لبقية الفاضلة
الخطيب المفوه
1432/12/08 - 2011/11/04 05:15AM
البقية الفاضلة
د . سعد الدريهم
د . سعد الدريهم
إنَّ الحمدَ لله ، نحمدُه ونستعينه ونستغفره ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله ؛ فلا مضلَّ له ، ومن يضللْ ؛ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعدُ : فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد e، وشرَّ الأمور مُحـدثاتُها ، وكلَّ محـدثةٍ بدعــةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أَيُّهَا الأحبة ، قبل أسبوع وفي مثل هذا اليوم ؛ كنا نستقبل أول أيام العشر ، وكان الناس على جانب من الحرص لاستغلال هذه الأيام المباركات بأنواع الطاعات .. مر سبعة أيام من هذه العشر الفاضلة ، وستمر بقية الأيام ، وسيمر العمر كله كذلك ، ولكن لو قلنا لبعض ممن عمل الصالحات في هذه الأيام المنصرمة الفائتة : حدثنا عنها ، لا ريب أنه سيقول : زال التعب ، وبقي الأجر إن شاء الله ، وهكذا العمر أيها الجمع الكريم ، يتلاشى التعب من محياه ويبقى الأجر عند ربك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، نسأل الله أن نكون من أولئك القوم .
فيا من فرط في فضل هذه الأيام لا يفوتنك البقية الفاضلة منها ، وما بقي خير مما مضى ، فلقد بقي يوم التروية وهو يومكم هذا ولم يرد في صومه أو العملِ فيه أثرٌ مخصوص ، وبقي يومُ عرفة ، وهو خير يوم طلعت فيه الشمس ، وهو يوم المباهاة ، حيث يباهي الله بأهل الموقف أهل السماوات، ويقول إثر ذلك : ما أراد هؤلاء ؟ فيقولون مغفرتَك ورضوانك ، فيقول الحق سبحانه وتعالى : أشهدكم أني قد غفرتُ لكم ، فيُغْفَرُ لأهل الموقف أجمعين ممن حسنت نيته وإن قَصُر عمله ، ببركة الجمع ، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم ، ولم يُرَ الشيطانُ أدحرَ ولا أذلَ منه في ذلك اليوم ؛ لما يرى من تنزل الرحمات من الله على عباده ، وفي ذلك اليوم يتجلى الكرم الإلهي حيث يُعْتِقُ الله عبيده من النار ، وفضل الله واسع حيث يشترك الحجاج وغيرهم في هذا الفضل ..
ويوم عرفة أيها الجمع الكريم ، هو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم فيه النعمة ، ويوم كهذا اليوم في الفضل لا بد أن يكون العمل فيه ليس كغيره من الأيام لذا كان صيامُه يكفر سنتين سنة ماضيةً ومستقبله ، وكذلك بقية الأعمال لها فضلها . يقول النبي r : « صيامُ يوم عرفة أحتسبُ على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والتي بعده » الحديث رواه مسلم .
ولا يفوتنك وأنت تتفيأ ظلال ذلك اليوم العظيم يومِ عرفة الدعاءَ فيه، يقول النبي r : « خير الدعاء دعاءُ يوم عرفة ، وخير ما قلته فيه والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير » الحديث رواه الترمذي وصححه الألباني ، فألظوا أيها الأحبة ، في يوم عرفة بالدعاء ، وتقللوا فيه من الأعمال الدنيوية والاشتغالِ بها ؛ فلربما أدركتم فيه نفحة من نفحات ربكم تسعدكم وتهديكم سبل الرشاد ، والتجارة الحقة مع الله تكون باهتبال المواسم الفاضلة وعمارتها بطاعة الله ، حيث يقطع الإنسان فيها الكثير من المراحل ، ويستعين بها في الترقي في مراتب العبودية .
