لبرلة الردة / الشيخ ابراهيم السكران
احمد ابوبكر
1434/04/24 - 2013/03/06 05:11AM
الردة بين الحد والحرية، صالح بن علي العميريني، دار التدمرية، الطبعة الأولى، 1434هـ.
الحمد لله وبعد،،
بعد خمسة عشر قرناً من استقرار أحكام الإسلام في نصوص الوحي، وآثار الصحابة والتابعين، وتقريرات المذاهب الأربعة، تفاجأ المسلمون بالتفوق المادي للمجتمعات الغربية وتعلق الناس بثقافتها التي تمركز "الحرية الليبرالية".
وتفاجأ المعنيون بأمر الإسلام أمام هذا السؤال؟ أعني سؤال الموقف من الثقافة الليبرالية الغالبة؟
فجماهير الفقهاء والدعاة مالوا إلى ضرورة التمسك بنص الإسلام كما أنزل وكما فهمته القرون المفضلة، مع الأخذ بالأسباب والوسائل المادية المعاصرة.
وذهبت طوائف من العلمانيين إلى رفض أحكام الإسلام ببجاحة وضرورة السير في ركب الثقافة الليبرالية الغازية.
بينما بقيت طائفة من المحبين للإسلام وبنفس الوقت مبهورين بالغرب مترددة نوعاً ما، ومالت إلى ضرورة القيام بإعادة تفسير لأحكام الإسلام بحيث ينسجم مع قيم ومفاهيم الحرية الليبرالية الغالبة اليوم، بحيث نجمع بين اسم الإسلام ومحتوى الحرية الليبرالية، وابتدأوا فعلاً في سلسلة تأويلات لأحكام الإسلام المتعارضة مع الحرية الليبرالية الغالبة، كمفاهيم الجهاد وأحكام أهل الذمة وحشمة المرأة والولاء والبراء والحدود والعقوبات والتعازير وقاعدة الإلزام الخ، ومن أكثر ما تعرض للتأويل اليوم تحت ضغط غلبة الحرية الليبرالية هو (عقوبة قتل المرتد).
وممن انتسب للطريق الثالث وكتب فيه هو د.طه العلواني حيث كتب كتاباً لتأويل وشطب عقوبة قتل المرتد التي استقرت عليها النصوص والآثار ومذاهب الفقهاء رفعاً للحرج عن الإسلام كما يرى.
وهذا الكتاب –أعني كتاب د.العلواني- صار له رواج نوعاً ما بين المعجبين بهذا الطريق الثالث، أعني طريق تأويل الأحكام الشرعية لتنسجم مع ثقافة الحرية الليبرالية الغالبة اليوم، وقد فاجأنا معرض الكتاب الحالي 1434هـ بالرياض بصدور دراسة علمية حديثية جادة للباحث صالح بن علي العميريني لمناقشة كتاب د.العلواني بعنوان (الردة بين الحد والحرية: قراءة نقدية في كتاب "لا إكراه في الدين" للدكتور طه العلواني) دار التدمرية، الطبعة الأولى، 1434هـ.
من أول ما لفت انتباهي في هذا الكتاب أن المؤلف الشيخ العميريني في رده على د.العلواني اختار مسلكاً أدبياً في الحوار صرّح به بوضوح تام منذ البدء حيث يقول الشيخ العميريني (وقد حرصت وبشكل كبير أن يكون الحوار هادئاً متوازناً، بين أخٍ وأخيه)[ص10].
وفي مطلع الكتاب تنبيه منهجي في غاية الأهمية، وأرى أن ذكر المؤلف له هو من ذكاء المنهجية العلمية، حيث أن من أنكروا عقوبة قتل المرتد في الإسلام متفاوتون ففيهم من ينكر مصدرية السنة النبوية أصلاً، ومثل هذا من الخطأ مناقشته في مسألة تطبيقية كأحاديث قتل المرتد، بل هذا مشكلته تتبع لمستوى مختلف، فيجب أن يبدأ معه بإثبات مصدرية السنة النبوية، والنقاش مع مثل هذه الشريحة في مسألة قتل المرتد يشبه رفع الدعوى قبل نصب القاضي! ولذلك يقول المؤلف في مقدمة الكتاب (وأحب أن أنبه القارئ أن كتابي هذا موجّه لمن يؤمن بالسنة النبوية كمصدر للتشريع، أما من أعرض عنها فإن للحوار معه منحى آخر، ليس هو مكان البحث)[ص10].
ولما جاء المؤلف الشيخ العميريني بكتابه هذا إلى محدث العصر شيخنا عبد الله السعد –أبقاه الله لنا- ليراجع الكتاب ويقرّظه، تفاجأ الباحث بأن لدى الشيخ عبد الله بحث سابق لم ينشر، كتبه الشيخ عبد الله السعد قبل ثلاث سنوات، يرد فيه على أحد الصحفيين بجريدة الرياض لطعنه في حديث (من بدّل دينه فاقتلوه)، وبحث الشيخ عبد الله السعد يقع في (50 صفحة) تقريباً، فاتفقا على أن يكون هذا البحث للشيخ عبد الله ملحقاً بالكتاب، وقد ازدان به كتاب الشيخ العميريني فعلاً.
ومن المهم دوماً في البحوث العلمية عدم الركون إلى النتائج المطمورة المستقرة في الأذهان، بل يجب إعادة فحص كثير مما يظنه الناس عناصر معطاة، ووضعها تحت مجهر التحقيق والتحرير، وفي هذا الكتاب نموذج جيد لذلك، وذلك في تعامله مع الآية الكريمة (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). فماذا صنع المؤلف؟ عمد المؤلف إلى إعادة استعراض أقوال المفسرين في معنى هذه الآية التي يتداولها بكثرة دعاة (لبرلة الردة) دون رجوع لتفسيرها في كتب علم التفسير، والحقيقة أن الباحث العلمي الموضوعي الجاد إذا قرأ ما ساقه المؤلف من كلام أهل العلم في تفسير هذه الآية سيدرك حجم المسافة الفلكية بين معنى الآية فعلاً، وبين توظيف دعاة (لبرلة الردة) لها.
وحين استعرض المؤلف أحكام الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة (وبلغت في الكتاب 14 أثراً عن الصحابة ص28) فإن الباحث الموضوعي يلفت انتباهه فوراً شدة حضور هذا الحكم الشرعي بين الصحابة، وأنه حكم شرعي في غاية الاستقرار.
والعجيب فعلاً أنه برغم أن المذاهب الفقهية الأربعة اختلفوا في كثير جداً من الفروع الفقهية، إلا أنهم لم يختلفوا في أصل عقوبة المرتد، حيث عقد المؤلف فصلاً استعرض فيه المذاهب الأربعة في هذه العقوبة الجنائية. بل إن المؤلف الشيخ العميريني ساق (21) نصاً من نصوص أهل العلم في إثبات إجماع علماء الإسلام في عقوبة قتل المرتد[ص42]
لما أخذت أطالع في هذا الكتاب فصل الأحاديث الواردة في عقوبة المرتد، ثم آثار الصحابة في عقوبة المرتد، ثم استقرار المذاهب الأربعة طوال خمسة عشر قرناً على عقوبة المرتد، والإجماعات المنقولة، وبنفس الوقت لم يأتِ الاستشكال في هذه العقوبة إلا مع سطوة الفكر الليبرالي الغالب، أخذت أقول في نفسي: هل يوجد باحث يحترم العلم، ويوقر البرهان؛ يقبل فكرة أن أحاديث قتل المرتد فهمت خطأ، والصحابة والتابعون أخطأوا في فهمها، والمذاهب الأربعة أخطأت في فهمها أيضاً، وأننا للتو اكتشفنا موقف الإسلام من المرتد بعد خمسة عشر قرناً لما ضغطت علينا الثقافة الليبرالية الغالبة؟ والله إنني دائماً أتساءل هذا السؤال: هل من يشكك في عقوبة المرتد جاد ومقتنع حقاً من الداخل؟ هل يعقل هذا؟
بكل صراحة أخذت أقول في نفسي: لو جاءني شخص وقال: (بالمعايير العلمية لا شك أن قتل المرتد عقوبة شرعية، لكنني أجد فيها إشكالاً بسبب أن مزاج العصر في الحريات الليبرالية لا يتقبلها) أو لو قال قائل أن (عقوبة قتل المرتد لا شك أنها قضية شرعية لكن يتعذر علينا تطبيقها في ظروف الاستضعاف التي نعيشها اليوم لفقد الوسع والاستطاعة). لتفهمت كلياً هذا القائل، بل لاحترمت هذا القائل، الذي يفرّق بين الضغط الثقافي الخارجي وبين العلم والبرهان.
