لعلكم تتقون

د. منصور الصقعوب
1432/09/17 - 2011/08/17 10:47AM
معشر الكرام: في القرآن خاطب الله أهل الإيمان بنداءات عديدة, يقول في مطلعها يا أيها الذين آمنوا, وابن مسعود يقول إذا سمعت في القرآن يا أيها الذين آمنوا فأرع لها سمعك فإنها إما خير تؤمر به أو شر تنهى عنه
وحديثنا اليوم هو عن آيات ابتدأت بهذا النداء, عن آيات الصيام في سورة البقرة, وهي آياتٌ جمعت الحُكم والحكمة, والأمر والتعليم والحث والترغيب, وكم يجمل بالمرء أن يتأمل كلام الله, ولسوف يجد فيه الخير والنور.
قال الله في مطلع هذه الآيات ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فالصيام فرض مكتوب, وركن من كل مسلم مطلوب, شرعه الله على العباد لا لتعذيب نفوسهم بالمنع من الأكل والشرب, بل لأجل غاية عظمى تهون عندها هذه المشقة اليسيرة, وهي أن تتحقق في قلوبهم التقوى, وهل شرعت الرسالات وهل قامت الدعوات, وهل خُوِّف العباد ورُهِّبوا, ووعدوا ورغبوا, وهل أُمِر بالأوامر إلا ليتحقق في قلوب العباد تقوى الله.
والصيام من أجل الأعمال التي تعمر القلب بتقوى الله, قال الرازي: (إن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى ؛ فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش ، ويهوِّن لذاتِ الدنيا ورياستها ، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج ، فمن أكثر منه هان عليه أمر هذين ، وخفت عليه مؤونتهما ، فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب المحارم والفواحش ، ومهوناً عليه أمر الرياسة في الدنيا ، وذلك جامع لأسباب التقوى .
وحين ذكر السعدي ما يحققه الصومُ من صور التقوى قال: ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه، مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام، يضعف نفوذه، وتقل منه المعاصي، ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع، أوجب له ذلك، مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى.
معشر الكرام: النفوس بلا تقوى تصبح خواء, لا ترتدع عن معصية ولا تنشط لطاعة, وزاد التقوى خير زاد يدفع المرء ليقبل على الطاعة بنشاط وليراقب الله في كل أموره, وذلك ينال إذا أخذ الناس شهادة التقوى من مدرسة الصيام
هل تصورت ذلك الصائم يلهبه العطش, يرى الماء البارد ويقدر أن يشرب ولا يعلم به أحد, ولكنه يتحرز حتى من القطرة تدخل في فيه حين يمضمض, فما الذي دعاه لذلك إلا التقوى والمراقبة
تقف المرأة بين أصناف المطاعم والمشارب حال صنعها لا تذوق من شيئاً, بل يسأل الناس حتى عن القطرات العلاجية هل تفطر؟ فما الذي جعلهم يتحرزون مع أنهم قد لا يرون إلا تقوى الله ومراقبته تلك التي وجدت في القلب مع الصوم, ومتى ما حيت ونمت فالعبد بخير وفي عافية
عباد الله: ثم تأتي الآيات بتوسيع الله على العباد حين يخبر بأنه لم يشرع عليهم الصوم شهوراً أو كل العام, بل في أيامٍ قليلات معدودات لتحصل الغاية وينالَ المقصود, تقوى الله في النفوس
ثم ذكر الله رخصته للمريض والمسافر بالفطر, فقال سبحانه(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وذاك من يسر الدين, فالمرض والسفر يكون معهما المشقة في الغالب, فيسر الله لهما بالفطر.
وأهل العلم يقررون أن للمسافر أن يترخص بترك الصوم, ولو لم يجد مشقة في صومه, والأفضل له أن يفعل الأيسر في حقه, فإن كان الفطر والصوم سواء, فالجمهور على أن الصوم أفضل, لأنه أبرأ للذمة.
وإذا جاز له الفطر فالأصل أنه يفطر إذا خرج من بنيان البلد, وليس له الفطر قبل ذلك
وأما المريض فله الفطر إذا كان في الصوم حرج عليه.
وعلى المسافر والمريض المفطرين أيام أخر, ولا يلزم في القضاء أن يكون بعد رمضان مباشرة, إلا أن الأفضل المبادرة, وليس له تأخير القضاء إلى رمضان الثاني, فإن أخر قضى واستغفر على التأخير
معشر الكرام: ويقرر الملك العلام بعد ذلك في آي الصيام حقيقة ماثلة للأنام, حين يقارن بين الفطر والصيام فيقول (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وهي وإن كانت في حق المخير بين الصيام والفطر مع الإطعام حين كان الصيام على الخيار في أول الأمر, إلا أنها عامة كما يقرر العلماء, فالصوم خير لنا في ديننا ودنيانا, هو أصلح لقلوبنا وأصح لأبداننا, هو أشفى لأسقامنا, وأنقى لضمائرنا, وأكثر لحسناتنا وأنفى لسيئاتنا, وأهذب لأخلاقنا وقبل ذلك كلِّه هو أرضى لربنا, عبر بوابة الصيام نتعلم الصبر والإرادة, وفي مدرسة رمضان نتربى على الأخلاق والخصال الفاضلة, ننهل من معينها التقوى, نقرب فيها من المولى نتقلب في أبواب خير, وطرق طاعة, وبهذا تعلم أن الصوم –كما قال الله- خير لنا لو كنا نعلم
عباد الله: وشهر الصيام ليس كغيره من الشهور بل هو شهر شرّفه الله ليكون زمناً لينزل فيه أشرف كتاب على أفضل نبي, نزل به أعظم ملك ليكون دستور خير أمة, إنه شهر نزل فيه القرآن, (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ) ذلكم الكتاب الذي سيظل على مر العصور وتوالي الدهور هدى للناس, هداية القلوب وإخباتها, وجلاء النفوس ودوائها, هو القرآن, ولذا فله شأن, وله في رمضان شأن وأي شأن, ففيه ابتدأ نزوله, وفيه كان رسول الله يتدارسه, وفيه كان المسلمون ينشطون لتلاوته, والناس حين يبحثون عن الهدى والبيان فلن يجدوه إلا في النهل من معين القرآن, وشهرك فرصة لأن تكون من أهل القرآن.
