال: لا . فقلتُ: كيف عرفتَ؟ قال: يا هذا (عزيزٌ حكيمٌ) فأمرَ بالقطعِ، فلو غفرَ ورحمَ لما أمرَ بالقطعِ. انتهى. فقد فهمَ الأعرابيُّ الأميُّ أنّ مقتضى العزةِ والحكمةِ غيرُ مقتضى المغفرةِ والرحمةِ، وأنّ اللهَ تعالى يضع ُكلَّ اسمٍ موضعَهُ من كتابهِ. " ( تفسير المنار )

ثالثًا: حال الأعداء مع اللغة العربية

لقد صرح الأعداء بعداوتها وخططوا لمحوها من عقول أبنائها، وقد قال قائلهم: “إننا لن ننتصِرَ على المُسلمين ما دامُوا يقرؤون القرآنَ، ويتكلَّمون العربيةَ؛ فيجبُ أن نُزيلَ القرآنَ من وجوهِهم، ونقتلِعَ العربيةَ من ألسِنَتهم”، وهنا يتبين عظيم مكرهم بلغتنا ومخططهم لطمسها وأعلنوا عليها حربا ضروسا وأنفقوا لتحقيق أمانيهم الغالي والنفيس، ولكن الله خيب آمالهم وأفشل مخططاتهم .

أو بترك العناية بها وتغييب دورها في المناهج التعليمة؛ فينشأ جيل لا صلة له باللغة العربية؛ سوى مجرد الانتساب إليها، وحينها لا يعرف عقيدته الصحيحة ولا يفرق بين الحق والباطل؛ فتخسر الأمة أصلا من أصولها ولبنة من لبناتها التي ترتكز عليها حضاراتها وتستقي منها ثقافاتها.

ولما كانت هذه هي منزلة العربية من دين الإسلام؛ فإن أعداء الملة كرسوا حربهم لها، وسلقوا ألسنتهم بتحقيرها وتصغيرها، وسنوا أقلامهم لنقدها وعيبها؛ لأنها لسان القرآن وبيانه، ولعلمهم أنها وعاء الإسلام وشعاره، فتنفير الناس منها، وصرفهم عنها، ما هو إلا صرف عن كتاب الله تعالى، وعن دين الإسلام.

لقد اشتدت على لغة القرآن حربهم، وتنوعت أساليبهم ووسائلهم، وما وهنت عزيمتهم، ولا يئسوا من تحقيق مرادهم، وكان من محاولاتهم البائسة ادِّعاؤهم صعوبة العربية، ودعوتهم إلى إصلاحها والتعديل عليها، فمنهم من دعا إلى إلغاء الإعراب وتسكين أواخر الكلمات، ومنهم من دعا إلى تدمير قواعد الكتابة، وقال قائلهم في ذلك: إن سبب تراجع الأمة العربية تمسكها بالتشديد والتنوين.

وسخر أحدهم من قواعد العربية، ودعا إلى تركها في مقالة عَنْوَنَها بقوله: "هذا الصرف وهذا النحو. أمَا لهذا الليل من آخِر؟! وآخرون منهم ركزوا هجومهم على الخط العربي، ودعوا إلى كتابة العربية بالأحرف اللاتينية، بعد أن أقنعهم بعض المستشرقين بهذا الإثم المبين، وألفوا كتبا في ذلك، وقاموا بتجارب ومحاولات استجلبوها من فعل الترك لما كتبوا اللغة التركية بالأحرف اللاتينية.