لكن أن يأتي شخص ويقول لم نكتشف موقف الشريعة من المرتد إلا بعد خمسة عشر قرناً بعد انتصار الغرب الليبرالي، وكل ما فهمه الصحابة والتابعون والمذاهب الأربعة كان سوء فهم! يا جماعة بالله عليكم هل هذا كلام معقول؟! والله إني في غاية الدهشة كيف يقبل شخص مثل هذه الفرضية!
وفي مطلع كتاب د.العلواني تحدث عن أحداث سياسية في تصفية الخصوم سببت له ظروف نفسية عميقة دعته إلى إعادة بحث عقوبة المرتد، والحقيقة أن صاحبنا الشيخ العميريني كان حاذقاً في وضع هذا النص تحت عدسة التحليل واستكشاف الدوافع التي دفعت د.العلواني لشطب عقوبة المرتد، وأنها دوافع وظروف نفسية مرّ بها، وليست دوافع علمية موضوعية تبحث عن الدليل والبرهان بغض النظر عن احتمالات الاستغلال والتوظيف السياسي التي لا تسلم منها أي عقوبة شرعية أو قانونية، فأي عقوبة شرعية أو قانونية يستطيع استغلالها النظام الفاسد لقمع خصومه.
وفي تقديري الشخصي، كمجرد قارئ لكتاب الشيخ العميريني، فإن أطرف ما فيه، ومن أكثره إبداعاً، أن الدكتور العلواني قرر في كتابه أن قاعدة (شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ) المذكورة في أصول الفقه أنها من دسائس اليهود في الإسلام، وأنها اختراق معرفي خطير صنعه اليهود في ديننا، وهدفهم من ذلك هو إدخال الآصار والأغلال التي كانت في دينهم في ديننا، كما يقول د.العلواني: تسربت جملة هائلة من الإسرائيليات، منها قاعدة شرع من قبلنا، ففتحت الباب لاحقاً أمام أخطر عملية اختراق معرفي، عرفتها البشرية. [الردة بين الحد والحرية، ص82].
فماذا صنع المؤلف الشيخ العميريني؟ قام الباحث بعملية علمية في غاية الهدوء والإبداع، ذهب واستعرض كتب الأصول والفقه وجرد المسائل التي احتج فيها الفقهاء بقاعدة (شرع من قبلنا) ووضعها في جدول، فجاء عددها (35) مسألة فقط! ثم حلل أثر هذه القاعدة في كل مسألة، هل احتج بها على التشديد؟ أم على التخفيف؟ فجاءت (19) مسألة منها احتج بها على التخفيف والتيسير، و (4) مسائل فقط احتج بها على التشديد، بينما (10) مسائل لا صلة لها بالتخفيف والتشديد كالأخذ بالقرعة والعمل بالقرائن ونحوها.
فهذا الذي يسميه د.العلواني "أخطر اختراق معرفي لبث الآصار والأغلال" لا يعدو كونه 35 مسألة من أصل آلاف الفروع الفقهية، وأيضاً جمهور هذه المسائل إنما استعملت في التخفيف والتيسير أصلاً وليست في التشديد! أي في نقيض الهدف الذي يزعمه الدكتور العلواني!
وهذا يعني أنه لو جاء شخص آخر وقال إن (قاعدة شرع من قبلنا اختراق من المسيحية لبث التخفيفات والتيسيرات التي عرفت بها شريعتهم) لكان كلامه أقرب من كلام د.العلواني الذي جعل قاعدة شرع من قبلنا اختراق يهودي لبث الآصار والأغلال التي عرفت بها شريعتهم، برغم أن المقولتين كلاهما باطلتان، لكن المراد بيان أن بعض الباطل أبطل من بعض، وأن بعض الباطل يكون نقيضه أقرب منه برغم كونه باطلاً أيضاً، وهذا غاية ما يكون في بيان مفارقة مثل هذه الأطروحات للعلم.
لا أكتم القارئ أن هذا الفصل في كتاب الشيخ العميريني أدخل في نفسي بهجة علمية عبّرت للمؤلف عنها، وها أنا أعيد كتابتها أيضاً.
