لعلّـــــــه خيـــــــــــــــــــــــــــر
محمد بن سليمان المهوس
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيِثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: فِي هَذِهِ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي أَوْجَبَ اللهُ فِيهَا الْجِهَادَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِيَكُفُّوا شَرَّ الأَعْدَاءِ عَنْ دِينِهِمْ وَبِلاَدِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، وَهُوَ كُرْهٌ لَهُمْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْعَنَاءِ وَمُجَالَدَةِ الأَعْدَاءِ، قَالَ تَعَالَى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ}، وَهَذَا فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ؛ بَلْ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا؛ لأَنَّ الْغَيْبَ لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللهُ، وَهُوَ مِمَّا اخْتَصَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} أَحَاطَ سُبْحَانَهُ بِالْغَيْبِ الْحَاضِرِ، فَيَعْلَمُ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ، وَمَاذَا فِي قِيعَانِ الْبِحَارِ، وَمَاذَا فِي أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ مِمَّا لاَ نَرَاهُ وَلاَ نُدْرِكُهُ، وَأَحَاطَ بِالْغَيْبِ الْمُسْتَقْبَلِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ سُبْحَانَهُ، لاَ يَعْلَمُهُ وَلاَ يُدْرِكُهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلاَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلاَ أَيُّ مَخْلُوقٍ كَانَ، قَالَ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.
وَالإِنْسَانُ خُلِقَ ضَعِيفًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} فَهُوَ ضَعِيفٌ فِي تَصَرُّفِهِ وَإِدْرَاكِهِ؛ فَقَدْ يَتَصَوَّرُ الْبَعِيدَ قَرِيبًا وَالْقَرِيبَ بَعِيدًا، وَالنَّافِعَ ضَارًّا وَالضَّارَّ نَافِعًا، وَلاَ يُدْرِكُ النَّتَائِجَ الَّتِي تَتَمَخَّضُ عَنْ تَصَرُّفَاتِهِ.
فَلاَ يَعْلَمُ غَيْبًا، وَلاَ يُدْرِكُ مُسْتَقْبَلاً، وَلاَ يُعِيدُ أَمْسًا لأَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَضَعْفُهُ مُلاَزِمٌ لَهُ طُولَ حَيَاتِهِ فِي رَبِيعِ الْعُمْرِ وَفِي خَرِيفِهِ، قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}.
فَلاَ يَعْلَمُ الْخَيْرَ أَوِ الشَّرَّ الْمُقَدَّرَ الْعَاجِلَ أَوِ الآجِلَ عَلَى بَنِي آدَمَ إِلاَّ اللهُ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
فَعَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نُؤْمِنَ بِاللهِ تَعَالَى وَنَمْتَثِلَ أَمْرَهُ، وَنَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَنُحْسِنَ الظَّنَّ بِهِ وَنَثِقَ بِهِ، وَنَنْتَظِرَ الْخَيْرَ مِنْهُ فِيمَا نُحِبُّ وَنَكْرَهُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَجْعَلُ فِي الْمِحَنِ مِنَحًا، وَالْمَضَرَّةُ قَدْ يَكُونُ فِي عَاقِبَتِهَا مَسَرَّةٌ، وَتَأَمَّلُوا قَصَصَ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ -عَلِيهِمُ السَّلاَمُ- كَمْ مِنَ الْمِحَنِ كَانَتْ فِي حَقِيقَتِهَا مِنَحًا! وَكَمْ مِنَ الابْتِلاَءَاتِ تَجَلَّتْ بَعْدَ ذَلِكَ نِعَمًا وَمَكْرُمَاتٍ! وَمَا حَدَثَ لِرَسُولِنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لَهُوَ أَعْظَمُ دَلِيلٍ وَشَاهِدٍ! هَذَا الصُّلْحُ الَّذِي أَغَاظَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِجْحَافٍ بِحَقِّهِمْ؛ حَيْثُ إِنَّ مِنْ شُرُوطَ هَذَا الصُّلْحِ: أَلاَّ يَدْخُلَ الْمُسْلِمُونَ مَكَّةَ لِمُدَّةِ عَشْرَ سَنَوَاتٍ، وَأَنْ يَتَحَلَّلُوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَعَدُّوا الْعُدَّةَ لِلْعُمْرَةِ وَاتَّجَهُوا لِمَكَّةَ مُلَبِّينَ، وَأَنْ يَرُدُّوا مَنْ أَتَاهُمْ مُسْلِمًا إِلَى قُرَيْشٍ، وَأَمَّا مَنِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ فَلاَ يُسَلَّمُ لِلْمُسْلِمِينَ! فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: عَلامَ نَرْضَى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟! أَوَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ؟
لَكِنَّ هَذَا الصُّلْحَ الْمُجْحِفَ أَفْضَى إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ، الْفَتْحِ الْعَظِيمِ بَعْدَ أَنْ نَقَضَتْ قُرَيْشٌ الْعَهْدَ قَبْلَ مُرُورِ عَامٍ عَلَيْهِ، فَكَانَ هَذَا الصُّلْحُ عِزًّا وَرِفْعَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَذُلاًّ لِلشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.
فَاللهُ جَلَّ وَعَلا لاَ يَخْلُقُ شَرًّا مَحْضًا لاَ خَيْرَ فِيهِ! بَلْ هُوَ وَإِنْ كَانَ شَرًّا فِي صُورَتِهِ إِلاَّ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ كَثِيرًا مِنَ الْخَيْرِ! لِذَلِكَ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» فَكَمْ مِنْ مِحْنَةٍ كَانَتْ فِي حَقِيقَتِهَا مِنْحَةً! وَكَمْ مِنْ بَلاَءٍ تَجَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ نَعْمَاءَ! وَكَمَا قِيلَ:
رُبَّ أَمْـرٍ تَـتَّـقِيـهِ |
|
جَـرَّ أَمْـرًا تَـرْتَضِـيهِ |
خَـِفيَ الْمَحْـُبوبُ مِنْـهُ |
|
وَبَـدَا الْمَكْـرُوهُ فِيــهِ |
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الآيَاتِ وَالْحِكْمَةِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .. أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ بَعْدَ بَذْلِ الأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ، فَإِذَا وَقَعَ شَيْءٌ عَلَى خِلاَفِ مَا تُحِبُّونَ فَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فَفِي كُلِّ مَا قَدَّرَ اللهُ تَعَالَى فَهُوَ خَيْرٌ، وَإِلَى خَيْرٍ! فَإِذَا كَرِهْتَ شَيْئًا قَدْ أَصَابَكَ، أَوْ سَمِعْتَ خَبَرًا أَزْعَجَكَ فَقُلْ: (لَعَلَّهُ خَيْرٌ) لِتَشْعُرَ بِالرَّاحَةِ فِي قَلْبِكَ وَبِالطُّمَأْنِينَةِ فِي نَفْسِكَ، وَتُعِينُكَ بَعْدَ اللهِ عَلَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ، وَعَلَى زِيَادَةِ ثِقَتِكَ بِهِ، وَعَلَى الرِّضَا بِمَا يُقَدِّرُ وَيَكْتُبُ لَكَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ».
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
المرفقات
خير-4
خير-4
المشاهدات 2553 | التعليقات 2
جزاك الله خيرا
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق