لا يكادون يفقهون... ولابد من ذي القرنين

سامي بن محمد العمر
1440/02/09 - 2018/10/18 21:08PM

لا يكادون يفقهون... ولابد من ذي القرنين

أما بعد:

فإنهم لا يكادون يفقهون ... ولا بد من ذي القرنين.

زمَرٌ مِن حولنا ... وكذا من أنفسنا ... لا يكادون يفقهون كثيرا من مصالحهم.

أبناءٌ وبنات.. شبابٌ وشابات ... كبارٌ وصغار ... يُقدِمون على ما يضرهم ولا ينفعهم ... بلا فهم لما يحاك لهم، ولا عقلٍ يمنعهم من العدول عن سواء السبيل ...

فَهُم لا يكادون يفقهون ... ولا بد من ذي القرنين.

لا بد من قائمٍ بمنهج ذي القرنين وسيرته وطريقته وعدله وحكمته ... في كل أسرة ومجتمع وحيٍّ ومدرسة ومكان عمل.

لا بد من لابس رداء الحكمة والعقل والدين والقوة والحزم والعزم ... يبني سدَّهُ العظيم ... حماية لنفسه ومَنْ حوله من شر الأشرار، وعاتيات الليل والنهار.

 فإنهم لا يكادون يفقهون ...

في الوقت الذي يُؤَمّل فيه من كل أطياف المجتمع أن يكونوا يدا واحدة، تتماسك لرقي الأمة، وعلوِّ شأنها ... هناك أناسٌ لا يكادون يفقهون..

أطفالٌ.. جرفهم سيل التقنية فدخلوا في دهاليز الألعاب والتحديات حتى الموت والانتحار.

وشباب ... يستغلون وسائل التواصل فيما يجلب الخزي والعار.

وكبار ... يستنزفون العمر فيما نهايته المذلة والصغار.

وفي كهف أمة محمد صلى الله عليه وسلم ... منهاج قويم لتداركِ ما فات، والنهضةِ بما بقي، والوصولِ لأعلى المرات، والسلامةِ من النقائص والمعائب.

فإنه ليس في القرآن من القصص ما جاء لمجرد التاريخ ... وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآداب تجلت في سياق تلك الوقائع ... وكلٌ منه ملتمسٌ غرفا من البحر أو رشفا من الديم.

فهيا بنا نقود أنفسنا وأولادنا وأحبابنا ... بمنهج ذي القرنين.. قائلين لهم:

أولاً: أن لا مفر أبداً من إحاطة الله بنا بصرا وسمعا وعلما وخبرا ... فإنه (الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم) وهو الذي (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) ...

فكم من سعادة يحصلها من استشعر ذلك... وكم من توفيق يناله من أيقن بذلك (كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا).

وثانيا: أن أسباب السعادة والرقي والتقدم متوفرةٌ ومبذولةٌ ... ومن سنن الله أن علق الحوادث بأسبابها ... فكلُّ من أضاع عمره في ملهيات التقنية والألعاب ... فوّت على نفسه من أسباب التقدم بمقدار ذلك. 

ومن فتح الله له من ذلك سببًا فليبادر بالانتفاع منه.. ولْيتّبع ذلك السبب (وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا)(ثم أتبع سببا)(ثم أتبع سببا)! ثلاثُ فرص لدعوة الناس للخير ما كان لذي القرنين أن يفوتها.

وثالثا: لنعلمَ أيها الأبناء.. أن وَقود المرء في هذه الحياة هو ذل عبوديته لله وافتقاره إليه ... فمن تعلق به سَعِد وأفلح، ومن تعلق بغيره خاب وخسر.. فتذكروا الله دائما كما كان ذو القرنين يقول: (ما مكني في ربي) (هذا رحمة من ربي) (ثم يرد على ربه).

ورابعا: أن في التمسك بشرع الله نجاةً الدنيا والآخرة ... وفي الوقوع في مستنقع الشرك والإلحاد والكبائر والموبقات.. ذلَّ الدنيا وعذابَ الآخرة.

