لطف الله بالعباد،والوصية بالتوكل،واستلهام العبر(للشيخ عبدالله بن سليمان التميمي)

محمد بن عبدالله التميمي
1441/10/19 - 2020/06/11 01:12AM

الحمد لله، الحمد لله الذي جمعنا بعد فُرْقَة ولَمَّنا بعد شتات، له الحمد في الأولى والآخرة، وبيده المحيا والممات، أحمده سبحانه عدد الأفلاك الدائرات والنجوم السائرات وعدد الجماد والنبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحاط علمه بالكائنات، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله عظيم الأخلاق كريم الصفات، فَضَّله الله على سائر الخلق وختم به الرسالات، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته الأنجم الزهر والكواكب المضيئات، وسلم تسليما كثيرا مزيدا ما عسعس ليل أو تنفس صبح وعدد النور والظلمات، أما بعد:

فمهما انقطعنا عباد الله ثم عدنا فلا أجد أحسن من الوصية بالتقوى؛ لتكون الجنة موعدنا، يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا، فاتقوا الله رحمكم الله الذي خلقكم وآواكم، ورزقكم وقواكم، فما من نعمة إلا وهو منشئها ومسديها، وما من عطية إلا وهو متفضل بها ومعطيها، وتذكروا يوم وِفَادتكم عليه، ووقوفكم بين يديه، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية، فأعدوا العدة وتأهبوا بالزاد قبل الرحلة، فاليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل، يوم التلاق {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.

أيها المسلمون.. صَبِيٌّ في المهد لا يقدر على شيء، ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، يُجعَل في خشبة ثم يُلقَى في مستنقع الماء ويترك، فأنَّـى له السلامة والنجاة، إنه الهلاك المحقق، والنهاية المؤلمة، فكيف إذا ألقي في بحر مظلم القاع، متلاطم الأمواج، مليء بالهلكات؟!

لكنه لطفُ الله وخَفِيُّ رحمته فوق كل التصورات، ويتجاوز كل المحسوسات والمعقولات، ذلكم يا عباد الله موسى عليه السلام حين أمر الله أمه أن تلقيه في اليم، فماذا كانت عاقبة ذلك اللطف وذلك الحفظ ويلزم لطف الله هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في جميع مراحل حياته ودعوته فيعيش ويتربى في بيت عدوه ويشب فيه ثم يختم ذلك بأن يضرب البحر بعصا لنفلق وينجو من معه من بني إسرائيل ويهلك الله فرعون وقومه كما قصه الله علينا في كتابه.

والكريمُ ابنُ الكريمِ ابنُ الكريمِ ابنُ الكريم يوسف بن يعقوب عليه السلام يتقلب في مِـحَـنٍ عظيمة، ولطفُ الله يلازمه فيها حتى تحقق له التمكين في الأرض وصار من أمره ما صار.

بل أنت عبد الله تذكر لطف الله بك وأنت في بطن أمك في ظلماتٍ ثلاث -ظلمةِ البطن وظلمةِ الرحم وظلمةِ المشيمة- وأنت غارق فيها، حتى أمك التي تحملك ما تراك، ولا تملك لك ضرا ولا نفعًا ولا رزقًا، بل اللهُ اللطيف هو الذي يحفظك ويرزقك ويرعاك، ويُجْرِي في عروقك الحياة، ويُوَكِّلُ بك ملائكتَه، من أول مراحل خلقك ونشأتك حتى تخرج إلى سعة الدنيا بعد تسعة أشهر.

الله سبحانه اللطيف الذي لطف بالأنبياء والصالحين من عباده من قبلك، الذي لطف بك وحفظك هنالك، أفيعجز سبحانه أن يحفظك من هذا الوباء والجائحة؟!

إن الله خفي اللطف عظيم الرحمة وسمى نفسه باللطيف وأخبر أنه لطيف بعباده فقال {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} إن اسم اللطيف يتضمن علمه بالأشياء الدقيقة وإيصاله الرحمة بالطرق الخفية واللطيف الذي أحاط علمه بالسرائر والخفايا وأدرك الخبايا والبواطن والأمور الدقيقة اللطيف بعباده المؤمنين الموصل إليهم مصالحهم بلطفه وإحسانه من طرق لا يشعرون بها.