ومن أغرب الشائعات المتداولة بين دعاة (لبرلة الردة) أنهم ينسبون لـ(عمر بن الخطاب وسفيان الثوري وإبراهيم النخعي) أنهم يخالفون في عقوبة قتل المرتد، ولو ثبت هذا لكان خلافاً محفوظاً معتبراً ينقض أي إجماع مزعوم، لكن هذه شائعات غير علمية يتواردون على نقلها عن بعضهم البعض، وقد عقد المؤلف العميريني فصلاً ممتازاً وضّح فيه بمنهج علمي حديثي دقيق حقيقة موقف هؤلاء الأئمة من عقوبة قتل المرتد، وأنها لا صلة لها بشائعات دعاة (لبرلة الردة).
ومن المظاهر الشائعة في كتابات دعاة لبرلة الإسلام عموماً أنهم يحددون النتيجة سلفاً ثم يبحثون عن القاعدة الشرعية التي تخدمهم، ولذلك تجدهم في مسألة يأخذون بقاعدة، وفي مسألة أخرى يرفضون هذه القاعدة لأنها تعكّر على نتيجتهم المرغوبة، ومن أمثلة ذلك أنك تجدهم تارة يأخذون بمنهج ابن حزم الظاهري لأن القياس يفضي لنتيجة ضد الليبرالية، وتارةً تجدهم يشنعون على الحرفية والجمود ويأخذون بالقياس لأن ظاهر النص يعرقل النتيجة الليبرالية المرغوبة، وهكذا.
وفي كتاب الشيخ العميريني نماذج ممتازة لذلك، منها أن د.العلواني رفض حديث (أمرت أن أقاتل الناس) بحجة أن فيه "تدليس"، ولكن لما أتى لأحد آثار إبراهيم النخعي التي يمكن أن يفهم منها منع قتل المرتد قبل الأثر وعظّمه مع أن فيه نفس التدليس الذي رفضه في حديث أمرت أن أقاتل الناس، فصار التدليس تارةً مرفوضاً لأنه ينبني عليه نتيجة ضد الحرية الليبرالية، وتارةً مقبولاً ويتسامح فيه لأنه يأتي بنتيجة تدفع باتجاه الحرية الليبرالية. [الردة بين الحد والحرية، ص126].
ومن المعالجات الحديثية المهمة في الكتاب جمع روايات إبراهيم النخعي في قوله (يستتاب المرتد أبداً) ومنها رواية (يستتاب المرتد كلما ارتد) والتي توضح أن رواية النخعي وضعت في غير موضعها، فكلمة النخعي هي جواب على مسألة: هل يستتاب المرتد إذا كرر الردة؟ أم يستتاب في المرة الأولى فقط؟ فأجاب النخعي بأن المرتد يستتاب أبداً، وليست المسألة في أصل عقوبة الردة، ومما يؤكد ذلك أن النخعي يفتي بقتل المرتدة بعد الاستتابة، والمرتدة فيها خلاف، فكيف يفتي بقتل ما فيه خلاف قوي، وعدم قتل ما ليس فيه خلاف أصلاً [الردة بين الحد والحرية، ص122].
وفي نظري الشخصي فإن أخص خصائص هذا الكتاب البديع هو "روح النقد الحديثي" في دراسة نصوص المسألة، وآثار الصحابة والتابعين، والحقيقة أنني لا يوجد –بحسب اطلاعي- أي مقالة أو كتاب لدعاة (لبرلة الردة) فيها شيء من هذا النفس الحديثي، بل ولا مُدّه ولا نصيفه، فضلاً عن أن يتجاوزه.
وقد كنت دائم التساؤل: كيف يجرؤ كتّاب (لبرلة الإسلام) على الخوض في الأحكام الشرعية المبنية على نصوص السنة النبوية دون أدنى بحث حديثي للنصوص النبوية والآثار الصحابية؟! بل كيف يقنعون أنفسهم، وكيف يقتنع القارئ لهم، بأحكام شرعية دون دراسة أحاديثها النبوية وآثارها الصحابية؟! لكن إذا رخص العلم في نفس المرء، وانخفضت كلفة البحث العلمي في عقل الباحث، خرجت مثل هذه المظاهر، ولله في خلقه شؤون.