إن رمضان هو شهر القرآن, فغبن وحرمانأن تذهب أيامه وتنقضي لياليه وبعضنا ما يزال في أول أجزائه, إن لم نعش مع القرآن, إن لم نكرر ختمه ونداوم قراءته وندمن تدبره في مثل هذه الأيام فمتى سيكون هذا؟!
وكم يسرّ المرء بصورٍ يراها حين تُعمر المساجد أدبارَ الصلوات بأناسٍ احتضنوا كتاب الله, وراحوا يتلون آياته, وهو مشهد جدير بأن يدوم, لا أن يذهب مع مضي أوائل رمضان.
أيها الفضلاء: ثم قال المولى سبحانه بعد ذلك (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) إن الصوم مع ما فيه من بعض المشقة والصعوبة, إلا أن الله لم يُرِد بفرضه على العباد إلا اليسر, وليس في شرع الله عسر, إن مشقة الصيام محتملة, وهي ليست مقصودة لذاتها, وإنما هي ثمن قليل يدفعه الصائم لنيل عوض كبير, ولن يبلغ المرء جنة ربه إلا على جسر من المشقة, وفي هذا يقول ابن القيم: قد استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب ولا يدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق ولذلك حف الجنة بالمكاره والنار بالشهوات, ويقول: ولذة الدنيا والآخرة ونعيمُها، والفوزُ والظفرُ فيهما، لا يصل إليه أحد إلا على جسر الصبر، والسيادة في الدنيا والسعادة في العقبى لا يوصل إليها إلا على جسر من التعب, فحق للصائم أن يصبر على شدة صومه, وليعلم أن الأجر على قدر المشقة والنصب, وأن تعب يومه سيذهب عند فطره, ومشقة صومه ستزول عند لقاء ربه, رزقنا الله العون والقبول
أقول ما سمعتم


الخطبة الثانية
أما بعد عباد الله: وبعد تلك الآيات, قال الملك العلام (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)
وتأمل كيف جعل الله بين آيات الصيام أية الدعاء والمناجاة, لتعلم أن حال الصائم حريةٌ بأن يُجابَ فيها الداعي, وفي مقول الرسول" للصائم عند فطره دعوة لا ترد"
وتأمل كيف عبر الله بقوله (فإني قريب) فلم يجعل سبحانه بينه وبين العباد واسطة رسول, ولم يقل لهم (فقل) كما قال حين سُئل عن الأهلة ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس) وكذا حين سئل عن الجبال وعن اليتامى وعن المحيض, لكن لما كان السؤال هنا عن الله فإن الواسطة لم تذكر, ولم يقل قل لهم, بل قال فإني قريب, الله جل جلاله الذي له العظمة كلها يقول لداعيه وطالبه, يقول لمن رفع إليه يديه: إني قريب اسمع سؤالك, وأجيب دعائك, وهل أحدٌ أعظم من الله, وهل ثمة أحد يجيب الدعاء ويكشف الضراء هل ثمة أحدٌ بيده مقاليد الأمور وعنده خزائن الأرض والسماء غير الله, فيا من أغلقت دونه أبواب الدنيا, يا من اشتدت عليه الأحوال يا من ضاقت عليه السبل دونك بابٌ يعِد الله فيه أنه يجيب السؤال ويلبي المطالب, إنه باب الدعاء, ولا سيما في شهر الصيام, عند الفطر وفي القيام,
كم من عبدٍ أضناه الهم وأقعده المرض وحار الطب في علاجه وعجز البشر عن رفع بلاءه فرفع يديه إلى المجيب, وتوجه إلى الذي يقول (فإني قريب) فجاء الشفاء وارتفع البلاء.
كم من عبدٍ ألمت به البأساء ومسته الضراء فرفع يديه لرب الأرض والسماء فأجابه الله وكشف بلواه
وإني لأدعو الله والأمرُ ضيَق ... علي فما ينفك أن يتفرجا
ورُب فتى سُدتْ عليه وجوهُهُ ... أصاب له في دعوةِ الله مَخرجاً
فأقبل على ربك, وأحسن الظن بمولاك, وارج فضل الكريم وتعرض لنفحات الجواد, واعرض مطالبك على الذي يستحي أن يرد يدي عبده خائبتين, وارفع حوائجك إلى القريب المجيب, واذكر أيها الصائم أن الله قال عند كلامه على الصيام (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب)
وبعد: فهذه إطلالة على تلك الآيات, وشذرة في ظلال معانيها, حوت تذكيراً ولم تحط بالآية علماً, واليقين أنه لو تكلم المتكلمون وأفاض المتحدثون لما أوفوا آية واحدة حقها من الحديث, اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ووفقنا لتدبره وللعلم بمعانيه.
المشاهدات 1590 | التعليقات 0