لبس الحرير بين الممنوع والمسموح
د. محمود بن أحمد الدوسري
لبس الحرير بين الممنوع والمسموح
د. محمود بن أحمد الدوسري
18/2/1438
الحمد لله ...
قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26]، والرِّيش: هو الجمال؛ أي: ما تتجمَّلون به من الثِّياب(1).
وإذا كانت الشَّريعة الغرَّاء قد أباحت لكلٍّ من الرَّجل والمرأة التَّزُّين ولا سيَّما في اللِّباس، فإنَّها قد راعت في ذلك ألاَّ تكون الإباحة على إطلاقها، وإنَّما قيَّدتها بقيود، منها: تحريم بعض أنواع اللِّباس على كلٍّ من الرَّجل والمرأة تعبُّداً لله تعالى؛ لذا أوجد الإسلام فرقاً بين لباس الرَّجل ولباس المرأة، سواء كان فيما يتَّصل بالمادَّة المنسوجة التي يجوز لبسها، أو لا يجوز، أو كان الفرق متَّصلاً بمواصفات الملبوس تبعاً لجنس اللاَّبس، وسيكون الحديث عن المادَّة المنسوجة التي يصحُّ لبسها، أو لا يصحُّ، لكلا الجنسين, وأعني به لبس الحرير.
فما هو الحرير؟
الحرير: ثياب تُصنع من نسيج دودة القزِّ، وسُمِّي حريراً؛ لخلوصه. يُقال لكلِّ خالصٍ: مُحرَّر، وحرَّرت الشَّيء: خلَّصته من الاختلاط بغيره(2).
أيها الإخوة الكرام .. ينتظم هذا الموضوع في سبع مسائل:
المسألة الأولى: ما حكم لبس الحرير للرَّجل؟
الحرير من أهمِّ ما يلبس للزِّينة، وهو شعار النُّعومة واللِّين، والمبالغةُ في الزِّينة والتَّنعُّم ليس من صفات الرَّجل، إنَّما هو من صفات المرأة، وقد نهى الشَّرع عن تشبُّه الرَّجل بالمرأة.
والرَّجل مُطالب بزينةٍ معتدلة لا مبالغة فيها؛ حتَّى يكون أهلاً لتحمُّل المشاقِّ، إضافةً أنَّ لبس الحرير فيه تشبُّه بالكفَّار، فهو من لباسهم في الدُّنيا، علاوة على ذلك، فإنَّ الأحاديث صرَّحت بنهي الرَّجل عن لبسه.
لذا ذهب الأئمَّة الأربعة إلى تحريم الحرير الخالص على الرَّجل، بل حكى النَّووي وابنُ قدامة الإجماعَ على ذلك(3).
واستدلَّ أهل العلم على تحريم لبس الحرير للرَّجل، بأدلَّة كثيرة من السُّنَّة، منها:
1- ما جاء عن أبي موسى رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ اللهَ عزّ وجل أحَلَّ لإِنَاثِ أُمَّتِي الحَرِيرَ وَالذَّهَبَ، وَحَرَّمَهُ عَلَى ذُكُورِهَا»(4).
2- وما جاء عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه قال: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم حريراً بشماله، وذهباً بيمينه، ثمَّ رَفَعَ بهما يديه، فقال: «إنَّ هَذَينِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، حِلٌّ لإِنَاثِهِمْ»(5).
3- وما جاء عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ، وَالحَرِيرُ والدِّيبَاجُ، هِي لَهُمْ [الكفار] فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ [المؤمنون] فِي الآخِرَةِ»(6). فالمسلمون لهم في الجنة الحرير والذهب, وما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.
4- وما جاء عن عُمَرَ رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ لَبِسَ الحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ»(7).
فهذا وعيد شديد يدل على أن لباس الحرير للرجال من كبائر الذنوب, فمن لبس الحرير في الدنيا – ولم يتب – فإنه لا يلبسه في الآخرة(7).
5- وفي لفظٍ آخر عن عُمَرَ رضي الله عنه مرفوعاً: «إِنَّمَا يَلْبَسُ الحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لاَ خَلاَقَ (8) لَهُ فِي الآخِرَةِ»(9).
فالحرير- بأنواعه - محرَّم على الرَّجل، وجائز للمرأة، وهذا الوعيد الشَّديد لا يكون إلاَّ في محرَّمٍ شديدِ الحرمة.
أيها الإخوة الكرام .. مع ملاحظة أن الحرير الذي ورد النص الشرعي بتحريمه على الرجال هو الحرير الأصلي الطبيعي الذي يخرج من نسيج دودة القز، أمَّا إذا كان هذا الحرير صناعياً، فإنه لا يحرم لبسه على الرجال؛ لأنه ليس حريراً حقيقياً.