أتمنى لكم قراءة ممتعة لهذا الكتاب البديع، وأتمنى أن أجد مثل هذا البحث الرصين في كل حكم شرعي من الأحكام التي كتب فيها دعاة (لبرلة الإسلام) بشكل غير علمي ولا منهجي ولا موضوعي، وإنما تحت تأثير ظروف ضغط ثقافية خارجية.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المصدر: اكثر وعيا
الحمد لله وبعد،،
بعد خمسة عشر قرناً من استقرار أحكام الإسلام في نصوص الوحي، وآثار الصحابة والتابعين، وتقريرات المذاهب الأربعة، تفاجأ المسلمون بالتفوق المادي للمجتمعات الغربية وتعلق الناس بثقافتها التي تمركز "الحرية الليبرالية".
وتفاجأ المعنيون بأمر الإسلام أمام هذا السؤال؟ أعني سؤال الموقف من الثقافة الليبرالية الغالبة؟
فجماهير الفقهاء والدعاة مالوا إلى ضرورة التمسك بنص الإسلام كما أنزل وكما فهمته القرون المفضلة، مع الأخذ بالأسباب والوسائل المادية المعاصرة.
وذهبت طوائف من العلمانيين إلى رفض أحكام الإسلام ببجاحة وضرورة السير في ركب الثقافة الليبرالية الغازية.
بينما بقيت طائفة من المحبين للإسلام وبنفس الوقت مبهورين بالغرب مترددة نوعاً ما، ومالت إلى ضرورة القيام بإعادة تفسير لأحكام الإسلام بحيث ينسجم مع قيم ومفاهيم الحرية الليبرالية الغالبة اليوم، بحيث نجمع بين اسم الإسلام ومحتوى الحرية الليبرالية، وابتدأوا فعلاً في سلسلة تأويلات لأحكام الإسلام المتعارضة مع الحرية الليبرالية الغالبة، كمفاهيم الجهاد وأحكام أهل الذمة وحشمة المرأة والولاء والبراء والحدود والعقوبات والتعازير وقاعدة الإلزام الخ، ومن أكثر ما تعرض للتأويل اليوم تحت ضغط غلبة الحرية الليبرالية هو (عقوبة قتل المرتد).
وممن انتسب للطريق الثالث وكتب فيه هو د.طه العلواني حيث كتب كتاباً لتأويل وشطب عقوبة قتل المرتد التي استقرت عليها النصوص والآثار ومذاهب الفقهاء رفعاً للحرج عن الإسلام كما يرى.
وهذا الكتاب –أعني كتاب د.العلواني- صار له رواج نوعاً ما بين المعجبين بهذا الطريق الثالث، أعني طريق تأويل الأحكام الشرعية لتنسجم مع ثقافة الحرية الليبرالية الغالبة اليوم، وقد فاجأنا معرض الكتاب الحالي 1434هـ بالرياض بصدور دراسة علمية حديثية جادة للباحث صالح بن علي العميريني لمناقشة كتاب د.العلواني بعنوان (الردة بين الحد والحرية: قراءة نقدية في كتاب "لا إكراه في الدين" للدكتور طه العلواني) دار التدمرية، الطبعة الأولى، 1434هـ.
من أول ما لفت انتباهي في هذا الكتاب أن المؤلف الشيخ العميريني في رده على د.العلواني اختار مسلكاً أدبياً في الحوار صرّح به بوضوح تام منذ البدء حيث يقول الشيخ العميريني (وقد حرصت وبشكل كبير أن يكون الحوار هادئاً متوازناً، بين أخٍ وأخيه)[ص10].
وفي مطلع الكتاب تنبيه منهجي في غاية الأهمية، وأرى أن ذكر المؤلف له هو من ذكاء المنهجية العلمية، حيث أن من أنكروا عقوبة قتل المرتد في الإسلام متفاوتون ففيهم من ينكر مصدرية السنة النبوية أصلاً، ومثل هذا من الخطأ مناقشته في مسألة تطبيقية كأحاديث قتل المرتد، بل هذا مشكلته تتبع لمستوى مختلف، فيجب أن يبدأ معه بإثبات مصدرية السنة النبوية، والنقاش مع مثل هذه الشريحة في مسألة قتل المرتد يشبه رفع الدعوى قبل نصب القاضي! ولذلك يقول المؤلف في مقدمة الكتاب (وأحب أن أنبه القارئ أن كتابي هذا موجّه لمن يؤمن بالسنة النبوية كمصدر للتشريع، أما من أعرض عنها فإن للحوار معه منحى آخر، ليس هو مكان البحث)[ص10].