فأبشر عبدَ الله، فتدبيرُ اللهِ خير من تدبيرك، واختياره لك خير من اختيارك لنفسك، فاستصحب هذا اللطف من ربك الرحيم في هذه الأحوال، تجد راحة وطمأنينة ورضا، يدفع عنك كل خوف وروعة وعناء.

وتوكلوا على الله أيها المؤمنون فالأمر كله بيده ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو النافع الضار المعطي المانع ولا حول ولا قوة إلا به {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وليس معنى التوكل أيها المؤمنون أن يَطَّرِحَ العبدُ الأسباب بالكلية ولا يأخذ بها، وليس إسقاط الأسباب من التوحيد، بل القيام بها واعتبارها وإنزالها منازلها التي أنزلها الله فيها هو محض التوحيد والعبودية، كما قال ابن القيم رحمه الله.

فتوكلوا على الله وخذوا بالأسباب التي تَحُدُّ من تفشي الوباء وانتشاره من أسبابٍ شرعية كالأدعية والأذكار وغيرها، ومِن أسبابٍ حسية تُوجِّه لها الجهات المسؤولة من التوقي وترك الاجتماعات وتقليل اللقاءات، ولأهل الخبرة قولهم واعتبارهم، ومن أحس شيئًا فليعزل نفسه ولا يؤذي عباد الله المؤمنين، وأجره ونيته بالغة عند الله مبلغا عظيما.

فاتقوا الله عباد الله واستلهموا الدروس والعبر مما قَدَّره الله من نزول هذه الجائحة وعموم هذا البلاء، فإن لله حكمةً بالغةً في كل ما يقدره، والموفق من هبَّ من رقدته، واستيقظ من غفلته، ووقف مع هذا الحدث وقفة عبرة وادّكار، وعظة واعتبار، وأبشروا عباد الله من رب رحيم كريم خيرا، فإن الوباء في إدبار وانحسار، بإذن العزيز الجبار، فاللهم تابع علينا البشرى، وَعُد علينا وعلى إخواننا المسلمين جميعا بلطفك الخفيِّ والجلي.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، ثم أما بعد:

فإن من أَجَلِّ الحكم التي يستلهمها المؤمن من هذه الأحداث والوقائع أن الله يبتلي عباده بهذا الابتلاء: ليُوقظ قلوبًا غافلة تَرَدَّت في وَحدة الخسار، ووقعت في مستنقعات المعاصي والأرجاس، فالله يستعتب عباده ليُعْتِبُوه، ويحركهم ليُرْضُوْه، ولقد ذَمّ الله أقواما غفلوا عن هذه السنن والموقظات ودرجوا في غوايتهم حتى جاءهم العذاب، فقال سبحانه {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} ابتليناهم بالمصائب والشدائد فما ما ردهم ذلك عما كانوا فيه بل استمروا على ضلالهم وما دعوا، كما قال سبحانه {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وإن الذي لا تحركه هذه المزعجات ولا تقلقله هذه المصائب والابتلاءات فيه شبه بمن ذمهم الله تعالى وقال فيهم {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا}، ولقد كانت عاقبة أولئك وخيمة ونهايتهم مؤلمة.

إنها دعوة صادقة ونذير صارخ لنا وللخلق جميعا أن نتوب إلى الله مما جنت أيدينا ونطهر أنفسنا ومجتمعاتنا من أرجاس المعاصي والخطيئات التي بشؤمها تنزل أمثال هذه الطواعين والأوجاع فالمعاصي هي أصل كل شر وبلاء يقع في الدنيا، وما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة.

وبَعدُ أيها المؤمنون فإننا نشكر الله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وفي كل وقت وحين على ما قدر وعلى حسن بلائه علينا وعلى نعمه العظيمة التي تحيط بنا فإن الشكر يمتد إلى الدولة ورجالاتها وكل مسؤول سعى في تخفيف وطأة هذه المحنة ووقف بجانب المرضى ونخص منهم رجالات الصحة من أطباء وممرضين ومعاونيهم الذين لهم تضحية ظاهرة وجهود عالية عسى أن يكون لهم نصيب من قوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} فلهم منا وافر الشكر وعظيم الدعاء وحسن الثناء.

------------------------------

لمن أراد الاستماع للخطبة : https://www.youtube.com/watch?v=DkSB79iZRa4

المرفقات

لطف-الله-بالعباد-خطبة-للشيخ-عبدالله-بن

لطف-الله-بالعباد-خطبة-للشيخ-عبدالله-بن

المشاهدات 1461 | التعليقات 0