وليس الفضل في البقية الباقية أيها الجمع الكريم ، قاصراً على يوم عرفة ، بل ثمة يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر ، وبعده أولُ يوم من أيام التشريق وهو يوم القر ، يقول النبي r : « أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر » الحديث رواه أحمد وصححه الألباني . إذ في هذين اليومين الأعمال العظيمة للحجاج والمقيمين ؛ من أداء أعمال الحج وكذلك ذبحِ الهدي والأضاحي ، وهي عبادات جليلة كريمة على الله سبحانه وتعالى ، وفي هذه الأيام يتوسع الناس ويوسعون على أهليهم في الأكل والشرب ، كما أنه يشرع فيها الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى ، وقد صح عن النبي r أنه قال : « أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله » الحديث رواه مسلم، بل إن هذه الأيام الخمسة عرفةَ والنحر وأيام التشريق الثلاثة لعظمها وفضلها الذي ذكرت جعلها النبي r عيداً ، فقال : « يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام ، وهي أيام أكل وشرب » الحديث رواه أهل السنن إلا ابن ماجه ، وصححه الألباني .
وإن من أعظم ما يفعله المقيم يوم النحر أيها الأحبة في الله ، ذبح الأضاحي ، وهي سنة الخليلين إبراهيم ومحمدٍ عليهما الصلاة والسلام ، وما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم ، وهي سنة مؤكدة على أصح أقوال أهل العلم ، وقيل : واجبة ، وهي من بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم ، ولا بد أن يُراعى فيها شروط ثلاثة ، أولها السن المعتبرة شرعاً ، وهو في الإبل خمس سنين ، وفي البقر سنتان ، وفي المعز سنة ، وفي الضأن ستة أشهر، وتجزئ الإبل والبقر عن سبعة ، والغنم عن أهل البيت ، والثاني من الشروط : أن تكون سالمة من العيوب التي نهى عنها الشارع، وهي أربعة عيوب : العرجاء البين عرجها ، والمريضة البين مرضها ، والعوراء البين عورها ، والعجفاء الهزيلة ، وكلما كانت أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل ، والشرط الثالث : أن تقع الأضحية في الوقت المحدد، ويبدأ بعد الفراغ من صلاة العيد وخطبته ، وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث بعد العيد .
واحرصوا أيها الأحبة في الله ، على مباشرة الذبح بأنفسكم كما فعل نبيكم r ، ومن لم يستطع فليحضرها ، ولتكن ما استطاع في بيته ؛ لكي تترسخ هذه السنة في نفوس الأبناء ، ولتكن شفرتك حادة لتريح الذبيحة ، ولا تكن بمحضر من مثيلاتها، وكلوا منها وتصدقوا واهدوا على الأغنياء وسلوا الله القبول ، والله يتقبل من المتقين .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه ، أحمده سبحانه وأشكره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسله ، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيأيها الأحبة في الله ، لا أدري لماذا الناس في بلادنا لا يقيمون وزناً لصلاة العيد ولا يرفعون بها رأساً مع عظمها وفضلها ؛ مع أن طائفة من العلماء يقولون بوجوبها ، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول : صلاة العيد واجبة على الأعيان ، أي على كل بعينه ؛ فإنها من أعظم شعائر الإسلام ، والناس يجتمعون لها أعظم من الجمعة . اهـ
ولو نظرنا في البلدان الخارجية من حولنا لعلمنا مدى التفريط الواقع من قبل الكثير منا في هذا الأمر ؛ بل إن بعض الدول تجد مصليات العيد تكتظ بالمصلين حتى تعجز عن أهلها ، صغاراً وكباراً رجالاً ونساء ، وهذه هي السنة عن نبيكم r إذ أمر بالخروج للمصليات وهو أمر عام ؛ حتى ذواتُ الأعذار مأموراتٌ بالخروج وإن كنا يجتنبن المصلى ، وذلك لكي يشهدن مواسم الخير، فما بالنا عن هذا الخير معرضين أيها الجمع الكريم ، فعلينا أن نأمر من تحت أيدينا بالحرص على هذا الخير وانتجاعه .
والسنة في عيد الأضحى التبكير ، وألا تأكل قبل الصلاة شيئاً ؛ لكي تأكل من أضحيتك بعده ، وعليكم بالخروج من فج والرجوع من آخر ، وامشوا إن تيسر لكم المشي ، وعليكم أن تدركوا أن مواسم الأعياد مواسم يهتبلها الموفقون لتصفية النفوس والتخفف من أحقادها ؛ لكي يجتمع للإنسان في ذلك اليوم جمال الظاهر والباطن ، والله نسأل أن يعيننا على أنفسنا فنأخذ بها لسبل الفلاح والنجاح ؛ إنه جواد كريم .