ولما جاء المؤلف الشيخ العميريني بكتابه هذا إلى محدث العصر شيخنا عبد الله السعد –أبقاه الله لنا- ليراجع الكتاب ويقرّظه، تفاجأ الباحث بأن لدى الشيخ عبد الله بحث سابق لم ينشر، كتبه الشيخ عبد الله السعد قبل ثلاث سنوات، يرد فيه على أحد الصحفيين بجريدة الرياض لطعنه في حديث (من بدّل دينه فاقتلوه)، وبحث الشيخ عبد الله السعد يقع في (50 صفحة) تقريباً، فاتفقا على أن يكون هذا البحث للشيخ عبد الله ملحقاً بالكتاب، وقد ازدان به كتاب الشيخ العميريني فعلاً.
ومن المهم دوماً في البحوث العلمية عدم الركون إلى النتائج المطمورة المستقرة في الأذهان، بل يجب إعادة فحص كثير مما يظنه الناس عناصر معطاة، ووضعها تحت مجهر التحقيق والتحرير، وفي هذا الكتاب نموذج جيد لذلك، وذلك في تعامله مع الآية الكريمة (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). فماذا صنع المؤلف؟ عمد المؤلف إلى إعادة استعراض أقوال المفسرين في معنى هذه الآية التي يتداولها بكثرة دعاة (لبرلة الردة) دون رجوع لتفسيرها في كتب علم التفسير، والحقيقة أن الباحث العلمي الموضوعي الجاد إذا قرأ ما ساقه المؤلف من كلام أهل العلم في تفسير هذه الآية سيدرك حجم المسافة الفلكية بين معنى الآية فعلاً، وبين توظيف دعاة (لبرلة الردة) لها.
وحين استعرض المؤلف أحكام الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة (وبلغت في الكتاب 14 أثراً عن الصحابة ص28) فإن الباحث الموضوعي يلفت انتباهه فوراً شدة حضور هذا الحكم الشرعي بين الصحابة، وأنه حكم شرعي في غاية الاستقرار.
والعجيب فعلاً أنه برغم أن المذاهب الفقهية الأربعة اختلفوا في كثير جداً من الفروع الفقهية، إلا أنهم لم يختلفوا في أصل عقوبة المرتد، حيث عقد المؤلف فصلاً استعرض فيه المذاهب الأربعة في هذه العقوبة الجنائية. بل إن المؤلف الشيخ العميريني ساق (21) نصاً من نصوص أهل العلم في إثبات إجماع علماء الإسلام في عقوبة قتل المرتد[ص42]
لما أخذت أطالع في هذا الكتاب فصل الأحاديث الواردة في عقوبة المرتد، ثم آثار الصحابة في عقوبة المرتد، ثم استقرار المذاهب الأربعة طوال خمسة عشر قرناً على عقوبة المرتد، والإجماعات المنقولة، وبنفس الوقت لم يأتِ الاستشكال في هذه العقوبة إلا مع سطوة الفكر الليبرالي الغالب، أخذت أقول في نفسي: هل يوجد باحث يحترم العلم، ويوقر البرهان؛ يقبل فكرة أن أحاديث قتل المرتد فهمت خطأ، والصحابة والتابعون أخطأوا في فهمها، والمذاهب الأربعة أخطأت في فهمها أيضاً، وأننا للتو اكتشفنا موقف الإسلام من المرتد بعد خمسة عشر قرناً لما ضغطت علينا الثقافة الليبرالية الغالبة؟ والله إنني دائماً أتساءل هذا السؤال: هل من يشكك في عقوبة المرتد جاد ومقتنع حقاً من الداخل؟ هل يعقل هذا؟
بكل صراحة أخذت أقول في نفسي: لو جاءني شخص وقال: (بالمعايير العلمية لا شك أن قتل المرتد عقوبة شرعية، لكنني أجد فيها إشكالاً بسبب أن مزاج العصر في الحريات الليبرالية لا يتقبلها) أو لو قال قائل أن (عقوبة قتل المرتد لا شك أنها قضية شرعية لكن يتعذر علينا تطبيقها في ظروف الاستضعاف التي نعيشها اليوم لفقد الوسع والاستطاعة). لتفهمت كلياً هذا القائل، بل لاحترمت هذا القائل، الذي يفرّق بين الضغط الثقافي الخارجي وبين العلم والبرهان.