وهو درس المجازاة: فلا عقاب إلا على سبب، ولا مكافأة إلا لسبب، وفضل الله واسع (أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا * وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا).

وهو الهدف الواضح الذي تبناه ذو القرنين، والذي لا يليق بعاقل أن يسير في هذه الحياة إلا بأمثاله من الأهداف الدينية والدنيوية.

وخامسا: أن ذا الهمة العالية والرغبة السامية لا يكاد يمنعه مانع من بلوغ مبتغاه،، فإن القوم الذين نالهم شر يأجوج ومأجوج كانوا (لا يكادون يفقهون قولا) ولكن .. عندهم رسالة ومشكلة لا بد من إيصالها.. فأوصلوها حتى حصلوا مرادهم، ونجوا من ابتزاز الأشرار، وكيد الفجار.

وسادسا: أن من أهم دروس الحياة: إشراكَ الأبناء في البناء وتسييرِ أمور الأسرة، وتفويضَ ما يُستطاع من الأعمال إليهم، مع الصبر على أخطائهم والثناء على إحسانهم، وحثهم على العمل وترك الخمول والكسل.

فقد كان بمقدور ذي القرنين أن يبني السدَّ لوحدِهِ ولكنه قال: (أعينوني بقوة).

وسابعا: أن على كل مسؤول أيا كان موقعه ... أن يبني ردمًا من المعارف في عقول من هم تحت يده، ملؤها العلم بالله والمعرفة بشؤون الحياة، مع الحب والإقناع ... فإنهم لما طلبوا منه سداً ... بنى لهم ردما.. وهو نوع من أنواع السدود توضع مواده شئيا فشيئا، بعضها فوق بعض، ويصب عليه ما يتغلل بين المسامات ويغلق جميع الفراغات ... تماما كما تُصَبُّ المعارف في العقول فتبنى شيئا فشيئا ... وذاك غاية الإتقان..

الإتقان الذي لو قام به كل مسؤول ... لسمونا في الدنا عزا وفلاحا.

وفي الحديث: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)([1]).

 

بارك الله لي لكم..

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

ومن دروس خبر ذي القرنين:

ثامنا: أن لا هوادة مع أهل الشر والفساد، فإن ضررهم يحيط بهم ومن حولهم، ولما كان يأجوج ومأجوج مفسدين في الأرض ؛ أرسل الله ذا القرنين لتلك البلاد ليمنع شرهم من ذاك الوقت وإلى قيام الساعة، وما ذاك إلا لأنه سبحانه لا يحب الفساد.

وتاسعا: أن العفة عن الأموال المشبوهة والمحرمة؛ مصدر من مصادر القوة القلبية للفرد المسلم، وتعالٍ على عبودية المال والمِلْك، إلى عبودية مالك الملك.

وذو القرنين حين يتعالى عن أجرة الضعفاء مع حلها له جراء عمله ... يعطي درسا لأصحاب النفوس الضعيفة أمام بريق المادة.. أنّ (ما مكّني في ربي خير).

وعاشرا: أنه لا بد في كل حين من نسبة الفضل لأهله، وشكرِ الله على نعمه، وتعليقِ العباد بخالقهم.. والتبرؤِ من الحول والقوة أمام حول الله وقوته.

فبعد بناء ردم عظيم ... ما اسطاع الأشرار (أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا)؛ يقول بانيه (هذا رحمة من ربي)؛   وله مطلق التصرف فيه... (فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء، وكان وعد ربي حقا).

عباد الله:

تلك عشرة كاملة ... هي محل اختبار لكم في الأخذ بمنهج ذي القرنين، بدءًا بأنفسكم..

فإن النفس ... من الذين لا يكادون يفقهون ..

إن أُهمِلت شبت على الراحة والخمول والكسل والدعة ..

والنفس كالطفل إن تهمله شب على *** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم .

ومن كان قادرا على أخذها بهذا المنهج، فهو على أخذ غيره به أقدر..

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ..  

 

([1])أخرجه أبو يعلى والطبراني، وقد صححه الألباني في الصحيحة نظرا لشواهده.

المشاهدات 1098 | التعليقات 0