{ لعلكم تتقون }

مبارك العشوان
1436/09/09 - 2015/06/26 02:16AM
إن الحمد لله...أما بعد: فاتقوا الله... مسلمون.
عباد الله: كتب الله تعالى الصيام على عباده، وبين سبحانه أن تحقيق التقوى من أعظم الحكمِ لفرضية الصوم؛ قال عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة 183. قال الإمام الرازي رحمه الله: [ إن الصوم يورث التقوى؛ لما فيه من انكسار الشهوة، وانقماع الهوى، فإنه يردع عن الأشرِ والبطر والفواحش، ويهوِّنُ لذاتِ الدنيا ورياستِها، وذلك لأن الصوم يكسرُ شهوةَ البطن والفرج؛ وإنما يسعى الناس لهذين، فمن أكثرَ منه هانَ عليهِ أمرُ هذين وخَفَّتْ عليه مؤنتهما، فكان ذلك رادعا عن ارتكاب المحارم والفواحش ] أ هـ . وقال الإمام السعدي رحمه الله: فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه.
فمما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها، التي تميل إليها نفسه متقربا بذلك إلى الله، راجيا بتركها ثوابه، فهذا من التقوى.
ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه، مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه.
ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يضعف نفوذه، وتقل منه المعاصي. ومنها: أن الصائم في الغالب، تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى. ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع، أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى.
عباد الله: جاء في الحديث: ( وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ) رواه البخاري و مسلم ومعنى: ( جُنَّةٌ ) قيل: وقاية من النار، وقيل وقاية: من المعاصي؛ قال النووي رحمه الله تعالى: ( جُنَّةٌ ) معناه: سترة ومانع من الرفث والآثام، ومانع أيضا من النار.
عباد الله: لقد أوصى الله بالتقوى الأولين والآخرين، وأوصى بها الأنبياء والمرسلين، وأوصى بها عباده المؤمنين، بل إنه سبحانه أوصى بها الناس أجمعين، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء1. وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ) أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
ولما خطب الناس في حجة الوداع أوصى بتقوى الله والسمع والطاعة؛ ولما وعظ الناس فقالوا له يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة .
ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها من ذلك العهد إلى يومنا هذا؛ فلا تكاد تسمع حديثا ولا خطبة إلا وتفتتح أو تختتم بالوصية بتقوى الله.
يوصي عمر بن عبد العزيز رحمه الله رجلا فيكتب له: أوصيك بتقوى الله عز وجل، التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل جعلنا الله وإياك من المتقين.
فعلى الصائم أن يحقق هذا المقصد العظيم (التقوى) عليه أن يتقي الله حق التقوى، وذلك بأن يطاع سبحانه فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. كما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ على الصائم أن يتقي الله في سمعه وبصره وجميع جوارحه، فإنه مسئول عن ذلك كله.
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: [ إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع عنك أذى الجار وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء ]
عباد الله: الصائم المتقي لا يؤذي أحدا، ولا يسب أحدا، ولا يجهل على أحد؛ فصيامه يردعه عن كل ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: ( إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنْ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ ) رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَــــيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ) رواه البخاري.
ألا فصونوا صيامكم رحمكم الله واحفظوه من كل قول وعمل محرم يقدح فيه، أو أيُنقص ثوابه أو ينقضه، فإن الصوم طاعة لله عز وجل، وتعظيم لحرماته، وجهاد للنفس على أوامره بالامتثال، وعلى نواهيه بالاجتناب.
وفي الصوم تربية للنفس على الصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره، قال الشنقيطي رحمه الله: والصائمون من خيار الصابرين؛ لأنهم صبروا لله عن شهوة بطونهم وفروجهم؛ والله يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } الزمر10 .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ....


الخطبة الثانية:
الحمد لله...أما بعد: فإن من ثمرات الصوم وحكمه: تحقيق مراقبه الله عز وجل في نفوس الصائمين، فالصائم يصوم لأجـــل الله تعالى، كما جاء في الحديث القدسي يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي ... ) رواه البخاري . فلأجل مراقبة الله ترى الرجل في شدة الحر والعطش، لا يتجرأ أن يُدخل إلى جوفه قطرة من الماء وتراه في وضوئه يدخل الماء إلى فيه ويتمضمض به ثم يخرجه دون أن تنزل قطرة إلى حلقه، منعته التقوى ومراقبته الله.
ولأجل مراقبة الله ترى المرأة في مطبخها بين أصناف الطعام والشراب، ولا يخطر ببالها أن تأكل أو تشرب شيئا.
أيها الصائم: خذ من صيامك درسا في مراقبة الله عز وجل طوال حياتك، فإذا منعتك مراقبة الله وخوفه ورجاءه أن تأكل من الطيبات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع قدرتك عليها فلتمنعك مراقبة الله من اقتراف المعاصي التي قد تتهيأ لك، وقد تخلو بها عن أنظار الناس، لا عن نظر ربك جل وعلا، قال تعالى :{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } النمل 74 ـ 75.
فراقب أخي المسلم ربك في كل أحوالك، وفي كل أقوالك وأفعالك .
وإذا خلوت بريبة في ظـلـمة * والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها * إن الذي خلق الظلام يراني
ثم صلوا عباد الله صلوا وسلموا ...
عباد الله : اذكروا الله يذكركم ...
المشاهدات 1198 | التعليقات 0