المسألة الثانية: ما حكم لبس الحرير للمرض والحاجة؟
جوَّز الأئمَّة الثَّلاثة، والإمام مالك - في رواية ابن حبيبٍ – لُبْسَ الحرير؛ للحاجة والمرض بشرطين(10):
الشَّرط الأول: إذا كان قليلاً لا يزيد عرضُه عن أربع أصابع، كرقعة في الثَّوب، أو تطريز، أو في أطراف الثَّوب، ونحو ذلك.
* عن سُوَيْدِ بنِ غَفَلَةَ؛ أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه خَطَبَ بالجَابِيَةِ فَقَالَ: «نَهَى نَبِيُّ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ، إلاَّ مَوْضِعَ إِصْبَعَيْنِ، أَوْ ثَلاَثٍ، أَوْ أَرْبَعٍ»(11).
الشَّرط الثاني: لعارِضِ المرض؛ كالأمراض الجلديَّة ونحوها.
* عن أنسٍ رضي الله عنه قال: «رَخَّصَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي لُبْسِ الحرِيرِ، لحِكَّةٍ بِهِمَا»(12).
قال ابن حجر رحمه الله: «قال الطَّبري: فيه دلالةٌ على أنَّ النَّهي عن لبس الحرير، لا يدخل فيه مَنْ كانت به علَّة، يُخفِّفها لبس الحرير»(13).
المسألة الثالثة: ما حكم افتراش الرَّجل الحرير؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين، الرَّاجح منهما: أنَّه لا يجوز افتراش الرَّجل الحرير، وهو مذهب الجمهور، منهم: المالكيَّة والشَّافعية والحنابلة، وقال به أبو يوسف ومحمد من الحنفيَّة(14).
واستدلوا على تحريم افتراش الحرير للرَّجل، بما جاء عنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قال: «نَهَانَا النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم... عَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ»(15).
وإذا كان الشرع قد حَرَّم على الرَّجل لبس ما زاد على أربع أصابع من الحرير، فكيف يُجيز الافتراش الذي يصل إلى عدَّة أمتار(16) ؟!
المسألة الرابعة: ما حكم إلباس الصَّبي الحرير؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال، الرَّاجح منها: أنَّه لا يجوز إلباس الصَّبي ما زاد على أربع أصابع من الحرير، والإثمُ على مَنْ يُلبسه لا عليه؛ لأنَّه ليس من أهل التَّحريم، وهو قول الحنفيَّة، وَوَجْهٌ للشَّافعية، وأصحُّ الرِّوايتين عند الحنابلة(17).
واستدلوا:
1- بما تقدَّم من قول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم - في الحرير والذَّهب: «إِنَّ هَذَينِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، حِلٌّ لإِنَاثِهِمْ»(18). فقد أدار النبيُّ صلى الله الحُكم على الذكورة, والصِّبيانُ داخلون فيه لا يخرجون إلاَّ بدليل، ولا دليلََ على ذلك.
2- ما جاء عن جابرٍ رضي الله عنه – في الحرير - قال: «كُنَّا نَنْزِعُهُ عَنِ الغِلْمَانِ، وَنَتْرُكُهُ عَلَى الجَوَارِي»(19).
وعن حكمة تحريم الحرير على الصَّبي، يقول ابن القِّيم رحمه الله: «يحرم على الوليِّ أن يُلْبِسَه الصَّبيَّ؛ لما ينشأ عليه من صفات أهل التَّأنيث»(20).
الخطبة الثانية
الحمد لله ...
المسألة الخامسة: ما الحكمة من تحريم الحرير على الذُّكور؟
لو قال قائل: إنَّ لِباس الحرير من أعدلِ اللِّباس وأوفَقه للبدن، فلماذا حَرَّمته الشَّريعةُ على الرِّجال، وقد أباحت الطَّيِّبات، وحرَّمت الخبائث، والحريرُ - قَطْعاً - ليس خبيثاً؟
أيها الأحبة .. ذكر أهلُ العلم عِدَّةَ حِكَمٍ في سبب هذا التَّحريم، منها:
1- أنَّ الشَّريعة حرَّمته؛ لتصبرَ النُّفوسُ عنه، وتتركَه لله تعالى، ولا سيَّما ولها عوَضٌ عنه بغيره، فهو داخلٌ في عموم الابتلاء والامتحان، ومَنْ تركه في الدُّنيا من الرِّجال كان له زينة في الجنَّة جزاءً وفاقاً.
2- أنَّ الحرير خُلِقَ - في الأصل - للنِّساء، كالحِلية بالذَّهب، فَحَرُم على الرِّجال؛ لما فيه من مفسدة تشبُّه الرِّجال بالنِّساء.