وكانت أكبر محاولة لإلغاء لغة القرآن دعوة بعضهم إلى اللهجات العامية المحلية بديلا عن اللغة العربية، ونشط المستشرقون وأذناب المستعمرين لإنجاح هذه المحاولة، وفي القرن الماضي بذلوا جهودا مضنية في هذا السبيل المظلم، وتفرغ بعض الأوربيين لدراسة لهجات مدن مصر والشام، وألفوا كتبا فيها، ووضعوا -بزعمهم- قواعد لها، ودعا أحدهم إلى أن تكون اللهجة العامية هي اللغة الوحيدة للبلاد المصرية، وألقى مستشرق محاضرة قال فيها بكل صفاقة ووقاحة: إن ما يعيق المصريين عن الاختراع هو كتابتهم بالفصحى! وأعلن في آخر محاضرته عن مسابقة للخطابة بالعامية، ومن تكون خطبته جيدة ناجحةً فله مكافأة مجزية.

وتَوَّج هذا الضلال والانحراف قبطي شيوعي حين كتب كتابا دعا فيه إلى كسر رقبة البلاغة العربية وإلى الكتابة بالعامية.

وإن من يراجع الوثائق التي بدأت بها عملية الاحتلال البريطاني لمصر يكتشف أن أول أعمال الاحتلال هو وضع الخطة لحطم اللغة، يبدو ذلك واضحاً في تقرير لورد دوفرين عام 1882 حين قال : إن أمل التقدم ضعيف ( في مصر) ما دامت العامة تتعلم اللغة العربية الفصيحة.

وتعدى هذا العدوان على لغة القرآن إلى الشام، فكرس أحد المنحرفين وقته في ضبط أحوال العامية في لبنان، وتقييد شواردها؛ لاستخدامها في كتابة العلوم، وادعى أنه وجد أسباب التخلف في التَّمسك بالفصحى، ثم ورث ابنه عنه ضلاله، فأكمل مسيرة أبيه الضالة، وزعم الابن بعد أبيه أنَّ اختلاف لغة الحديث عن لغة الكتابة هو أهمُّ أسباب تخلفهم! ثم قال: ولي أملٌ بأن أرى الجرائد العربية وقد غيّرت لغتها، وهذا أعدُّهُ أعظم خطوة نحو النجاح، وهو غاية أملي. وتمنى أحد موارنة الشام أن يرى عملاً عسكرياً سياسياً يَفرض اللغة العامِّية على الناس.

والحمد لله الذي خيب أملهم أجمعين ، فبقي لهم ما يسوؤهم من قوة لغة الضاد ومتانتها، وحاجة العرب إليها.

وليس العراق بعيدا عن الشام، إذ وصلت إليه دعوة إلغاء العربية، ودعوى أنها سبب التخلف، فهذا شاعر عراقي يقول: فتَّشْتُ طويلاً عن انحطاط المسلمين، فلم أجد غير سببين، أولهما: حجاب المرأة، والثاني: هو كون المسلمين -ولا سيما العرب- منهم يكتبون بلغة غير التي يحكونها.

وفي القرن الفائت تزامن في دول المشرق العربي مع الدعوة إلى العامية إصدار جرائد ومجلات وكتب باللهجات العامية المختلفة، حتى بلغت سبع عشرة جريدة ومجلة عامية، غير عشرات من قصص الأطفال والناشئة تكتب باللهجات المحلية؛ لتربية أولاد المسلمين عليها، وإحلالها محل لغة القرآن.

وتسابق المستشرقون على إصدار عشرات الدراسات والكتب عن اللهجات العامية، وأصولها، ومحاولة وضع القواعد لها؛ وكلها محاولات فشلت بحمد الله تعالى أمام عظمة لغة الضاد، وهلك أصحابها، وهلكت مشاريعهم التخريبية.