لكن أن يأتي شخص ويقول لم نكتشف موقف الشريعة من المرتد إلا بعد خمسة عشر قرناً بعد انتصار الغرب الليبرالي، وكل ما فهمه الصحابة والتابعون والمذاهب الأربعة كان سوء فهم! يا جماعة بالله عليكم هل هذا كلام معقول؟! والله إني في غاية الدهشة كيف يقبل شخص مثل هذه الفرضية!
وفي مطلع كتاب د.العلواني تحدث عن أحداث سياسية في تصفية الخصوم سببت له ظروف نفسية عميقة دعته إلى إعادة بحث عقوبة المرتد، والحقيقة أن صاحبنا الشيخ العميريني كان حاذقاً في وضع هذا النص تحت عدسة التحليل واستكشاف الدوافع التي دفعت د.العلواني لشطب عقوبة المرتد، وأنها دوافع وظروف نفسية مرّ بها، وليست دوافع علمية موضوعية تبحث عن الدليل والبرهان بغض النظر عن احتمالات الاستغلال والتوظيف السياسي التي لا تسلم منها أي عقوبة شرعية أو قانونية، فأي عقوبة شرعية أو قانونية يستطيع استغلالها النظام الفاسد لقمع خصومه.
وفي تقديري الشخصي، كمجرد قارئ لكتاب الشيخ العميريني، فإن أطرف ما فيه، ومن أكثره إبداعاً، أن الدكتور العلواني قرر في كتابه أن قاعدة (شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ) المذكورة في أصول الفقه أنها من دسائس اليهود في الإسلام، وأنها اختراق معرفي خطير صنعه اليهود في ديننا، وهدفهم من ذلك هو إدخال الآصار والأغلال التي كانت في دينهم في ديننا، كما يقول د.العلواني: تسربت جملة هائلة من الإسرائيليات، منها قاعدة شرع من قبلنا، ففتحت الباب لاحقاً أمام أخطر عملية اختراق معرفي، عرفتها البشرية. [الردة بين الحد والحرية، ص82].
فماذا صنع المؤلف الشيخ العميريني؟ قام الباحث بعملية علمية في غاية الهدوء والإبداع، ذهب واستعرض كتب الأصول والفقه وجرد المسائل التي احتج فيها الفقهاء بقاعدة (شرع من قبلنا) ووضعها في جدول، فجاء عددها (35) مسألة فقط! ثم حلل أثر هذه القاعدة في كل مسألة، هل احتج بها على التشديد؟ أم على التخفيف؟ فجاءت (19) مسألة منها احتج بها على التخفيف والتيسير، و (4) مسائل فقط احتج بها على التشديد، بينما (10) مسائل لا صلة لها بالتخفيف والتشديد كالأخذ بالقرعة والعمل بالقرائن ونحوها.
فهذا الذي يسميه د.العلواني "أخطر اختراق معرفي لبث الآصار والأغلال" لا يعدو كونه 35 مسألة من أصل آلاف الفروع الفقهية، وأيضاً جمهور هذه المسائل إنما استعملت في التخفيف والتيسير أصلاً وليست في التشديد! أي في نقيض الهدف الذي يزعمه الدكتور العلواني!
وهذا يعني أنه لو جاء شخص آخر وقال إن (قاعدة شرع من قبلنا اختراق من المسيحية لبث التخفيفات والتيسيرات التي عرفت بها شريعتهم) لكان كلامه أقرب من كلام د.العلواني الذي جعل قاعدة شرع من قبلنا اختراق يهودي لبث الآصار والأغلال التي عرفت بها شريعتهم، برغم أن المقولتين كلاهما باطلتان، لكن المراد بيان أن بعض الباطل أبطل من بعض، وأن بعض الباطل يكون نقيضه أقرب منه برغم كونه باطلاً أيضاً، وهذا غاية ما يكون في بيان مفارقة مثل هذه الأطروحات للعلم.
لا أكتم القارئ أن هذا الفصل في كتاب الشيخ العميريني أدخل في نفسي بهجة علمية عبّرت للمؤلف عنها، وها أنا أعيد كتابتها أيضاً.