3- حَرُمَ؛ لما يورثه بملامسته للبدن من الأنوثة والتَّخَنُّث، وهو ضِدُّ الشَّهامة والرُّجولة؛ فإنَّ لُبْسَه يُكسب القلبَ صفةً من صفات الإناث، ولهذا لا تكاد تجدُ مَنْ يَلْبَسُه - في الأعمِّ الأغلب - إلاَّ وعلى شمائله من التَّخَنُّث والتَّأنُّث، والرَّخاوة ما لا يخفى(21).
عباد الله .. فإنْ صحَّتْ فهي حِكَمٌ معقولة، وإلاَّ فالحكمة كلُّ الحكمة في اتِّباع شرع الله تعالى، والانقياد له بالطَّاعة، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
المسألة السادسة: ما حُكم لبس الحرير للمرأة؟
يجوز للمرأة لبس الحرير بأنواعه، وقد وقع الإجماع على ذلك(22).
واستدلوا:
1- بما تقدَّم من قول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم ـ في الحرير والذَّهب: «إنَّ هَذَينِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، حِلٌّ لإِنَاثِهِمْ»(23).
2- عن عليٍّ رضي الله عنه؛ أنَّ أُكَيْدِرَ دُوْمَةَ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم ثَوْبَ حَرِيرٍ، فَأَعْطَاهُ عَلِيّاً، فَقَالَ: «شَقِّقْهُ خُمُراً(24) بَيْنَ الفَوَاطِمِ(25) »(26).
المسألة السابعة: ما حكم افتراش الحرير للمرأة؟
لأهل العلم في هذه المسألة قولان، الرَّاجح منهما: أنَّ افتراش الحرير جائز للنِّساء، وهو مذهب الجمهور، منهم: الحنفيَّة والمالكيَّة، وأكثر الشَّافعية والحنابلة(27).
واستدلوا بما تقدَّم من قول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم - في الحرير والذَّهب: «إِنَّ هَذَينِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، حِلٌّ لإِنَاثِهِمْ»(28).
ففيه تصريح بِحلِّ الحرير للنِّساء مطلقاً، من دون تفريقٍ بين اللُّبس والافتراش، ولم يأت دليل يُحرِّم افتراش الحرير على النِّساء، والأصل في ذلك الإباحة، حتَّى يرد دليل مانع، ولا يوجد البتَّة.
ــــــــــ
(1) انظر: تفسير البغوي (2/155).
(2) انظر: لسان العرب، (4/117).
(3) انظر: المجموع (4/438)؛ المغني (1/588).
(4) صحيح – رواه النسائي, (8/190)، (ح5265).
(5) صحيح – رواه ابن ماجه، (2/1189)، (ح3595).
(6) رواه البخاري، (4/1860)، (ح5834).
(7) انظر: شرح رياض الصالحين, لابن عثيمين (ص 909).
(8) (الخلاق): هو النصيب, أي: مَنْ لا نصيب له في الآخرة.
(9) رواه البخاري، (4/1860)، (ح5835).
(10) انظر: شرح معاني الآثار (4/250) للطحاوي؛ (2/412)؛ مغني المحتاج (1/306)؛
الإنصاف (1/475).
(11) رواه مسلم، (3/1643)، (ح2069).
(12) رواه البخاري, (4/1861)، (ح5839).
(13) فتح الباري (10/29).
(14) انظر: البحر الرائق (8/189)؛ مغني المحتاج (1/306)؛ الإنصاف (1/475).
(15) رواه البخاري، (4/1861)، (ح5837).
(16) انظر: المجموع, (4/435).
(17) انظر: الفتاوى الهندية (5/331)؛ نهاية المحتاج (1/376)؛ المغني (1/591).
(18) تقدم تخريجه هامش رقم (5).
(19) صحيح – رواه أبو داود, (4/50)، (ح4059).
(20) زاد المعاد (4/80).
(21) انظر: زاد المعاد, (4/79-80).
(22) انظر: المجموع (4/442)؛ صحيح مسلم بشرح النووي (6/32)؛ المغني (1/588).
(23) تقدم تخريجه هامش رقم (5).
(24) (خُمُراً): جمع خِمار، وهو ما يوضع على رأس المرأة.
(25) (الفَوَاطِم): قال الهرويُّ والأزهريُّ، والجمهورُ: إنَّهن ثلاثٌ. فاطمةُ بنتُ رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم، وفاطمةُ بنتُ أسدٍ - وهي أمُّ عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه،
وهي أوَّل هاشميَّةٍ وُلدت لهاشميٍّ، وفاطمةُ بنتُ حمزةَ بن عبد المطلب رضي الله عنه.
انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (14/50-51).
(26) رواه مسلم، (3/1645)، (ح2071).
(27) انظر: المجموع (4/442)؛ مغني المحتاج (1/306).
(28) تقدم تخريجه هامش رقم (5).
المرفقات
الحرير-بين-الممنوع-والمسموح
الحرير-بين-الممنوع-والمسموح