ولما اخترعت الإذاعة والتلفزيون نشطت هذه الدعوات الآثمة من جديد، وتبنى الدعوة إليها تلامذة المفسدين المتقدمين، ودعوا في حوارات وبرامج إلى إماتة لغة القرآن واستبدال غيرها بها، وسخَّروا المشاهد التمثيلية والمسرحية الهزلية لهذه المهمة القذرة، فصوروا مدرسي اللغة العربية في أشكالهم وحركاتهم ولباسهم في صور البله والمعاتيه والدراويش، وجعلوهم أضحوكة للمشاهدين والمستمعين، وما من نقيصة إلا ألصقوها بهم، ولا محمدة إلا نفوها عنهم، فوصموهم بالغش والكذب والاستغلال، والجهل والتخلف، والجبن؛ لينقدح في ذهن المستمع والمشاهد أن هيئتهم وأخلاقهم مستمدة مما يدرسون من قواعد اللغة العربية وبلاغتها ونحوها وصرفها، فينصرف الناس عنهم وعن المواد التي يدرسونها، وتُلقى في قلوبهم كراهيتها.

وفي مقابل هذه الصورة المهينة التي ظلموا بها معلمي العربية، فإنهم يصورون مدرسي اللغات الأجنبية في أحسن هيئة وأبهى حلة، ويخلعون عليهم من الأوصاف والأخلاق، والعلم والثقافة، والكرم، والشجاعة، ما أكثره كذب وتزييف؛ ليستقر في ذهن المشاهد والمستمع أن هيئتهم وأخلاقهم وثقافتهم مستمدة من اللغات الأجنبية التي يدرسونها؛ فيحبهم الناس، ويتمنون لأولادهم ما لهم.

وهناك عشرات المشاهد التمثيلية والمسرحية المحفوظة شاهدة على هذا التزييف والإضلال للناس، وهكذا تُصاغ العقول عبر الإعلام، ويُطبع على القلوب، وتُزيف الحقائق، وتُزور المعلومات بما يوافق رغبات المستعمرين وأذنابهم.

وإذا كان كل هذا الإضلال قد وقع في المشرق العربي فإن المغرب العربي قد نال حظه الوافر من حرب على اللغة العربية وعلومها، وعلى من بلَّغ قرآنها ودينها؛ إذ أصبحت لغة القرآن لغة ثانية بعد الفرنسية، وجاء في تقرير أعدته لجنة العمل المغاربية الفرنسية: إنَّ أول واجبٍ في هذه السبيل هو التقليل من أهمية اللغة العربية، وصرف الناس عنها، بإحياء اللهجات المحلية واللغات العامية في شمال إفريقية.

ولن يكل أهل الباطل عن الدعوة إلى باطلهم، ومحاولة دحض الحق به، ولكن الله تعالى مبطل كيدهم، ومحبط عملهم، ومظهر دينه على الدين كله ولو كره الكافرون.

فالأجنبيُّ المستعمرُ يفرض لغتَهُ فرضًا على الأمةِ المستعمرةِ، ويركبُهُم بها، ويشعرُهُم عظمتَهّ فيها، ويستلحقهُم من ناحيتِها؛ فيحكمُ عليهم أحكامًا ثلاثةً في عملٍ واحدٍ. أما الأولُ: فحبسُ لغتِهِم في لغتِهِ سجنًا مؤبدًا. وأما الثاني: فالحكمُ على ماضيهِم بالقتلِ محوًا ونسيانًا. وأما الثالثُ: فتقييدُ مستقبلهِم في الأغلالِ التي يصنعُهَا، فأمرُهُم من بعدِهَا لأمرِهِ تبعٌ ".( وحي القلم).

رابعًا: حال الدول مع لغاتها

اليهود قد أخرجوا عبريتهم من قبرها، وأحيوا مواتها، وجعلوها اللسان الوحيد بينهم، وارتضوها لغة التدريس لطلابهم، حتى في المواد العلمية والتجريبية لا يدرسونها لأولادهم إلا بالعبرية.

واليابانيون الذين بلغوا من التقدم ما بلغوا حافظوا على لغتهم، وجعلوها لغة العلم في بلادهم، وترجموا كتب الغربيين إليها، ولم يفرضوا اللغات الغربية على طلابهم.

وهكذا فعل الكوريون، وهم في الصناعة والتقنيات ما تعلمون، وأما الصينيون فأمرهم عجب؛ إذ ما يصدر اليوم كتاب علمي في الغرب إلا وينبري له المترجمون ليطبع من الغد باللغة الصينية.