ومن أغرب الشائعات المتداولة بين دعاة (لبرلة الردة) أنهم ينسبون لـ(عمر بن الخطاب وسفيان الثوري وإبراهيم النخعي) أنهم يخالفون في عقوبة قتل المرتد، ولو ثبت هذا لكان خلافاً محفوظاً معتبراً ينقض أي إجماع مزعوم، لكن هذه شائعات غير علمية يتواردون على نقلها عن بعضهم البعض، وقد عقد المؤلف العميريني فصلاً ممتازاً وضّح فيه بمنهج علمي حديثي دقيق حقيقة موقف هؤلاء الأئمة من عقوبة قتل المرتد، وأنها لا صلة لها بشائعات دعاة (لبرلة الردة).
ومن المظاهر الشائعة في كتابات دعاة لبرلة الإسلام عموماً أنهم يحددون النتيجة سلفاً ثم يبحثون عن القاعدة الشرعية التي تخدمهم، ولذلك تجدهم في مسألة يأخذون بقاعدة، وفي مسألة أخرى يرفضون هذه القاعدة لأنها تعكّر على نتيجتهم المرغوبة، ومن أمثلة ذلك أنك تجدهم تارة يأخذون بمنهج ابن حزم الظاهري لأن القياس يفضي لنتيجة ضد الليبرالية، وتارةً تجدهم يشنعون على الحرفية والجمود ويأخذون بالقياس لأن ظاهر النص يعرقل النتيجة الليبرالية المرغوبة، وهكذا.
وفي كتاب الشيخ العميريني نماذج ممتازة لذلك، منها أن د.العلواني رفض حديث (أمرت أن أقاتل الناس) بحجة أن فيه "تدليس"، ولكن لما أتى لأحد آثار إبراهيم النخعي التي يمكن أن يفهم منها منع قتل المرتد قبل الأثر وعظّمه مع أن فيه نفس التدليس الذي رفضه في حديث أمرت أن أقاتل الناس، فصار التدليس تارةً مرفوضاً لأنه ينبني عليه نتيجة ضد الحرية الليبرالية، وتارةً مقبولاً ويتسامح فيه لأنه يأتي بنتيجة تدفع باتجاه الحرية الليبرالية. [الردة بين الحد والحرية، ص126].
ومن المعالجات الحديثية المهمة في الكتاب جمع روايات إبراهيم النخعي في قوله (يستتاب المرتد أبداً) ومنها رواية (يستتاب المرتد كلما ارتد) والتي توضح أن رواية النخعي وضعت في غير موضعها، فكلمة النخعي هي جواب على مسألة: هل يستتاب المرتد إذا كرر الردة؟ أم يستتاب في المرة الأولى فقط؟ فأجاب النخعي بأن المرتد يستتاب أبداً، وليست المسألة في أصل عقوبة الردة، ومما يؤكد ذلك أن النخعي يفتي بقتل المرتدة بعد الاستتابة، والمرتدة فيها خلاف، فكيف يفتي بقتل ما فيه خلاف قوي، وعدم قتل ما ليس فيه خلاف أصلاً [الردة بين الحد والحرية، ص122].
وفي نظري الشخصي فإن أخص خصائص هذا الكتاب البديع هو "روح النقد الحديثي" في دراسة نصوص المسألة، وآثار الصحابة والتابعين، والحقيقة أنني لا يوجد –بحسب اطلاعي- أي مقالة أو كتاب لدعاة (لبرلة الردة) فيها شيء من هذا النفس الحديثي، بل ولا مُدّه ولا نصيفه، فضلاً عن أن يتجاوزه.
وقد كنت دائم التساؤل: كيف يجرؤ كتّاب (لبرلة الإسلام) على الخوض في الأحكام الشرعية المبنية على نصوص السنة النبوية دون أدنى بحث حديثي للنصوص النبوية والآثار الصحابية؟! بل كيف يقنعون أنفسهم، وكيف يقتنع القارئ لهم، بأحكام شرعية دون دراسة أحاديثها النبوية وآثارها الصحابية؟! لكن إذا رخص العلم في نفس المرء، وانخفضت كلفة البحث العلمي في عقل الباحث، خرجت مثل هذه المظاهر، ولله في خلقه شؤون.
أتمنى لكم قراءة ممتعة لهذا الكتاب البديع، وأتمنى أن أجد مثل هذا البحث الرصين في كل حكم شرعي من الأحكام التي كتب فيها دعاة (لبرلة الإسلام) بشكل غير علمي ولا منهجي ولا موضوعي، وإنما تحت تأثير ظروف ضغط ثقافية خارجية.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المصدر: اكثر وعيا