أيغار اليهود وأهل الصين واليابان وكوريا على لغاتهم، ويحافظون على ألسن طلابهم، مع أن لغاتهم لا تساوي شيئا أمام لغة القرآن في مفرداتها، وجُملها، وبلاغتها، واستيفائها لحاجات العصر ومصطلحاته ومتطلباته؛ ويتنكر العرب للغتهم العرباء التي اختارها الله تعالى لهم، وأنزل كتابه بها؟! فيزاحمونها باللغات الأجنبية بحجة التقدم والتطور، واستيفاء حاجات العصر.

كيف يفعلون ذلك وهم يرون أن البلاد العربية التي زاحمت عربيتها باللغات الأجنبية ما أفلحت ولا تقدمت؟ ويرون أن البلاد الوثنية التي تقدمت في الشرق قد حافظت على لسانها، وطوعت العلوم للغاتها، وما ضرها ذلك!.

ومن تعلم منذ صغره لغة حتى أضحت لغته الأولى فلا بد أن يتعلم جذورها وثقافتها وتاريخ أهلها، فينتمي إليهم ولو لم يكن من بلادهم، وكثير ممن نشؤوا من أبناء المسلمين على ألسن الغرب ولغاتهم كان ولاؤهم إليهم أكثر من ولائهم لأمتهم وبلدانهم.

خامسًا: واجبنا نحو لغتنا (لغة القرآن)

معرفة فضلها ومكانتها: اعرفوا فضل لغتكم، ومكانتها من دينكم، وقوِّموا بها ألسن أولادكم؛ فإنها لغة القرآن، ولغة الصلاة والعبادة، وكان السلف يعتنون بها، ويؤدبون أولادهم على اللحن فيها.

وأعلموا أنها باب من أبواب عزكم، فإياكم إياكم أن تفرطوا فيها! فإنكم مسئولون يوم القيامة عنها كما قال تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزُّخرف:43-44].

الحفاظُ على هويتِنَا العربيةِ ، ولا بدَّ من النظرِ إلى اللغةِ العربيةِ على أنّها لغةُ القرآنِ الكريمِ والسنةِ المطهرةِ، ولغةُ التشريعِ الإسلاميِّ، بحيثُ يكونُ الاعتزازُ بها اعتزازًا بالإسلامِ وتراثهِ الحضاريِّ العظيمِ، فهي عنصرٌ أساسيٌّ من مقوماتِ الأمةِ الإسلاميةِ والشخصيةِ الإسلاميةِ، والنظرُ إليها على أنّها وعاءٌ للمعرفةِ والثقافةِ بكلِّ جوانِبِهَا، ولا تكونُ مجردَ مادةٍ مستقلةٍ بذاتِهَا للدراسةِ؛ لأنَّ الأمَّةَ التي تُهملُ لغتَهَا أمةٌ تحتقرُ نفسَهَا، وتفرضُ على نفسِهَا التبعيةَ الثقافيةَ.

الحفاظ عليها من التحريف وحمايتها من الجاهلين: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلين» ([2])

ولنعلمَ تمامَ العلمِ واليقينِ أنّ اللهَ – سبحانَهُ وتعالى – حافظٌ كتابَهُ ودينَهُ . قال تعالى:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. (الحجر: 9).

تربية أبناءنا على اللغة العربية: يجب علينا أنْ نربيَ أولادَنَا على منزلةِ ومكانةِ اللغةِ العربيةِ لغةِ القرآنِ الكريمِ ، وأنْ ندرَّبَهم ونعودَهُم عليها ؛ لأنّه لا غنى لنا عنها، كما يجبُ أنْ نعتزَّ بها لا بغيرِهَا ، وعلينا أنْ نعلمَ أنَّ اللغةَ بحرٌ لا تكفي السباحةُ فيه، بل أنْ نغوصَ في مكنونِهِ، ونستخرجَ منه المعاني الجميلةَ والبديعةَ التي تصنعُه وتلبسُه لباسًا جذابًا.

عقاب من يتكلم بغيرها: قال الإمام مالك -رحمه الله تعالى-: مَنْ تكلّم في مسجدنا بغير العربية أُخرِجَ منه.

وقد رأى سيدُنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رجلين وهما يَتَرَاطَنَانِ في الطوافِ، فعلاهُمَا بالدِّرَّةِ وقال: «لا أمَّ لكُمَا، ابتغِيَا إلى العربيةِ سبيلًا». (مصنف عبدالرزاق) . وكان ابنُ عمرَ - رضي اللهُ عنهما - يضربُ أولادَهُ على اللَّحنِ ولا يضربُهُم على الخطأِ. وضربَ عليٌّ - رضي اللهُ عنه - الحسنَ والحسينَ على اللَّحنِ .

وهذا لا يمنع من تعلم اللغات الأخرى، بل هو أمر مطلوب للتواصل مع غير العربيين، ولكن لا يتحدث بغير العربية إلا للضرورة وفي محضر غير العربيين الذي لا يفهمون العربية، أما في المؤتمرات وأثناء حضور المسئولين فلابد من الاعتزاز بلغته العربية وعدم الحديث بغيرها. 

كلمات ينطقها العامة بغير العربية ولابد من العدول عنها إلى العربية اعتزازا بلغتهم العربية

ميرسي أو سانك يو ([3]) : الصواب أن نقول جزاك الله خيرا

عن أسَامة بن زيد رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رسُولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفاعِلهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيراً، فَقَدْ أبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ» ([4])

جود مورننج ([5]): الصواب أن نقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ: «عَشْرُ حَسَنَاتٍ» ، فَمَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَقَالَ: «عِشْرُونَ حَسَنَةً» ، فَمَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ: «ثَلَاثُونَ حَسَنَةً» ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمَجْلِسِ وَلَمْ يُسَلِّمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَوْشَكَ مَا نَسِيَ صَاحِبُكُمْ، إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْمَجْلِسَ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ، وَإِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ، مَا الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الْآخِرَةِ» ([6])

جود باي([7]) : عبدَ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، أنَّ رسولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا ودع رجلا أخذ بيده فلا يدعها حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده ويقول: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ» ([8])

وغيرها الكثير والكثير، فلابد أن نعتز بلغتنا ولا نعدل عنها.

 يجب علينا أن نقوم بخدمة هذه اللغة، وتيسير أمر تعلمها للمسلمين وغير المسلمين وذلك بأن تقوم الحكومات الإسلامية والهيئات والمؤسسات الخيرية والتعليمية والدعوية بافتتاح المدارس والمراكز والمعاهد في مختلف بلاد العالم ، وبخاصة البلاد الإسلامية من أجل نشر لغة القرآن وتقريبها إلى نفوس وقلوب وعقول المسلمين.

استخدام اللغة العربية في كافة أحاديثنا مع بعضنا البعض وفي مراسلاتنا.

التقليل من اللغة الانكليزية في المناهج واعادتها الى اللغة العربية .

توعية المجتمع الاسلامي بأهمية لغتنا العربية في حياتنا .

 

وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين

جمع وترتيب: الشيخ أحمد محمد أبو عيد

01098095854

 

 

 



[1])) صحيح البخاري
[2])) رواه البيهقي (صحيح)
[3])) merci & thank you
[4])) رواه الترمذي (صحيح)
[5])) good morning
[6])) الأدب المفرد (صحيح)
[7])) good bye
[8])) رواه الترمذي (صحيح)

المرفقات

1639544226_لغة القرآن والحفاظ على الهوية للشيخ أحمد أبو عيد.docx

1639544237_لغة القرآن والحفاظ على الهوية للشيخ أحمد أبو عيد.pdf

المشاهدات 1826 | التعليقات 0